شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الأمن.. العقدة الجديدة
علماء النفس، أو الأطباء النفسانيون جعلوا من الإنسان عجينة يقرطسونها قوالب. يضعون على كل قالب من هذه العجينة التي كانت إنساناً، فإذا هم يصنعونها يضعون عليها أسماء شتى يدعون بها العقد: مركب النقص: مركب الكمال - عقدة أوديب أو عقدة الذنب.. إلى آخر ما هو موجود في هذه الكتب.
ثم هم أضافوا إلى تلك العقدة عقدة استجدوها هي: عقدة فيتنام.
لعلّهم معي أضيف عقدة جديدة تضم إلى ما قرروا أو أضافوا، وهي: عقدة الأمن، ولعلّها ليست نقيضة لعقدة الخوف، وإنما هي بصورة التبرقع والتستر على التعامل مع الألفاظ. إن عقدة فيتنام لم تكن بدافع إنساني، وإنما هي عن الحشرجة التي غص بها حلقوم الشعب الأمريكي.. لأنه ألف الانتصار، فغص بالهزيمة.
من هنا.. جرعوه، يزيدون النكسة في هذه الحرب نكسة نفسية وإلا.. فإن عاطفة الإنسان قد تعذب ضميره من سفك الدماء، يرى فيها أنه قد عذب الكثير فانتقم من هذا العذاب صبه على الفيتامين حين وضع نفسه في العذاب النفسي.
إذا كان هذا الواقع، فأين العقدة من قنبلة هيروشيما ونجازاكي؟ لقد أهلكت الإنسان لكن الانتصار أسقط أي شعور بعقدة..
إذن، فعقدة فيتنام ليست ندماً ولا تعذيب نفس، وإنما هي انتكاسة ولدت انتكاسة جديدة هي ما أسميه.. عقدة الأمن.
فالاتحاد السوفيتي.. كل تصرفاته بدوافع هذه العقدة: عقدة الأمن.. يعربد كيف يشاء لأنه في أمن من أن تشن عليه الولايات المتحدة حرباً، فقوة الردع في يديه ليست هي الرادعة له.. يأمن بها فلا يعطي الأمن لغيره - ما عدا الولايات المتحدة فإن قوة الردع التي تمتلكها، وإن كانت رادعة للاتحاد السوفيتي، فإنها رادعة على صورة أقوى للولايات المتحدة نفسها.
فالشعور بالأمن لدى الاتحاد السوفيتي دافع إلى هذه العربدة في العالم.
كما أن الشعور بالأمن لدى الولايات المتحدة هو الدافع لأن تمارس لاعربدة قبل الاتحاد السوفيتي.
أما الآن، فعقدة فيتنام أو انتكاستها.. جاءت عقدة الأمن رديفاً لها.. تردع الولايات المتحدة أن تحذر الاتحاد السوفيتي ليمتنع عن هذه العربدة، فقد أصبحت عقدة الأمن رادعة للولايات المتحدة، فهي لا يهمها إلا أمن نفسها ولديها كل الضمانات التي تجعلها تطمئن إلى هذا الأمن.. كما الاتحاد السوفيتي أيضاً لديه كل الضمانات التي تجعله في حماية هذا الأمن.
والحصيلة من هذا كله: عقدة الخوف تملك الدنيا كلها.. حتى حلفاء الولايات المتحدة بينما عقدة الأمن هي التي أخافت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي أن يتحرك أحدهما ضد الآخر. ولو بالإشارة، أما الصواريخ المنتشرة في أوروبا، والأساطيل المتقابلة في أعالي البحار، فهي لترسيخ الخوف في العالم، كما هي ترسيخ الأمن للدولتين الأعظم.. تتعاملان بالأمن على صورة من الخوف، كل منهما مع الأخرى.. وتتعاملان بالتخويف مع الدنيا كلها. إن القوة التي صنعت الأمن لهما.. لعلّها في عاطفة مجنونة تكون هي صانعة الخوف لهما دون العالم، فالإنسان بعد لم يطق الاستمرار.. يعيش المخافة، وشعب كل من الإمبراطوريتين قد يحطم حاجز الأمن، لأنه يشعر حين ذلك أن الركون إلى الأمن استرخاء أما الخوف فهو العقدة الطبيعية، والقفزة الطبيعية لبناء الأسرة والقبيلة والشعب والأمة فالخوف حافز، والأمن معجز..
شيكاغو
ـ حين زرت الولايات المتحدة أول مرة.. كان في برامج الزيارة أن أرى شيكاغو، فلها سمعة في شرقنا العربي من خلال الأخبار والروايات، كمأوى لكثير من المهاجرين العرب وكبؤرة أجرام، وكان هناك المضيف الذي رتبته الجهة المكلفة بإعداد برنامج الزيارة ومعي المترجم وهو أخ فلسطيني اسمه (فؤاد قرى) ونزلت في الأوتيل، وجاء المضيف يسوق سيارته، وكان رجلاً طويلاً، أبيض، فيه شموخ، أو أنه العزوف عن مخالطتي وتشعب الحديث.. يتكلم فأسمع، وأقول فيسمع.. حتى إذا اشتد الحوار قال: إنكم تزعمون بأنكم ستلقون إسرائيل في البحر. قلت، وقد عرفت فيه العزوف فإن لم أحسبه يهودياً فهو صهيوني: لم يكن هذا زعماً وإنما هو أمنية.. قد لا يكون في طاقتنا اليوم أن نفعل ذلك، ولكن من يخطئنا إذا ما استطعنا ذلك، فلو إن كندا قد ضمت الشاطئ الأيمن من نهر سان لورانس واستحوذت على شلالات (نياجرا) ألا تحاربون كندا وتملأون النهر بالجثث الكندية، أو لو أن المكسيك اختفطفت قطعة من أرض كاليفورنيا.. ألا تلقون بالغزاة في البحر، ولماذا ضربتم هيروشيما ونجازاكي بقنبلة ذرية.. أليست اليابان قد غزت الأسطول فدمرت بعضه في (بيرل هاربر) ولم تحتل أرضاً؟ كل شعب لا يلام إذا دافع عن أرضه وعرضه، ولكني أدع التاريخ يتكلم، فبعد زمن ليس بالقصير سنجدكم في الولايات المتحدة تغرقون اليهود في المحيط لأنهم احتلوا الأرض، فهم يحتلون الآن.. فيكم الإنسان الأرض.. عقله وتفكيره واتجاهاته.. ففي زمن القصير بعد سنجد الشعب الأمريكي يتحرك كما تحرك الإسبان من قبل والألمان بعد. إن النازية لم تظلم اليهود فاليهود أفسدوا ألمانيا ودمروها، وسترون الفساد وسيقول الشعب الأميركي كلمته. وغضب، فلم أعبأ بغضبه، ولكني قصرت مدة الإقامة في شيكاغوا.
ـ صورة:
حرص الاستعمار أن يغري كثيراً من الشباب في الأراضي التي استعمرها.. يغريه، أو حتى يختطفه من آبائه كما اختطفوا الملك فاروق، ليتعلموا في لندن، أو باريس، أو روما. يحسبون أن من يتعلم لديهم من هؤلاء الشبان سيكون أداة طيعة في أيديهم لترسيخ استعمارهم بينما الأمر قد انعكس، فإذا الذين تعلموا في الإمبراطوريات المستعمرة هم الذين خاضوا حركات الاستقلال: نهرو، غاندي، ليبولد سنغور. نيكروما. محمد محمود. عباس فرحات. أحمد بن بيلا وغيرهم كثيرون.
وقد لخص ذلك على صورة أخرى أستاذنا توفيق المدني - المجاهد الجزائري - حين قال: بعثنا بعض الشباب إلى روسيا فرجعوا أميركاناً، وبعثنا آخرين إلى أمريكا فرجعوا روساً.. فذلك حين عرفوا أن روسيا ليست مثلاً أعلى، وإن أميركا ليست مثلاً أعلى، أما المثل الذي يعلو بهم ويعتلون به هو وطنهم.. هي أمتهم.. تقاليدهم.. عقائدهم..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :758  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 846 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي

الكاتب والمحقق والباحث والصحافي المعروف.