شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
هل امرأة ثالثة
تلفنت إلي سيدة.. وبدأت تسألني:
ـ سمعت في حديثك المتلفز ثناءك وإعجابك بالجارية التي قالوا إنها قتلت بالقباقيب فأريد منك أن تعطيني السبب الأصيل الذي سحرك لأن تثني عليها وتعجب بها، كأنك قد أردت أن تسقط الألفاظ المهينة التي يتسافه بها بعض الكاتبين على من يستأهلون الإعجاب كله لا الإهانة؟
ـ فأجبتها أكتب عن (شجرة الدر) الآن:
وقرأ صديق ما ذكرته عن السيدة (جنان الشواربي) فدعاني أن أشرح ما تدعو إليه القيم التي صانتها هذه السيدة، فقلت له:
ـ إذن.. هما امرأتان، صنعتا في التاريخ النصر لمصر وللعرب جميعاً، فهل أجد امرأة ثالثة الآن تعطينا نصراً جديداً.. تملي على الرجال أن لا يختلفوا، كما ملتا على النضال أن يسود بسيف الرجال وصفح الأمهات؟
إن (شجرة الدر) جاءت النقيض لـ (كليوباترا) فإن (كليوباترا) سخرت مصر لدواعي عشقها بينما شجرة الدر أقصت حبها ساعة الكرب. ووهبت كل شيء فيها ومنها لتنتصر مصر. (شجرة الدر) جارية من بين المماليك الذين أكثر منهم الأيوبيون.
فكانت جارية ملك حين حظيت عند سيدها فأعتقها وتزوجها، أو أنها حين ولدت ابنه (خليلاً) أعتقها ابنها: كانت مثل زوجها دمشقية تمصرت، فالبلد الإسلامي حينذاك كان أرضاً واحدة.. أمة واحدة رغم أنف ملوك الطوائف.
كانت ذكية تعرف موطئ قدمها، فأصبحت ذات سلطان في حياة زوجها، ولعلّها كانت.. القوة التي معه.. صانت بها وحدة الجيش، وأعفت المماليك الطامعين إلى السلطان من الخلاف فلم يكونوا في وحدة إلا بها ولها ومعها. فرساناً أعطوا للملك الصالح أن يصمد أمام الحملة السابعة الصليبية، فحين كتب إليه (لويس التاسع) مهدداً بأن يجتاح مصر الشوكة التي هزم بها (صلاح الدين) الصليبيين، فأجابه الملك الصالح يرد التهديد بالتهديد، حتى قال المؤرخون: إنها التي شدت من عزم السلطان أن لا يخضع للتهديد.
ونزل الصليبيون بقيادة (لويس التاسع) من سفنهم الكثيرة، يحتلون شمال الدلتا عن طريق دمياط، يصلون إلى المنصورة.. فإذا (الملك الصالح) بجيشه يكون في ميدان المعركة كل ذلك عمل السلطان. وكانت (شجرة الدر) وراءه، ولكن السلطان فاجأه المرض، فإذا هي أمامه تمسك بزمام السلطان، وتدير أسلوب الحكم.. حتى إذا مات - والصليبيون يستغلون - أخفت موته. تصدر المراسيم بتوقيعه، فقد كان خطها خطه، كأن السلطان الكبير حي لا يعرف موته إلا هي وقليل من الرجال.. مستهم جمرة الحب لمصر أن يكونوا مثلها. واحتدم القتال.. حتى وصل الصليبيون إلى أبواب القصر، ولكن شعلة العزم في وجدان (شجرة الدر) أعطت الـ (ظاهر بيبرس) يقود مماليك البحرية.. يردون حملة الصليبيين إلى الوراء، وإلى وراء الوراء.. ويشتد عزم الجيش كله ومعهم كرديف تلامذة أحمد البدوي كان كل شعب مصر كان في المعركة، فلم يقل المصري العريق في المصرية لـ (شجرة الدر) أنت غير مصرية، ولا (الظاهر بيبرس) أنت عبد شركسي، فالمصري العرق لم ينتصر في تلك اللحظة إلا بالمصري الاستعراق. فتسافه ساقط أن يقول لأحدهم: إن صلاح الدين ليس مصرياً، والمماليك الملوك لم يكونوا مصريين. أفلستم اليوم تنادون (صفية زغلول) العظيمة امرأة العظيم - بـ (أم المصريين) مع أن أباها (مصطفى باشا فهمي) تركي لا يحسن العربية؟
إن هذا التناقض لا يعترف به التاريخ، فـ (شجرة الدر) مصرية.. أعرق من (يوسف خنفس) ومن كل خوان لمصره.
وانتهت المعركة، فقد أسرت (شجرة الدر) الملك الفرنسي (لويس التاسع) سجنته في دار ابن لقمان:
دار ابن لقمان على حالها
والقيد باقٍ والطواشي صبيح
وكثر الأسرى من الصليبيين، فإذا فرنسا كلها تستجدي إطلاق الملك من السر.. تفتديه بالمال الكثير.. وإذا الحروب الصليبية قد دمرت وصلاح الدين نال منها ما نال و (شجرة الدر) نالت كل منال. وأعلنت موت السلطان وأوفت بالعهد لابنه (طوران شاه) ولكنه حين عقها قتله رجالها فباعها الجيش بالملك وضربت العملة باسمها، ونودي على المنابر باسمها.. لكن ذلك لم يدم إلا ثمانين يوماً، لأنها عرفت أن الخلاف يتسعر، والطامعون يتكتلون ضدها، فتزوجت المملوك الملك (عز الدين أيبك) تنازلت له عن السلطان، ولكنه بعد أن استبد على الجيش بسلطانها وأخذ يستبد عليها ثار في وجدانها الحافزان الخوف على المقام والخشية على القيمة.. ما رضيت أن تحرم السلطان عليه وأبت أن ينال من أنوثتها بالزواج عليها، فتآمرت عليه وقتلته.. حتى ثار عليها ابنه علي، بإيعاز أمه، فدخل الجواري عليها في الحمام يتكاثرن.. يقتلها بالقباقب.
أهكذا يكافأ النصر..؟
لكنها النزوات والشهوات تحط من قيم العظيم، يرحم الله شجرة الدر.
ـ أما (جنان الشواربي) فأعجبت بها، ولم أعرف عنها إلا ما ذكره الأستاذ (محمد حسين هيكل) في إحدى مقالاته التي كان يكتبها في (الأهرام) تحت عنوان (بصراحة). لكن الخبر البسيط الذي أعلنه (هيكل) عن هذه السيدة الجليلة.. العربية الأعراق المصرية الاستعراق، وجدتني أهضمه لا مثله.. من الصورة التي كانت عليها وألجأوها إلى أن تكون بعيدة عن خوض معركة.. فحين اشتدت الأزمة. وسألوا عن امرأة تكون بها النجدة، قالت (جنان) أنا المصرية لا أتأخر عن نجدة بلدي ولو سلكت طريق المهلكة ولسان حالها يقول تعبيراً عن الوضع الذي كانت فيه: إن الأفراس التي افترست، والقيمة التي افترشت، والفدادين التي أممت، والألقاب التي ألغيت، والحرمان الذي صب علينا كل ذلك إن أهدروه، فإنه لن يهدر قيمة وطني مصر في عقيدتي وفؤادي وعملي.. ارتفعت أن تخضع للضيم لأنها أرادت أن تسهم بأن لا تضام مصر، فماذا فعلت؟
لقد كانت (بورسعيد) معرّضة للسقوط في يد الإنجليز والفرنسيين في لحظة بعد أخرى يترقب (أنتوني ايدن) خبر سقوطها، فطلب محافظ بورسعيد من قائد المعركة جمال عبد الناصر يرحمه الله أن يمده ببعض المال ليشتد أزر المقاومة ولتصمد بورسعيد، فالتفت جمال عبد الناصر يسأل: من يوصل هذا المال؟ الجميع صمتوا عن الجواب حتى رجال الثورة، وقالت (جنان) أنا فاتمنوها على أربعين ألف جنيه تحملها في حقيبتها. تشق الطريق من القاهرة إلى بورسعيد.. تقف أمام ضابط إنجليزي، يخضعها للتفتيش فتأبى لا بالعصيان المتمرد فذلك لا يفيد.. وإنما بالمارد الذي في وجدانها.. قالت: هذا عيب إن خلق الجنتلمان الإنجليزي لا يسمح بتفتيش حقيبة امرأة. أثارت في الإنجليزي وازع الخجل. وكذلك فعلت مع الضابط الفرنسي، فإذا هي في بورسعيد تسلم المحافظ المال يشتد أزر المقاومة وفي تلك اللحظات وبورسعيد صامدة يقف (أنتوني ايدين) رئيس الوزراء في الإمبراطورية العجوز يعلن سقوط بورسعيد، وإذا هي الكذبة، فبورسعيد لم تسقط، وإنما الذي سقط هو (إيدن) فقد أراد (إيدن) بما صنع في (البريمي) وبالعدوان الثلاثي، والكذبة في بورسعيد أن يمثل دور (وليم بت) فأنبت بلا رجعة، تصدق كلمة (خرشوف): (إن السد البريطاني قطع ذيله في حرب السويس).
لكن بقي سؤال: كيف وصل إلى مسمع (جنان) نداء النجدة، هل كانت ذات صلة بجمال عبد الناصر، أو بأحد رجال الثورة، أو بمحمد حسنين هيكل بالذات؟ لا بد أن بعض ذلك قد كان، فهل عند (محمد حسنين هيكل) شرح يوضح هذه العلاقة أنصافاً للتاريخ أن لديه الكثير عن مواقف صادقة لبعض الذين كانوا في وضعها المضيء، فما خضعوا للانتقام ولا للشماته، وإنما كانوا في هذه المعركة خيراً من بعض الذين ذاعت لهم أسماء أنهم كانوا فيها.
إن (جنان الشواربي) عربية اصيلة.. جدها شيخ قليوب، ففي الأجزاء الأولى من (الجبرتي) يسميه (أبو الشوارب) وفي الأجزاء التالية يسميه (الشواربي) أصله من أرض الحجاز. أعراقه.. في الجبل الأشم (رحقان).. الجناح الأيمن على وادي الصفرة، الذي يسمى الآن (الفقرة) تحت سفحه (المسيجيد) فهي أحمدية، حربية من هذا البلد.. بلدنا: الكيان الكبير. ومفارقة كأنما الشيء يذكر، كنت أستاذاً في دار الأيتام المدينة المنورة، لي مقام في المدرسة فزار المدينة (صلاح الدين بيك الشواربي) وزار دار الأيتام وقد كان عضو مجلس الشيوخ المصري فأخذت بيده إلى فصول المدرسة، وقلت لتلامذة الفصل هذا صلاح الدين بيك الشواربي جاء يزوركم، فوقف تلميذ - لعلّه لم يبلغ الثانية عشرة من عمره واسمه محمد أحمد الأحمدي لا أدري أين هو الآن - فقال باسماً فاخراً (يا أستاذ.. الشواربي منا، أحمدي من ربعنا) فابتسم صلاح الدين وقال: أملي أزور (المسيجيد) أرى بعض آبائك! وهكذا يحن العرق إلى العرق، والدم إلى الدم، فهل يتعلق المصير.. ينتظر امرأة ثالثة؟
والعربي القديم يقول في صداقة الدم للدم، وعداوة الدم إلى الدم:
ولو أنا على حجر ذبحنا
جرى الدميان بالخبر اليقين
ويعني ذلك: إن دم الصديق يجري نحو دم الصديق، ودم العدو يبتعد عن دم العدو.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :962  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 843 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج