علم |
الثقافة تسخّر العواطف |
العلم عقل يحجر على الإنسان أن تتبعثر له عاطفة.. |
والثقافة فؤاد.. يتسع بكل الحب بالمؤثرات الثقافية، كأنما الثقافة رحابة الوجدان.. تتقبل بكل ما تقرأ كل ما يرفضه تاريخ العلم، أو علم التاريخ، فلا ترضى إلا أن تقتنع بكل ما يرضي، أو بكل ما يغضب. |
ولست بهذه المقدمة أضع قانوناً، وإنما أشرح تجربة كانت علي.. أعيش فيها. وكنت بها أحيا حياتي الثقافية. |
فحين ثارت الحرب العامة، ولم تكن لدي روافد ثقافية، فكل ما أنا فيه: العلم البسيط بأني عربي، فلم تكن عاطفتي إلا وهي الراغبة تشتعل حماستها، لأن ينتصر العرب، فانعدام الثقافة حرمني أن أقف على الحياد بين دولة الخلافة: العاصم لجماعة الإسلام، وبين ثورة العرب: المحارب من أجل القومية.. الرافض للتتريك. |
وحين ثارت الحرب العامة الثانية، وأصبحت أنهل من روافد الثقافة.. أعبها عباً، من كل ما يرد إلينا مترجماً عن اللغة الفرنسية، أو الإنجليزية، أو الألمانية.. فقد حفل تاريخ ثقافتنا العربية من بداية الخمسينات منه بما ينشر في ((المقتطف)) و ((الهلال)) و ((المختار)) والصحف اليومية، وبما ترجمه لنا: فتحي زغلول، وعادل زعيتر، وعجاج نويهض، وشكيب أرسلان.. حتى الذين ترجموا لنا روايات الجيب. |
كل ذلك جعل لأي مصدر ثقافي مكانة في الوجدان.. فرغم الاستعمار واستغواله واستغلاله.. تحملنا عواطفنا أن نفرق بين فرنسا في الشام، وفرنسا في باريس، وبين إنجلترا في مصر أو بغداد وما إلى ذلك وبينهما في لندن.. |
هذا التوزيع في مشاعر الوجدان.. بغضاء لهم كمستعمرين، إعجاباً بهم كمصدر للثقافة، هو من صنع الثقافة.. لا أقول إنها بعثرت العواطف، وإنما أقول إنها سخرتها! فرنسا في الشام: صفقت لسلطان الأطرش حين اعتلى سطح الدبابة الفرنسية.. أتغنى بقول أبي ماضي: |
فيا لك أطرشا لما دعينا |
لِثأر كان أسمعنا جميعاً |
|
وحين دكت جيوش هتلر الأرض الفرنسية، وأطفأت النور في باريس بكيت على مدينة النور. أضحك منهزمة في دمشق، وأبكي مهزومة في باريس.. أي تسخير أكثر من هذا؟! |
وما كرهت الألمان، ولكني لم أكن نصيراً لهتلر، فرغم وعد بلفور، وزرع اليهود في فلسطين.. جزعت أيما جزع على أن تهزم بريطانيا، فأي تسخير للعاطفة أكثر من هذا؟!. |
شماتة حين تهزم وهي المستعمرة - بكسر الميم - وإشفاق أن تهزم في أرضها. ذلك صنع الثقافة. |
* * * |
أما العلم، فهو في هذا الحوار بيني وبين شيخ لا أحسبه قرأ كتاباً، أو جريدة كان هتلرياً متعصباً. يصفق على صراخ البريطاني من قنابل هتلر، وحين وصل ((رومل)) إلى العلمين يطل على الإسكندرية ومرسى مطروح، قلت له: |
ـ ((افرح يا سيدي.. بكرة يصل للقاهرة))!. |
ـ فقال وهو يصرخ: ((لا.. لا، مصر فيها الله يحميها))!. |
ـ فقلت له: ألست تريد انتصار هتلر؟!. |
ـ قال: اسمع يا ولد.. أنا أريد انتصار هتلر على بريطانيا التي أذلتنا.. يذيقهم مر العذاب الذي أذاقوه للشعوب.. من أجل فلسطين لا أحزن على تهديم لندن. لعلّ الأمهات البريطانيات يلدن بعد الهزيمة ساسة يحترمون الشعوب ويحرمون أنفسهم أن ينزحوا ثروات الشعوب، وإلا فأي شأن لي بهتلر ينهزم أو ينتصر؟ عواطفي المبعثرة تتوزع كما ذكرت، وعلمه البسيط حصره في عاطفة واحدة.. لا يتبعثر بها عقله، بل إن عقله قيد عاطفته في نطاق قومه وآمال قومه!. |
من هنا.. لا أتنكر للثقافة، فاتساع الوجدان على الدنيا كلها علم بها، ولكني أدعو إلى ضوابط: أولها أن يزاوج القارئ بين الثقافة الموروثة - أعني التراث - والثقافة الوافدة، فثقافة التراث قيد على القاريء يحرمه من رؤية العالم بكل ما فيه، والثقافة الوافدة انطلاقة بالقارئ.. تسخر عواطفه حتى إنها لتبعثرها. فتسخير العاطفة أو بعثرتها هو الباب المفتوح لتقبل كثير من ما يرزح تحته المثقف حتى لا يكون لنفسه إلا بعض الوقت، وحتى يحرم قومه كل الوقت!. |
ولست بهذا أجور على الثقافة، وإن جارت علي، فالأمر في ذلك إلى قول المتنبي: |
يهون علينا أن تصاب جسومنا |
وتسلم أعراض لنا وعقول |
|
التمايز.. لا التمييز بين الجامعات |
قرأت خبراً يقول: لقد صدر الأمر بمساواة جامعة الملك عبد العزيز بجدة بجامعة الرياض.. حين قرأت هذا الخبر لم أهتف له لأني استوحشت منه. فمنطوق الخبر فيه شيء مما يوجب الاحتفال به. وفيه شيء أوجب الوحشة منه. |
فالمفهوم أن جامعة الملك عبد العزيز في وضع هو الأقل من جامعة الرياض فألزم ذلك صدور هذا الأمر. كأنما هو التمييز لجامعة على جامعة. وذلك غير صحيح ولا هو المطلوب فيما يلزم به هذا الكيان الكبير وحدة في الأرض والدولة والقصيدة قبل ذلك والإنسان بكل ذلك. ومن أجل ذلك. ولا أحسبني أقرر غير الواقع والمؤكد.. ذلك أن الدولة - كل الدولة - في هذه المملكة العربية السعودية من أعلى مستوى.. الملك. ولي العهد. مجلس الوزراء. وزير التعليم العالي. ليس عندهم ذرّة من هذا التمييز. |
وكل ما هو مطلوب لهم وللجامعات ومنه. وللشعب كله. هو التمايز والتسابق لا التمييز لا التفريق وكل ما أعرفه أن واقع الجامعة - أيّ جامعة في أرضنا - هو الذي يحدد ما هو مطلوب لها. ما هو مطلوب بها. ما هو مطلوب منها. فقد يكون فرع في جامعة الرياض على مسمى واحد مع فرع بجامعة الملك عبد العزيز.. غير أن التوسع في هذا الفرع في إحدى الجامعتين يعطيه من مطلبه الكثير. فعدد الطلاب وعدد الفصول وقيمة السنوات والظروف الطارئة والآمال المتوقعة في أي جامعة هو امتياز حققته. استأهلت به.. أن تعطي أكثر من جامعة واقعها من هذا كله لا يسأل الدولة أن تعطيه مثلما أعطت الجامعات تلك. فمثلاً. جامعة البترول قد تعطي الكثير كمطلب لما هو واقع من التوسع وما إلى ذلك. |
ولن يكون هذا تمييزاً لها كجامعة سعودية على جامعة الملك فيصل مثلاً. وقد تطلب جامعة الملك فيصل في ناحية أو إلى فرع أكثر مما تطلبه جامعة أخرى. فالتمييز ما كان ولن يكون. والتمايز هو المطلوب.. كل على قدر ما يحتاج. كل بالقدر الذي يمتاز به. |
من هنا أدعو إلى نبذ ورفض أي خبر تشتم منه رائحة التفريق والتمييز. فهل كان افتتاح تحضير البعثات والمعهد العلمي والمدارس الأخرى في الحجاز كان تمييزاً له عن بقية السراة وكل نجد. وكل الخليج؟!. |
لا. ثم لا. فلم يكن ذلك تمييزاً وإنما هي الظروف والواقع. وحين تأسست وزارة المعارف - وقد كان وزيرها سمو ولي العهد الأمير فهد بن عبد العزيز - ثم له وبه نشر التعليم وتأسيس المدارس في كل بقعة سواء على تاريخ السراة أو في مدن وقرى اليمامة والقصيم والإحساء. فحين افتتحت مدرسة في حائل. فتحت مدرسة في محائل. وفتحت مدرسة في ظهران الخليج. ففتحت مدرسة في ظهران الجنوب. وحين فتحت مدرسة في الليث فتحت المدرسة في العقيل وتثليث. وحين فتحت مدرسة في وادي الرمة فتحت مدرسة على وادي الحمض. وحين فتحت مدرسة في مرج فتحت المدرسة في وادي بيش. |
هكذا توحد العلم. وهكذا انتشر بلا تمييز وإنما هو التمايز. ولعلّي في هذا أدعو إلى طرد التربص والاقتناص لخلفيات الأخبار. |
|