عزاء.. وكلام عن النقد |
قال الشاعر صديقك أحمد فتحي يرحمه الله.. وأنت تعرفه.. حريف الحرف العربي.. وصانع الكلمة المترفة ناطقها بزخرف المهندسين وزركشة المترفين الواثقين من قيمة هذه اللغة الشاعرة.. لغة قومك العربانيين.. القوم السراحين. |
قال: إن عندكم الشاعر الوحيد.. وسماك.. وقلت هو الشريف وأنت مهيار؟!. |
فقال: لا تحاول.. فلن أجزع من ذلك.. لا يجزعني أن أكون المولى لسيد من هوازن كما كان مهيار المولى لسيد من هاشم. |
وقلت له: ولن أكون الحاتمي يتعقب سقطات أحمد بن الحسين المتنبي فأنا بينكما رهين المحبسين يعجبه معجز أحمد ويتغنى بذكرى حبيب.. وترنم بعبث الوليد. |
وسكت الفتح أحمد بالموت لا يتكلم عن مجد شاعرنا.. لأتكلم اليوم عن الحزن في قلب شاعرنا. لك العزاء.. ومن بارئك السلوان هو جل جلاله بارئ النسمة.. خالق الموت.. مانح الغفران والسلوان. |
كلمة قلتها لا تقدم ولا تؤخر ولكنها تعبر عن المشاركة في الوجدان.. جهد البشر لا يستطيع أن يرد مالاً يقدر عليه بشر. |
كنت أسير وأمشي بجانب أستاذنا أحمد أمين يرحمه الله وهو يطعم اليتامى في المدينة المنورة فسألته: وماذا صنع صديقك الزيات بعد فقده ((رجاء)) فقال: لقد دمعت له عين وانفطر منه فؤاد.. ورعف قلم وصبر إنسان.. |
ثم التفت إلى اليتامى يتلو هذه الآية بغنته الجميلة.. أخذ يتلوها وعيناه تدمعان وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً
|
وتركته لأجد في هذه الآية برهان طريق وصراط سلوك. وتذكرت حافظ إبراهيم وأنا أكتب لك.. تذكرته يسأل المازني: ما بالنا لا نجيد كما أجاد ابن الرومي في رثاء ابنه؟!. ولا نطيل كما أطال؟! إنا نتحفز لنرثي عظيماً قد جاوز السبعين.. فلا نتجاوز السبعين بيتاً.. في قصيدة نرثيه بها.. وابن الرومي قد جاوز هذا العدد إلى أكثر في رثاء طفل ولده محمد؟ |
وأجابه المازني إجابة مترفة فارهة: إنك ومن إليك - يعني حافظ إبراهيم - ترثون رجلاً قد حددت أعماله في سنين عدة وانقطعت الآمال فيه فلا مجال للشعر والخيال لأن الواقع قد تحدد وانحصر.. أما ابن الرومي فإنه قد انطلق بالحزن على غاليه يرثي آمالاً تتجسد في خيال عن الطفل يكون منه كل العطاء.. كل الأعمال المجيدة.. فمن هنا اتسع لابن الرومي ما ضاق علينا.. خياله طليق وآماله لا حصر لها.. وخيالنا حبيس. |
واقتنع حافظ.. فهل أجد في شاعرنا السرحان ابن الرومي يصوغ آلامه دامعة في حياة لنا تتسع بما نقرأ له؟ |
ليس في هذا عزاء لك.. ولكنه كسب للفكر العربي كله.. يجبر شاعره أن يبكي ليعلم ويعد ويفتن. |
ولك العزاء من أب يعرف قدر الأبناء وحزن الأبناء وحزن الأدباء يا صديقي الباكي!. وشكراناً موفوراً إن صبرت.. وإنك لمن الصابرين بعون الله.. يرحم غاليك ويرحمنا معه. في الموت ما أعيبا وفي أسبابه كل أمر رهن بطي كتابه. |
وعن النقد يتكلم.. أثار الصديق الودود سباعي أحمد عثمان في كلمة لي نشرها في الصفحة الأدبية التي يحررها من جريدة المدينة في عددها الصادر يوم الجمعة الماضي. هذه الكلمة قد نسيتها.. ولا أحمد له أن ذكرني بها وإن كنت أحمد له أن ذكرني بخير. |
كلام إنشائي.. أرسلته ولا أدري متى كأنما فيه غفلة معلم الصبيان حينذاك.. على حد تعبير الجاحظ. |
أما ما أقوله عن النقد فكلام يطابق الواقع الآن.. إن النقد ليس هدهدة ولا دغغة ولا تدليلاً وإنما هو ((الدغدغة بفهر تهرس به رأس الواضع قبل الموضوع)). فالنقد الموضوعي أو النقد الباني مثل أخلاق الكتب لا ينطبق والمثال الواقع أو حتى المطلوب. |
إن النظر إلى ما قيل لا يدفع إلى النقد.. فالقرية لرائحة الشواء أو طريقة ((سنوسكين سنو مقص)) لا يأتيان إلا إذا عرفنا من قال.. فالنقد لمن قال لا إلى ما قيل. |
وليس هذا التفريق من عندي.. وإنما هو قبس من التفريق.. قد جاء على لسان العقاد فهو لا ينظر إلا إلى من قال.. ومن هنا جاءت قسوته حتى بلغت حد الهدم على كل الذين نقدهم. |
وصحيح ذلك.. إنك لا تستطيع أن تنال ما قيل إلا إذا نلت من قال.. ولقد عرفها المازني بعد زمن.. كتب مقالاً بعد عهدي به إلى أكثر من الثمانية والعشرين عاماً التي حدد بها السباعي عثمان عمر ذلك المقال. |
كتب المازني يتبرأ من النقد ويتوب منه لأنه هدم لا بناء فيه.. نشر ذلك في البلاغ.. وحكى قصة ذلك الروماني في الموتور الذي لم يستطع أن يصنع فناً فذهب إلى المكان المقامة فيه أروع التماثيل يمسك فأساً بيده يحطمها.. لا لأنها الأصنام كما حطمها إبراهيم عليه السلام وإنما لأنها عمل بارع لن يستطيع أن يصنع مثله فأحب أن يهدمه.. فعرف إبراهيم المازني من هذه القصة أن النقد هدم فتبرأ منه. |
والنقد بذلك على ما فيه من سوء يمسك عصا المؤدب.. يمنح الواغلين.. لا يستحون من الجهل.. ثم هم يستملحون التصدي ليقال عنهم، هؤلاء يعرفون.. |
أنت حر أن تباهي بجهلك وأن تضاهي العالمين.. لكن القبح أن تجلس بين الرجال تناقض المعرفة والعلم بالجهل الذي تتيه به أو تضاهي. |
والمباهاة والمعاناة من شأنك أن تلبسهما أثواباً تغطيك.. أما إذا ما وقفت تنزع الأثواب عن غيرك فهذا شيء تدري بعد ماذا يصنع بك.. على الأقل يقهقه الساخرون. |
فسوق الكلام |
وفي أكثر من مرة نشرت هذا الأثر من علامات الساعة فشو القلم أي تفشي القلم بكثر الكاتبين والمتكلمين والقوالين فلم يعد القلم كلمة على قرطاس فقد انتشر انتشاراً واسعاً في هذا العصر أكثر من انتشاره في أي عصر مضى. الصحافة جريدة ومجلة والكتاب والإذاعة والتلفاز والندوات والمحاضرات ووكالات الأنباء وخطباء المنابر ومعارك الساسة والإعلان عن السياسة. كل ذلك يجري على لسان القلم، فالقلم هنا تعبير عن الكلمة وما يضرنا ونحن في هذا الكيان الكبير أن تنتشر الكلمة إعراباً عن الوعي إعلاناً عن الثقافة تعليماً وحواراً ينتصر بكل ذلك الحق ويزهق به الباطل فلا خير من فشو الكلمة الآن ولا مناص من أن يأخذ القلم حقه من الانتشار ولكن الضير كل الضير والإرهاق كل الإرهاق والضيم كل الضيم أن تهتز الأقلام مشرعة على القراطيس وأن يصول الكلام على المنابر لا تسمع إلا فسوق الكلمة ولم أقل فسوق القلم ذلك أن القلم لم يكن فاسقاً وإن كتبوا به الفسوق أما الكلمة فإذا ما أصبحت فاسقة تعرت من لباس الفضائل إلى التمرغ بأحوال الرذائل. فلقد انتهى الهجاء بين الشاعر والشاعر بين القبيلة والقبيلة. وتمطت أقلام تصول على المنابر وعلى صفحات القراطيس بالهجاء فسوقاً من الكلام كأنما الحياة قد حرمته الحياة وتعامت عنه العيون وتغطرست عليه الشفتان. فأي معنى لأن أسب الماضي وأي معنى لأن أتبذل في الحاضر كأنني أتراقص مع القلم أمام علبة ليل؟. |
إن السباب بين قلم وقلم قد يكون فيه التشفي ولكن ليس فيه الشفاء فالخصومة التي أمرضت بين اثنين ولهذين الاثنين لن تنال العافية بالسباب بل تزيد وتزيد أمراض التشفي حتى يعز الشفاء وليست الخسارة من سباب على شتم وإنما الخسارة هي أن تشير الأصابع إلى المجتمع تقول: لقد تبطروا فتسافهوا ولقد آمنوا من الخوف فتسابوا وقد رحموا من الجزاء فاستمرأوا وأن يصنعوا الهوان لأنفسهم ولمجتمعهم حتى إنهم يمدون ألسنتهم ساخرين يقولون ها نحن نفعل ذلك بلا رادع، فالذين يتسابون على المنابر لم يجدوا من شعوبهم من قال لهم تحلوا بالوقار وتجنبوا أن تضعوا بينكم حرب الفجار والقارئون أو هم الكاتبون على قراطيس أخرى إما أنهم أصبحوا الشامتين أو أنهم أصبحوا الخائفين. |
إن فسوق الكلام يزرع الأحقاد، فإذا لم نجد التقويم لإنصاف القيم فإن هذا الداء وقد استنصر يتأتى على الشفاء كاتب يطعن في نسب قبيلة دون أن يرجع إلى كتاب في الأنساب وكاتب لو عاب نفسه بما صنع لما عاب غيره. |
قبيح من الإنسان أن ينسى عيوبه |
ويذكر عيباً في أخيه قد اختفى |
ولو كان ذا عقل لما عاب غيره |
وفيه عيوب لو رآها بها اكتفى |
|
اتقوا فسوق الكلام فإن كانت لهم سوق نافعة اليوم فإنها ستكون الكاسدة غداً. |
|