شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الجنرال فرانكو
وأخيراً مات الجنرال الرئيس فرانكو. رجل شغل الدنيا حياً وحين صارعه الموت.. شغل أوروبا في حياته.. شطرها أقساماً ثلاثة.. النازية والفاشية أعني هتلر.. وموسوليني كانوا معه.. والشيوعية أعني ستالين كانت ضده.. وبريطانيا العظمى الإمبراطورية اختارت لنفسها الحياد.. كأنها ليست دولة غير أوروبية كما هو زعمهم حين يحجبون الخير إذا ما ملكوه عن أوروبا بينما هم يدفعون الشر عنها.. اقتنت الثروات فاغتنمت فلم تشرك دولة أوروبية بما حصلت عليه وإن أعانت بالوقوف عن الحركة ضد الدول الصغيرة الأوروبية التي تشاركها الاستعمار بينما هي تحركت.. فخاضت حروباً طاحنة يتسع استعمار ألمانيا أو يتورط استعمار فرنسا..
من هنا كان موقف الحياد كأنها تمارس تنفيذ كلمة شيوخ القبائل ((سلط القوم على القوم فقايدها على أهلها!!..)).
فالرئيس فرانكو كان محور تاريخ ليس لأسبانيا وحدها وإنما في أوروبا وفي المغرب العربي.. والسؤال: كيف كان ذلك؟.
إن فرانكو كان ضابطاً قائداً لجيش إسباني في المغرب حارساً لاستعمار أسبانيا وفي الوقت نفسه يقوم بحراسة الاستعمار كله فكل جندي لأي دولة مستعمرة هو حارس لاستعمارها لا يحرسها لحساب دولته فحسب وإنما هو وبموقف غير مباشر يقف حارساً لاستعمار الآخرين، فرغم التناقض على نزح الخيرات فإنهم في ردع المالكين سواء.. فلو نجح الخطابي عبد الكريم في الريف - يرحمه الله - لعانى الاستعمار الإفرنسي وما إليه تحركاً يسبق التحرك الأخير.
أما محوره - أعني محور الجنرال فرانكو في المغرب العربي المسلم فإنه حين زحف بجيشه.. يسحبه من هناك يدخل به أسبانيا يسقط نظاماً ويقيم نقيضاً فإنه قد أعطى المغرب فرصة التنفس فالتحرك.. فلا أدعي خطأ أن الجنرال فرانكو كان بهذا الزحف من المغرب إلى إسبانيا هو الذي أتاح للشمال الأفريقي بعض الفرص للتحرك.
وللجنرال ديجول أن ينفض يده من الاستعمار.. لا أدعي أن عمل الجنرال فرانكو كان هو السبب لصراع العقيدة والقومية العربية.
فالشيوعية لن يستقيم لها أمر في الأرض العربية ما دام محراب يتلى فيه قرآن ومنبر تعلو عليه كلمة الله أكبر ومئذنة كلها الله أكبر ومسجد يصلي فيه المكبرون..
فاليمين العقائدي عند الجنرال فرانكو والوراثة الأندلسية والمعيشة المغربية كلها أصلت فيه أن يحارب الصهيونية والاعتراف بإسرئيل وأن يكون صديقاً للعرب، فالعراقة في التاريخ لأسبانيا كما هي لأثينا.. كما هي لدلهي جعلت كل هؤلاء.. وبحكم هذه العراقة ألا تعترف بإسرائيل.
من هنا هرع العظام يعزون في وفاته وفي اللحظة نفسها يهنئون النظام العتيد - اليمين - بتتويج الملك جوان..
إن الجنرال فرانكو حبسوه نازياً فاشياً، قد يكون هذا لأنه من أهل اليمين ولكنه كان أسبانياً لم يلعب به هتلر ولا موسوليني بل هو الذي لعب بهم لعبته في الانتصار على الشيوعية وكانت اللعبة الكبرى في موقف الحياد في الحرب العالمية الثانية مما كان له انتصار الحلفاء..
ولعلّ السياسة البريطانية قد عرفت هذا كله فحين سئل أحد دهاقنتهم: ومع من تقف أسبانيا؟ هل تكون عوناً للفاشية والنازية ضد الحلفاء؟
فقال هذا البريطاني: إن أسبانيا ستكون مع الذين لن تتلطخ أيديهم بدماء أبنائها، إنها لن تكون نازية فاشية، ولن تكون شيوعية لتكون بذلك عوناً لبريطانيا، فرمت بريطانيا برجلها وزير خارجيتها اليهودي ((صموئيل هور)) أنزلته من وزارة الخارجية ليعمل سفيراً في إسبانيا موظفاً في وزارة الخارجية فحرس موقف الحياد لأن فرانكو حرص على الاستمرار في موقف الحياد حتى إذا انتصروا رجع ((صموئيل هور)) يحمل لقب لورد بن.. كان بريطانياً ويهودياً فلم تغيره هذه الازدواجية لأن الصهيونية واليهودية في كل مكان كانت مع الحلفاء.
إن أوروبا قد لعنت الجنرال فرانكو حياً وأخذت قبل مرضه بأيام تلاعنه تسأله متى يموت قالوا إن الجنرال لا يريد أن يموت!.. ولكنه مات.. رجل تاريخ.. وعظيماً في أسبانيا.. ومحترماً لدى العرب.. حتى موقفه في الصحراء كان غير عسير ولعلّه هو صاحب التيسير فيه.
وجاء بكم من البدو
حين يصل هذا المقال إلى قرائه في صبيحة يوم السبت - الثاني والعشرين من أغسطس - تنقلب الآهات التي شعر بها العرب تعبيراً عن ألم.. سواء افتعلوه أو انفعلوا به، كانوا في يوم الجمعة قبل السبت قد طلب منهم أن يتذكروا حريق القدس، فسمعوا وقرأوا حتى إذا نفضوا غبار الذكريات رجعوا وكأن المسجد الأقصى لم يحرق! فلقد أصبحت الذكريات المريرة في وجدان طلاب السلامة ملهاة.. وقتاً لقتل الوقت.
إن هذه الذكرى التي لا أصفها ومع حال العرب معها إلا كما قال ((الحارث بن حلزة)): أجمعوا أمرهم عشاء فلما أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء.
من مناد، ولا مجيب، وتصهال خيل، فخلال ذاك رغاء!
إن هذا البيت الثاني قد قلبناه هكذا لأنه التصوير الصحيح للواقع الآن!.
ومن أحرق المسجد الأقصى في يوم 21 أغسطس من عام سجل في التاريخ، ولم يسجل في الذاكرة؟!
الإجابة تقول: إنهم اليهود - بنو إسرائيل - ذلك عملهم المباشر حين أشعلوا النار، ولكن ((أورشليم)): بيت المقدس.. المسجد الأقصى.. القبلة الأولى.. مسرى النبي والخطوة الأولى في معراجه.. قد احترق قبل هذا اليوم، فالنار التي اشتعلت تلتهم المسجد قد تكون ناراً مقدسة، لو أنها أحرقت مع أعمدة المسجد القلوب المسلمة، والوجدان العربي.. فكثير من النيران في كثير من المذاهب عليها سمة القداسة.. كالنار التي آنسها موسى على الطور.
إن الذين أحرقوا المسجد هم الذين مزقوا العالم العربي. العرب أنفسهم مزقوا أنفسهم، فأعطوا للاستعمار أن يمزقهم، وعطاؤهم اليوم للاستقطاب، فاليهود ليسوا وحدهم الذين أشعلوا النار.. الإنجليز أشعلوه بوعد بلفور، وبإسقاط الخلافة، وباستعمار مصر والعراق، وفلسطين. وفرنسا كانت المشعلة للنار حين استعمرت سوريا ولبنان، وحين أرادت أن تسرمد استعمارها للشمال الأفريقي!
كل هؤلاء أحرقوا بيت المقدس..
فهل عمل اليهود عمل حضاري، أم هو همجية بربرية؟!
إن الإجابة تحتاج إلى تفصيل دقيق في فقرات تأتي بعد:
ـ أولاً: إن الاستعمار - كل الاستعمار - لم يكن عملاً حضارياً ولو مارسته دولة عريقة أو حديثة في الحضارة، فغزو الشعوب بربرية كموجة ((اتيلا)) و ((جنكيزخان)) وإن برقعوها بدعوى التمدين.
ـ ثانياً: إن ألمانيا شعب حضاري.. خرج من همجية الجرمن إلى حضارة القرن العشرين، ولكن النازية بالدمار الذي فعلته، لم تكن في كل ما فعلت حضارية.
وإيطاليا: قد تكون أقدم عراقة من ألمانيا في الحضارة التي ورثتها عن إمبراطورية الرومان. ولكن غزو ليبيا والحبشة واحتلال الصومال.. لم يكن كل ذلك عملاً حضارياً، فالفاشية بربرية، وكذلك القول عن الاستعمار الفرنسي، والاستعمار البريطاني، والحماقة اليابانية في حربها ضد الصين، والتحامق السوفياتي ضد العالم الآن.. كل ذلك عمل بربري بوسيلة حضارية.
ـ ثالثاً: من هنا.. كان الادعاء بأن إسرائيل اليهودية تمارس غزواً حضارياً.. تدمر به حضارة الأمة العربية، وفي طليعتها حضارة مصر، كما هي كلمة جمال عبد الناصر - يرحمه الله - إن وصف إسرائيل اليهودية بالحضارة، وإنها تريد فرض حضارة الغرب.. وصف فضفاض يأخذ التاريخ على جمال عبد الناصر، فهو أول من أذاع بالكلمة البلغاء المشهورة على المنبر: إن إسرائيل تمارس غزواً حضارياً لتدمير الحضارة العربية كلها لتحل بعد ذلك حضارة الغرب.. بينما الواقع أن اليهود لا حضارة لهم، لأنهم بدو أصحاب عير، وحتى ما يوصف به الغرب بأنه يتمتع بحضارة، فذلك أيضاً وصف فضفاض، فالغرب الآن يعيش المدنية بكل وسائل العلم، فإذا لم تدمر هذه المدنية في حرب نووية سيكون ما بنته حضارة فيما بعد.
ـ رابعاً: اليهود لا حضارة لهم لأنهم بدو، فهذه الكلمة من الآية الكريمة، وفي سورة يوسف وعلى لسانه وقد آوى إليه أبويه قد وصفت اليهود بأنهم بدو: (وجاء بكم من البدو)، فالقرآن وصفهم بأنهم بدو، والبدوي لم يصنع حضارة. فالعرب في الجاهلية - أعني العدنانيين - لم يصنعوا الحضارة إلا في عهد الإسلام حين زالت غشاوة البداوة، فاستقطبوا العلم وتوحدت الأمة مسلمة صنعت الحضارة الوسيط.
ـ خامساً: وقد جاء بكم من البدو، فكم كان عدد الإسرائيليين، ومن أين جاؤوا؟ حين جاء الرسول يعقوب إسرائيل إلى مصر، ورحب به ابنه الصديق يوسف يستقبله عزيز مصر.. لم يكن مع يعقوب عليه السلام إلا ست وثمانون نسمة.. هو والأسباط، وبعض من كان معه من رجال ونساء وأطفال، فهذا العدد القليل الذي جاء من البدو.. من وادي عربا قرب بئر السبع، أو من الأوجال، أو من بادية ((حران)): (الحميمة) هذا العدد لم يصنع حضارة، مع أنه المرحلة الثانية من بداية بني إسرائيل، فالمرحلة الأولى: هي في عبور الجد الأعلى أبي الأنبياء إبراهيم الخليل يعبر النهر إلى فلسطين.. يهجر بلده ((أورالكلدان)). يحارب الصابئة عبدة الكواكب.. ينشر كلمة التوحيد، فلم يكن إلا وحده - أمة وحده - عاش في مدينة الخليل، بينما مدينة ((أورشليم)) كانت مدينة قائمة وليس فيها قدم لأي إسرائيلي.. لأي عبراني. وعاش إسحق عليه السلام على هامش الأرض في جوار أهلها الكنعانيين والآراميين.. حتى إذا نمت أنسال إسرائيل في مصر تكون من هذه الأنسال شعب قد بلغ يوم عبروا البحر بالمعجزة - أكرم الله بها رسوله النبي موسى عليه السلام - كان عددهم حين ذاك قد بلغ أكثر من ستمائة ألف.. بهذا العبور تكوّن الشعب الإسرائيلي اليهودي، ولعلّي أخالف المؤرخين حين أقول: إن تسميتهم ((بالعبرانيين)) لم تكن عن عبور النهر شرق الجزيرة العربية، وإنما كان هذا الوصف ينطبق كل الانطباق على عبورهم البحر بإثني عشر طريقاً فتحها الله لهم وهم يفرون من فرعون.
ـ سادساً: وعبروا فمكثوا في سيناء يحنون إلى عبادة العجل.. يشقون العصا على طاعة موسى وهارون.. يهلكون في يوم الظلة.. يتيهون أربعين عاماً، فعز عليهم أن يقتنوا البعير، فأصبحوا المجتمع الحماري، وأدنى أنواع البادية يعيشون في مجتمع حماري (كالصلب والغجر) وبكل الأسماء التي تطلق على البهوميين جميعاً، ففلسطين لم تكن أرضهم، وبيت المقدس ((أورشليم)) لم تكن مدينتهم وحين تهيأ لهم سلطان طالوت، ومنح الله القوة لداوود، وتفرق أمر الكنعانيين والآراميين.. استطاعوا أن يحتلوا فلسطين، فكان ملك داوود، وملك سليمان، ملكاً حضارياً بلغ القمة، ولكن.. لم يكن ذلك البناء الحضاري لملك سليمان من صنع أي يهودي، بل كان ذلك منحة الله للنبي الرسول سليمان.. يقيم بناءها من سخرهم الله لسليمان الطير والجن والمردة والفعلة من الآراميين.. حتى بناء الهيكل لم يرفع أي يهودي لبنة فيه، وحتى ضاقوا بسليمان ينتظرون موته لحظة بعد أخرى ليتخلصوا من قيد الطاعة والإيمان.. ليكونوا شعباً فاسداً عابثاً، حتى إذا توفاه الله فأخفى عليهم موته حيناً، فلما علموا هتف الهمجية في أفئدتهم فرحة بموت سليمان.
هكذا اليهود.. كل عملهم في إسرائيل، وطغيانهم على الإنسان والأرض، لم يكن عملاً حضارياً، وإنما همجية بربرية.. نازية فاشية وتترية.
التحايل على التحول
ولا شك، ودون ما ريب، أن سلوك اليهود أول تاريخهم، وفي كل تاريخهم، وحتى الآن لا يكسبون المواقف ولا يمارسون الظلم، ولا يتعاملون بالمال إلا بأسلوب التحايل.. يتظلمون أحياناً حتى لو صنعوا السبب الذي يظلمون من أجله، ويبكون أحياناً، فالدموع من أمضى أسلحهتم يسرقون بها عواطف الناس، كأنما الحبل من الناس يفتلونه فتلاً بالمسكنة، فإذا هم، وقد أخذوا من التحايل كل ما يريدون حتى إذا وصلوا إلى قوة يملكونها، أو قوة خدروها فأعانتهم، كانوا صناع الجبروت والطغيان.
وهكذا صنعوا في فلسطين، فقد اكتسبوا بالتحايل وعد بلفور، والاعتراف بالدولة باسم إسرائيل.. مع أن إسرائيل الجد يعقوب الرسول النبي بريء من طغمة هؤلاء اليهود، بل المتهودين الذين هم ليسوا من نسل يعقوب، وإنما هم خرز أشكناز، تتريون وسلافيون، فإسرائيل بريء منهم.. فإن هؤلاء بدأوا الآن المرحلة الثانية من مراحل التحايل حين شعروا بأن لدى الولايات المتحدة بعض التحول ليس لصالح العرب، وليس هو ضد إسرائيل، وإنما هو لصالح الولايات المتحدة نفسها، فهم يتحايلون الآن على أن لا يتم التحول، ولا يهمهم أن تتردى سياسة الولايات المتحدة بإسقاط الهيبة، ونفور الأصدقاء، وتعطل المصالح، والشك في الدول الغربية من ناحية تذبذب السياسة الأمريكية. يظنون الآن في أول الأمر أن السياسة الأمريكية غير قادرة على صون مصالحها ومصالح الغرب.. ذلك لأن التحايل اليهودي إذا ما استطاع أن يضعف من التحول أو يمنعه، فإن الغرب - كل الغرب - وحتى الولايات المتحدة، يجدون أنفسهم بلا أرض تصادقهم تكون ملجأ للتسهيلات، ولا صديق ينتصر لهم ولو لم يكن معهم، وإنما ليس هو عليهم. كل ذلك يصنعه التحايل الإسرائيلي، كما هو صنيع التحامل الإسرائيلي طغياناً على العرب.
* * *
لقد بدأ هذا التحايل حين شعرت إسرائيل بأن الولايات المتحدة قد ضاقت بطغيانها على لبنان وعلى العراق.. كأنما سياسة الولايات المتحدة تسأل نفسها: أليس من الوفاء لإطار كامب ديفيد - أكسبها السلامة من مصر - أن لا تضع الولايات المتحدة ومصر في الموقف الحرج؟!
لقد أبى مناحيم بيجن أن يذهب إلى الولايات المتحدة قبل أن تعيد إرسال الطائرات التي أوقفتها مؤخراً، وليس ذلك من عجرفة الضعف، وإنما هو من قوة الإضعاف لسياسة الولايات المتحدة.. تسلطت بها اليهودية العالمية الصهيونية داخل المؤسسات الديمقراطية، كأنما الديمقراطية في الولايات المتحدة أصبحت الدكتاتورية على الإدارة الأمريكية!
وأرسلوا الطائرات، وتقدم بيجن بجرعة التحايل.. يتفضل ويمتن على الولايات المتحدة حين يجعل من الأرض التي احتلتها إسرائيل مستودعات لذخيرة الجيش الأمريكي، كأنه لا مكان للتسهيلات، ولا أرض لحلف الأطلسي تكون فيها المستودعات!.
ـ ما هو المهم لهذه المستودعات.. يخزن فيها عتاد الجيش الأمريكي.. لماذا لا يكون العطاء الموافقة على وجود قواعد للجيش الأمريكي لدى إسرائيل؟!
إن العون بالمستودعات كذبة على التاريخ، وتحايل على الإدارة الأمريكية، ليعطي الفرصة لأنصار إسرائيل في الولايات المتحدة أن يشتد ضغطهم على الإدارة الأمريكية، ولقد قلنا من قبل، وبصورة من التحدي: أن بيجن، وكل رئيس وزارة إسرائيلي لن يمنح الولايات المتحدة قاعدة لديه، فذلك حرب ضد الاتحاد السوفياتي كأي قاعدة في حلف الأطلسي، وإسرائيل لن تكون في موقف تنتصر به الولايات المتحدة ويغضب الاتحاد السوفياتي، فهي في فلسطين تطير بجناحين: جناح يتجه من واشنطن إلى تل أبيب، وجناح اتجه من موسكو إلى تل أبيب.
ـ وهل هناك تحول في سياسة الولايات المتحدة؟!
نعم، فإن بعض ما يذاع على لسان الرئيس ريجان، ما كتبته بعض المجلات، إشارة إلى وجود تحول ليس ضد إسرائيل، ولا لصالح العرب، وإنما هو لصالح الولايات المتحدة.
ولا أريد أن أبشر به، ولا أملك التحذير منه، وإنما كل ما أعرضه هو في ما تصنعه إسرائيل من التحايل، وما يذاع عن الولايات المتحدة من التحول.
* * *
ـ وسؤال: من الذي صنع التحول؟!
صنعه العرب الذين يملكون وضع الولايات المتحدة أمام حرمانها من المصالح، فقد قال الرئيس ريجان: إنه يشعر بتحسن العلاقات مع العرب المعتدلين، ويصنع هذا التحول أيضاً: الموقف الضاغط على العرب، والذي أوجب على الغرب أن يضغط به بصورة أو بأخرى على الولايات المتحدة، وقد أبرزت فرنسا هذا الضغط بصورة جلية حين قابل وزير خارجيتها ((ياسر عرفات)) ويصنع هذا التحول أيضاً: الموقف الضاغط، بل والسافر على الولايات المتحدة من سياستها، وهو ما يمارسه الاتحاد السوفياتي.. غرب الهيملايا، وشرق أفريقيا، وأواسطها، وحتى غربها وجنوبها الغربي..
كل هذه العوامل الضاغطة أحسب أن الولايات المتحدة مضطرة إلى أن تنفذ كلمة الرئيس ريجان: (لا ينبغي للولايات المتحدة أن تنحاز إلى إسرائيل، أو أن تنحاز إلى العرب).. هذه الكلمة من ريجان مفتاح التحول إن صحت، بل هي مفتاح جديد للحفاظ على صداقة العرب للولايات المتحدة، فكل ما يريده العرب أن تكون إسرائيل في موقف المطيع للولايات المتحدة، على أساس أن الولايات المتحدة لا تستعصي سياستها أمام إعطاء العرب الحماية من طغيان إسرائيل.. ليس بجيش أمريكي، وإنما بقوة سلاح يشتريه العرب بالمال الوفير.. يعين الولايات المتحدة على اعتدال ميزانها التجاري لتكون قوة الدولار هي القوة الأقوى أكثر من الصواريخ، فإذا ما اعتدلت سياسة الولايات المتحدة، وأنكرت على إسرائيل تدخلها في سياستها.. تفرض عليها أن لا يتبع سلاحاً للعرب، فحين ذاك يمكن لأي عربي أن يصدق هذه الأنباء التي تقول: إن هناك في سياسة الولايات المتحدة تحولاً!
ولا أدري.. هل ينجح التحايل، أم يستمر التحول؟!
ذلك ما يتضح بعد زيارة بيجن لريجان، وبعد أن تتم الزيارات الأخرى، وإن غداً لناظره قريب!!
جروميكو يستقبل شامير
بعض الذين سمعوا هذا الخبر عجبوا كيف يستقبل جروميكو وزير خارجية الاتحاد السوفيتي: شامير وزير خارجية إسرائيل!
واتجه العجب منهم يسألون: هل استأذن ((شامير)) الولايات المتحدة، أو هل عند منظمة التحرير الفلسطينية علم بهذا الاستقبال ونتيجة الاجتماع؟!
وفي يقيني أنه لا معنى لهذا العجب، لأن وزير خارجية الاتحاد السوفياتي بكل القوة التي تملكها إمبراطوريته لا يسأل عن من يرضى، أو من يغضب، فالإمبراطوريات أكبر من أن تستأذن الأصدقاء.
واليهودي ((شامير)) قد اتخذ هذا الموقف في أكثر من تصرف، فهو أيضاً لا يسأل عن رضا الصديق أو غضبه، بل ربما أراد بذلك إغاظة الصديق، وليس ذلك بالأسلوب الذي يتخذه بعض الساسة فيقولون: دعونا نصادق الاتحاد السوفياتي كأسلوب للحرب ضد الولايات المتحدة. أو يقول الآخرون: دعونا نصادق الولايات المتحدة لعلّها تساندنا ضد الاتحاد السوفيتي!
* * *
فـ ((شامير)) ليس كذلك، بل ربما أنه سيقول للولايات المتحدة: ألست الحريصة على ضمان الأمن لإسرائيل، فمن السهل أن تصونيه ضد العرب، وحين قابلت وزير خارجية الاتحاد السوفياتي أردت باسم إسرائيل أن نخفف العبء عنكم، لأن ضمان الأمن من الاتحاد السوفياتي ينبغي أن يكون من الاتحاد السوفياتي نفسه، فمن الصعب أن يمارسوا نوعاً من المواجهة ضد الكرملين لضمان أمننا!
وهذه الحجة قد لا تنطلي على الولايات المتحدة، ولكنها شديدة الرغبة إن كانت، لأنه من الناحية الأخرى سيعطي العرب فرصة التفكير في مدى الصدق في موقف الاتحاد السوفياتي معهم.
وهكذا تتلاحق الأحداث مسرعة اليوم وستكون مذهلة غداً، فالكل يتحرك ويلهث.. لا سؤال عن الأخطاء، ولا إدراك للصواب، ولا معرفة يجد فيها الإنسان نفسه في مكانه يصارع الأحداث. قد يكون في لحظة مع الشرق، وفي لحظة مع الغرب، كأن العلاقة بين الإمبراطوريتين قد اتخذت أسلوب المكايدة.. ذلك تصرف العاجزين، وذلك - مرة أخرى - سلطان الأقوياء!
* * *
إن استقبال جروميكو لشامير ليس فيه الجديد، لأن اعتراف إمبراطورية الكرملين بإسرائيل واقع كالتزام، أما عودة العلاقات أو الإبقاء على قطعها فذلك إعلان.. لعبة تلعب بها سياسة الأقوياء على الضعفاء، فالاعتراف التزام دولي، أما العلاقات فشيء آخر!
إن إمبراطورية الكرملين تعترف بإسرائيل، ولا يؤثر في ذلك قطع العلاقات.
وإمبراطورية الكرملين - مرة أخرى - موصولة العلاقات مع منظمة التحرير الفلسطينية، ولكن دون اعتراف بدولة فلسطينية، أو حتى في تحديد معنى الوطن الفلسطيني!
ولعلّ تأخر إعلان دولة فلسطين قد تأتّى من حسن العلاقات مع الاتحاد السوفيتي!
سوء العلاقات مع الولايات المتحدة لا يعطل إعلان دولة فلسطين، ولكن بالتأكيد: حسن العلاقات مع الاتحاد السوفياتي هو المعطل الأول والأخير.
ولقد قلنا من قبل: إن العالم الشيوعي بقيادة إمبراطورية الكرملين قد جامل العرب بلعبة قطع العلاقات مع إسرائيل، فالعرب قد خسروا بهذا الأسلوب. أما إسرائيل، والعالم الشيوعي فقد ربحا به ومنه، لأنه أسقط الأعباء، فلو كان لكل دولة من دول ((وارسو)) سفير في إسرائيل لكلفهم ذلك نوعاً من المشقة حين يحدث بعض الانشقاق بين أصدقاء هذا العالم الشيوعي من العرب.. حين يتصل تساؤلهم عن مواقف السفراء لدى إسرائيل.
أسقط الاتحاد السوفياتي هذا العبء فارتاح وأراح إسرائيل.
* * *
ولا يفوتني أن أذكر ما تحدث به الرئيس معمر القذافي يطلب من رومانيا حين زارها أن تقطع العلاقة مع إسرائيل تبعاً لحلفائها في العالم الشيوعي، كأن قطع رومانيا للعلاقات في تصور هذا الزعيم العربي ضربة قاصمة لإسرائيل، لكن رومانيا لا تريد أن تخسر ما كسبت، وليس ذلك كسبها وحدها وإنما سوء الظن يعطيني أن أقول: إن رومانيا بما كسبت.. كان ذلك كسباً لحلفائها بصورة أو بأخرى.
حين تقطع رومانيا العلاقات، فإن إسرائيل ستكسب كثيراً، لأن بعض مواقف الرئيس ((شاوشيسكو)) قد أقلقت إسرائيل، حتى إنها نظمته في سلك واحد مع المستشار ((كرايسكي))!!.
بيجن رئيس عصابة إسرائيل
لقد كنت مع ((ياسر عرفات)) ومع كل الذين يحبذون بقاء ((بيجن)) رئيساً لوزراء إسرائيل لأنه قد أوصل الوضع في الشرق الأوسط كله إلى ذروة الشر، ولا أقول إلى حافة الهاوية، فحافة الهاوية مطلب الإمبراطوريتين، أما ذروة الشر فمخافة الإمبراطوريتين.
ثم.. إن ((بيجن)) بكل ما صنع في لبنان، وفي بغداد، وبكل السخرية أو التسخير لإطار ((كامب ديفيد)) قد أخرج أصدقاءه وأخرج أصفياءه.. فالولايات المتحدة قد وضعها في الموقف الحرج.. إذا كان ما نظنه فيها صحيحاً، أو أنه، ولا أدري، قد أوصلها إلى الطريق التي تخرج به.. تعلن أنه لا أصدقاء غير إسرائيل.. تعلن بصراحة - التي اضطرها مناحيم بيجن - أنها مع إسرائيل ولو اقترفت إسرائيل إسقاط معاهدة السلام.. ليقول ناطق أمريكي: إسرائيل قد حجزناها عن مصر، وحجزنا مصر عن إسرائيل، وكلاهما معنا.. بل إن منطق الاستحواذ عليهما أن يكون هناك بعض التفريق بينهما، ليكون كل من إسرائيل ومصر في حاجة إلينا!!
حين تكون النتيجة على هذه الصورة من مناحيم بيجن فهو في اختيار الثائر العربي: أن يبقى رئيساً لحكومة إسرائيل!
أما ((بيريز)) فسيحاول التحذير بأسلوب آخر.. يمد حبل المفاوضات.. يسترخي عضلات الطغيان في لبنان.. يكيل الوعود للحكم الذاتي، كأنه يعطي العرب جرعة مسكنة، ويعطي بيجن فرصة ممكنة و ((بيريز)) يعمل لـ ((بيجن)) كما أن بيجن قد عمل لبيريز، فهذا التساوي في نتيجة الانتخابات هل هو عمل برلماني حر، أم هو توزيع المقاعد لتوزيع التصرفات.. تفعله هذه العصابة اليهودية؟!
إن من الحماقة أن تتعامل الدول، وأخص منها الدول الغربية التي تلقى بعض زعمائها الصفعات من مناحيم بيجن، مع إسرائيل على أنها دولة.. مع أنها عصابة!
إن الرواية لم تتم فصولها.. وقد يبدأ الفصل الثاني بعد الخامس من أغسطس في كامب ديفيد، أو في أي ((كمب)) آخر!
حوار بين مناحيم وشمعون
وأخذتني غفوة.. آمنة من نعاس، أصحو بها.. تستريح نفسي من أكدار اليقظة، فكثيراً ما تكون الإغفاءة صحو وجدان، وكثيراً ما تكون اليقظة كدراً يكرب الإنسان.. فالغفوة جرتني إلى وادي عبقر، فانحدرت أستبطن الوادي السحيق العميق في تاريخ الأمة العربية، كأنني طسم وجديس قد استأثروا بوادي عبقر.. يبقى في تعريف النبوغ والنابغين أثراً من حضارة كانت الأساطير حقيقتها.. حتى إذا ضاع من أعماقها التاريخ نسفوا الحقيقة التي هي واقعهم الآن، فصاغتها الدنيا عليهم أساطير. فكارثة - أيما كارثة - أن يصبح واقع العرب اليوم أسطورة. فطسم وجديس أغرقتها رمال نجد وكوارث الطبيعة، لكن بقاء وادي عبقر هو كالبقاء لأرم ذات العماد التي دفنتها الرمال، فإذا بالقرآن يعطينا صورة عنها: (ارم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد).
تلك الحقيقة.. عميقة في التاريخ، لا تبهرجها الأسطورة، ولا يخفض من شأنها أنها غير منظورة. وصحوت من الغفوة، فإذا بي أرى جماعات من بني الإنسان: شيباً لم يأكلهم الدهر.. قد جمعهم المصير الواحد في قبورهم والتفت إلى ناحية فوجدت ثلاثة من مصاصي الدماء في ركن بعيد.. يجري بينهم هذا الحوار، هم: مناحيم، وشمعون، وناعوم.. يهود وضعت أسماءهم العبرية لأردهم إلى التلمود زارع البغضاء.. قاتل البشر.. ماسخ الإنسان اليهودي. ((البروتوكولات)) ما هي إلا ترجمة عصرية لما دعا إليه التلمود.
* * *
ـ قال مناحيم يخاطب شمعون: أنتم في حزب العمل قدتم إسرائيل بأسلوب الحرب فخضتم حروباً عدة، لم تحرزوا انتصاراً فيها وإن حققت هزائم على العرب، فالنصر ينبغي أن يكون له امتداد، ولكنه قد ضاع منكم ومازال مهدداً بالضياع. إنكم لم تعرفوا أن اليهودي لا ينتصر بالحرب وإنما النصر له هو أن يخضع السلام للحرب. صنعتم لإسرائيل الكثير ولكن هذا الكثير بدأ يلاحقه الزوال. جلوتم عن سيناء مرتين، فالنصر لكم فيها قد ضاع، واحتلالكم للضفة الغربية وغزة مازال مهدداً بأن لا يبقى!
ـ قال شمعون: زرعنا فأكلتم، وماذا زرعتم أنتم يا بيجن لنأكل؟!
ـ قال بيجن: نحن جئنا على أنقاضكم فخلصنا إسرائيل من بقاء مصر دولة محاربة. فالسلام بين إسرائيل ومصر لم يكن فيه أي انتصار لمصر، أو انتصار للعرب، وإنما فيه كل الانتصار لإسرائيل. لقد زرعنا وعد بلفور إسفيناً شطر العرب شطرين: مشرقي ومغربي.. شرق السويس وغرب السويس، ولكننا بالسلام مع مصر عمقنا هذا الانشطار فأصبحت مصر برزخاً لا يتخطاه المغربي إلى المشرقي، ولا المشرقي إلى المغربي.
ـ قال شمعون: وكيف استطعتم ذلك؟!
ـ قال بيجن: الذين ينظرون إلى ظواهر الأمور يحسبونه عطاء أمريكياً أو عطاء سوفيتياً، مع أن الحقيقة التي تشبه الأسطورة أنه عطاء العرب لنا، فأخذناه، وظلم لمصر أن يكون هذا العطاء لنا منها وحدها، بل هو عطاء العرب جميعاً لنا. الخوف منا جعلهم يتفوقون بحجة أن ذلك هو الحرب علينا. قالوا إنهم سيرموننا في البحر فتبرأ جميعهم من ذلك، بينما كثير منهم لازالوا على هذا الرأي.. يعترفون بالقرار 242 وفيه الاعتراف بإسرائيل ويرفضون المقترحات السعودية بحجة أنها تتضمن الاعتراف بإسرائيل!.. أي منطق هذا، لكنه الأسلوب الذي يرضينا وإن تظاهرنا بالغضب منه. إن عدم الاعتراف بإسرائيل يعني أنهم سيرموننا في البحر، فما لهم يتبرأون من ذلك؟!
* * *
ـ قال شمعون: وهل صحيح أنكم ستجلون من بقية سيناء نهائياً؟
ـ قال مناحيم: نعم، ولم لا.. إن احتلال سيناء كلفنا الكثير.. انسحبنا أول مرة بضغط أمريكي وانسحبنا في المرة الثانية حين هزمنا بالخطوات المنتصرة في العبور وبسلاح سوفياتي، فماذا ينفعنا البقاء في سيناء وقد أصبحت مصر بمعاهدة السلام في معزل عن الحرب، وفي نطاق السلام؟ فذلك هو الذي نرضاه. إن سلامة إسرائيل من الحرب مع مصر عطاء لقوة الحرب ضد الآخرين.
ـ قال شمعون: إن أستاذك هتلر قال ((المعاهدات قصاصة من الورق)) فهل تضمن بقاء مصر بعد الجلاء عن سيناء على الوضع الذي يرضيك، وقد أصبحت مصر الآن قوة متطوعة لا تستغني عنها الولايات المتحدة، فلو أعادت مصر لنفسها نظرة جديدة لأمكن لمصر وبعون الرأي العام العالمي، وبيقظة عربية جامعة، وباضطرار أمريكي أن تضع معاهدة السلام قصاصة ورق، فإن بقاء الاحتلال للضفة الغربية وقطاع غزة منطلق لأن تعيد مصر ما تأخذه من تفوق موقفها إذا ما قالت: الجلاء عن الضفة الغربية وقطاع غزة، وإلا فلا سلام؟!
ـ وهنا صرخ ناعوم (جولدمان) فقال: إن عليكم وأنتم حكام إسرائيل أن تعرفوا أن العرب لن يتركوا مصر طعاماً للسلام معكم، فإن خالفوها اليوم فإنهم وبصورة وبأخرى سيعودون إلى التضامن.. سواء بيقظة من الزعماء، وبصرخة حاسمة من الشعوب. فالشعوب لا تقبل الضياع لنفسها، وقد انتهى عهد التقديس للزعماء؟
* * *
ـ قال مناحيم: أنا لا أنكر على حارس الكهنوت اليهودي - ناعوم - نظرته البعيدة، ولكن قسوة الزمن الآن أبعدت هذه الخواطر، فإسرائيل قد أسرعت حين شطرت العرب إلى شطرين.. بعضهم اتجه إلى موسكو، فاضطرت واشنطن أن تتجه إلى البعض الآخر. هذا ما يجعل الوفاق بين العرب بعيداً!
ـ قال ناعوم: حين اتجهت الولايات المتحدة إلى بعض العرب، فإن ذلك سيقلل من فرص اتجاهها لإسرائيل، وحين ذلك تصبح إسرائيل موقف المستجدي بدون استعلاء، فقد سئم الشعب الأمريكي هذا الاستعلاء.
ـ واستطرد ناعوم يقول: إنكم لم تعرفوا قوة اليهود بعد، فاليهودي ليس حامل سلاح وإنما هو صاحب فكر مدمر، فكل ما صنع اليهود في التاريخ لم يكن بقوة الذراع، وإنما بالفكر المدمر. إن العالم يتهم اليهود بأنهم يملكون المال، وهذا مبالغ فيه، فامتلاك المال قد يكون فيه الخطر على صاحبه، إن اليهود يملكون السيطرة على المال.. سواء ملكوا الكثير أو القليل، فكل سيطرتهم على ما يملك الآخرون. كل الأساليب الاقتصادية، والتجارية والبنكية.. حتى أسعار البترول لا يملكها اليهود، وإنما هم يفرضون سلطانهم عليها.. يحركون الرخاء بها، والحرب والاستغلال وخفض العملات وارتفاع الأسهم وانخفاضها. قوة اليهود في السيطرة على المال كله.
* * *
وصحا شيخ كبير.. حبر من أحبار اليهود اسمه ((عبد الله بن سلام)) صاحب رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام، فقال: أنتم اليهود أهل بهتان.. قلتها لرسول الله، وأنتم اليوم في عرض الهلكة.. أهلكتم الكثير من بني الإنسان وتمارسون الهلاك للعرب، ولكن هلاككم، وفي أرض فلسطين، سيكون بيد العرب إن آجلاً أو عاجلاً.. ذلك حين ينقطع العون من هذه الحبال التي تمتد إليكم.. ابتداء من وعد بلفور إلى الجسر الجوي، وإلى أن يقول الشعب الأمريكي: كفى تخريفاً بالالتزام الخلقي، فالاتحاد السوفياتي قد أصبح الخطر على الشرق الأوسط أكثر من الخطر على غرب أوروبا.
إن سلاح حلف الأطلسي ينبغي أن يكون ضد سلاح وارسو في غرب آسيا وشرق أفريقيا، وقد بدأت الولايات المتحدة تصحو من التخدير اليهودي!.
ـ قال شمعون نحن شعب يهودي يلبس شعوبية أمريكية.. نجد الوسيلة التي نخدر بها الولايات المتحدة حينما نقول للاتحاد السوفياتي: تعالَ ننتصر بك لتنتصر في بولندا، ولئلا تهزم في الأفغان، وليكون كاسترو في غرب آسيا وشرق أفريقيا في قوة كاسترو في كوبا.
ـ قال بيجن: الدموع سلاحنا الأخير، والشموع زغاريدنا الآتية، فلا يأس، فإن الخوف الذي يحكم العرب الآن قد جعلهم لا يصدقون الولايات المتحدة!
إسرائيل.. مجمع الأحقاد الأربعة!!
إسرائيل اليوم مجمع الأحقاد الأربعة، فقه نستقرئه من التاريخ.. تاريخ اليهود مع الإنسان كل الإنسان.. ومع العرب بصفة خاصة..
أريد أن أستنفر قارئاً أشدد به أزري إذا ما سمعني بتصويب ما رأيت.. لو أعرف به قدري إذا ما أعانني على تخطئتي فيما أردت.. فالموضوع سهل، لأن الفكرة أحضرت نفسها.. والموضوع صعب.. إذا ما غابت الفكرة عن قارئ يقرأ وهو واقف لا يستريح ليستكنه.. ولا يريح بطرحه ما يستكين.. أعني بالطرح الترك كما هو أصل الاستعمال.. أبتعد عن الطرح والعرض.. كما هو المستعمل الآن اقتباساً من لغة أجنبية.
إن بني إسرائيل.. القبيل اليوم كانوا يتمتعون قبل الإسلام بحقد واحد.. على العرب. أولاً وعلى الأمم ثانياً.
هو حقد قبلي.. حقد على الميراث.. مفصل في التلمود.. وإن اتضح بعد في البروتوكولات.. كان هذا الحقد على الميراث مقدمة لنجاح بني إسرائيل ضد قبيلتين من العرب. على يد الرسول النبي موسى في المرحلة الأولى.. وبسهم النبي الرسول.. سهم داوود في المرحلة الثانية.
برسالة موسى وملك داوود وسليمان أضيف حقد ثانٍ.. فعله الدين. في يدهم التوراة. فانتصروا على الفراعنة بالانفلات منهم.. وانتصروا على الكنعانيين بالحرب.
هم يزعمون أنهم ورثة إبراهيم.. وقد تحقق لهم بعض ذلك.. برسالة موسى والأنبياء بعده حتى ملك داوود وسليمان.. ولم يكن انتصارهم على الفراعنة والكنعانيين شيئاً أوجد الحقد في العرب الآخرين.. استقبلوه إيواء وحماية.. حتى جاء الإسلام.. يمجد انتصارهم على الفراعنة والكنعانيين.. لأنه ليس انتصار الحقد في نظر الإسلام.. ولأن الإسلام لا يراها معركة على الميراث.. لأنه وهذه عقيدته يرى ذلك نصراً لعقيدة التوحيد.. نصراً لرسالة الأنبياء.. ولأن الإسلام هو المبدأ الصالح.. ورجاله هم الصالحون فليس في حسابه عراك مع اليهود على الميراث.. فالأرض في مبادئ الإسلام.. يرثها عباد الله الصالحون.
وقد تحقق هذا على سرمدية القرون.. تحقق به أن العرب وبإسلامهم هم ورثة أبيهم إبراهيم.. لا بني إسرائيل. فبنو إسرائيل فسقوا عن الدين وحرقوا التوراة. وانحرفوا بالتلمود. يكبر الحقدان معهما، حقد عنصري.. وحقد ديني.
كان هذان الحقدان هما الأساس في سلوك اليهود مع العرب في كل الأحقاب، وكانا أيضاً هما الباعث لنقمة كالوا لهم العذاب في كل مراحل العذاب الذي ذاقوه.. حتى إن هذين الحقدين يستمرئان التعذيب كعامل يتصاعدان به.
وجاء حقد ثالث.. بهذا الدم المغولي الخزري.. الوالد الطبيعي لكل الإسرائيليين أصحاب الدولة الآن.
فالمغولية لا تنكر أحقادها وما فعلت بالعرب.. وما كادت لهذا الإسلام من عهد بابك الحزمي الخزري إلى عهد ((هولاكو)) و ((جنكيزخان)) و((تيمورلانك)) والبقية التي تمت حقدها بالشعوبية في كثير من ملوك الطوائف ومن جاء بعدهم إلى آخر الحاقدين.
هذا الحقد المغولي هو مفتاح العلاقة مع السلافييت. إن كانت الجفوة لسبب أو لآخر فستكون الصفاء للسبب الأصيل دم مغولي لعلّه أكثر الدماء انتشاراً في السلافيين.
الجفوة ستار العلاقة مع السلافيين.. ففي السلافيين حقد مغولي على الغرب.. ولكن الحقد المغولي.. هذا الثالوث.. لكي يعطي ثماره لإسرائيل.. ولأنه بعيد عن المغولية الأم ((الصين)) فإنه في حاجة إلى حقد رابع لا يصلح أن يكون سلافياً لأن السلافية لا تملك الطريق لجني الثمار منه.. فما هو الحقد الرابع؟!
إنه الحقد الآري.. فالحرب الصليبية أساسها آري.. والاستعمار.. وكل الأفاعيل التي صبت الشر على العرب ما جاءت إلا عن طريق هذا الحقد الرابع.
إن الحقد الآري.. قد مارس ألواناً شتى في صب العذاب على الأرض الوسط بين الأرضين.. أرض العرب.. قد مارس القتل للجنس الوسط بين الأجناس.. جنس العرب، قد مارس الفتنة يحدثها في الدين الوسط.. دين العرب.. هذا الإسلام.
كل هذا عرفه الحقد المغولي في إسرائيل الخزرية فاستنام للآرية يتوج أحقاده الثلاثة بهذا الحقد الرابع حقد الآريين.
أحقاد أربعة تجمعت فاستكملت في إسرائيل. لتكون عادية مستعدية طاغية معانة.. يبكون في مجلس الأمن على قتلى إسرائيل.. على ضفة القناة لأن حقد الآرية.. بحقد المغولية، بحقد اليهودية، يضحك بهذه الدماء التي أريقت وتراق الآلاف من دماء العرب.
حقد لم نتعلم بعد منه.. كيف نزرع الحقد لنحصد النصر.. لنجني الثمار.. لن يكون ذلك إلا أن نضرب فوق الأعناق، نقطع منهم كل بنان.
هذه فكرة في عرض سريع.. فهل أجدني في يوم.. أمزق اللثام عنها في تفصيل هذه الأحقاد، لعلّي بذلك أزرع حقداً كهذا الحقد الذي يزرع كل يوم في أفئدة الفدائيين؟.
.. ما فصلناه من الأحقاد الأربعة في يهود.. في إسرائيل اليوم أن نكيل الصفعة له بهذه السماحة في الإسلام.. سماحة ليست من عمل البشر.. ولكنها عهد النبي محمد الإنسان، أوحي إليه أن يضع كل الأحقاد تحت قدمه.. كأنما الإنسان وقد أرهقه الحقد.. جاءه الإسلام بالتسامح حتى مع الحاقدين اليهود، وبالسلام لكل إنسان.
هذا نص نقتطفه من عهد النبي للأنصار والمهاجرين ولليهود.. نظام به السلامة للجميع، وأعطى السماحة للجميع.
قال ابن هشام.. 350: ((وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوقع إلا نفسه وأهل بيته، وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني مساعدة مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف، وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوقع إلا نفسه وأهل بيته، وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم، وإن لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف، وإن البر دون الإثم، وإن موالي ثعلبة كأنفسهم، وإن بطانة يهود كأنفسهم وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلَّى الله عليه وسلم، وإنه لا ينحصر على ثأر جرح، وإنه من فتك فبنفسه (فتك) وأهل بيته، إلا من ظلم، وإن الله على أبر هذا، وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وإنه لم يأتم امرئ بحليفه، وإن النصر للمظلوم، وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.. وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وأن الجار كالنفس غير مضار ولا إثم، وإنه لا تجار حرموا إلا بإذن أهلها، وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو استجار يخاف فساد فإن مرده إلى الله عزّ وجلّ، وإلى محمد رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره، وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها، وأن بينهم النصر على من دهم يثرب وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم وأن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم، على مثل ما لأهل الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة)).
أين كان الصواب؟!
لا يبعثر الفكر العربي إلا كاتب أو خطيب يفترض رأياً من عنده أو يفترض رأياً من الأبعدين عن عقائدنا وأرضنا فيسعى كل منهما إلى تأكيدها ما يزعم يفرضه فرضاً علينا في الدندنة التي يستمرئ ذكرها كل يوم. أو كل أسبوع.. حتى أصبح ذلك الوهم له مكان الصدارة ليس في تفكيرنا فحسب وإنما في تخطيط التنفيذ وفي بناء العلاقات.. وحتى في عقد المعاهدات.. وإلى أكثر من حتى، جازف المعتدون لذلك لا بمستقبل الأمة كلها كما هو واقع الآن.
هذه المقدمة لا بد لها من شرح.. مثلاً قامت العلاقات بين الاتحاد السوفياتي وبين بعض الأمة العربية على أساس خاطئ كنا نحسبه صواباً.. أو بعبارة أدق كانوا هم يحسبونه الصواب، ولا أعني بذلك العلاقة المذهبية، فتلك تعلق بعض الأفراد لم يستطيعوا أن ينجحوا في فرض زعامة. بل إن العقيدة والتقاليد وكل التراث والتراب هي التي تطرد زعامة مثل ذلك. ولن يبقى على هذه الأرض من وجدان هذه الأمة إلا ما هو فيها ومنها ولها.
أما ما أريده فهو الحجة أو السبب التي صدقوا أنها هي تنظم العلاقات مع الاتحاد السوفيتي. فقد أشاعوا فينا أن الاتحاد السوفياتي ما سمح ولن يسمح أن تجاوزه على حدوده القريبة دولة، فقد حال من قبل أيام الإمبراطورية القيصرية أن تكون ألمانيا أو بريطانيا أو فرنسا قريبة من حدوده، فقد وقف دون أن تذوب الدولة العثمانية حينما أراد في أكثر من مرة أن يذيبها في حجره فلم يتمكن من ذلك لأن بسمارك ودزرائيلي وفي مؤتمر برلين بالذات قد أرجع الإمبراطورة كاترينا عن حدود الدولة العثمانية. إنه يحول دون تمكنهم، وقد حالا دون تمكنه.. حتى حينما غلبت روسيا الإمبراطورية على أمرها فرضخت لمعاهدة (سايكس بيكو) التي ضمت الأرض العربية جاءت النزعة الروسية على يد الشيوعية تفضح هذه المعاهدة يعلمها العرب، فأصبحت كأنها الأساس في معاركهم ضد ختل الخلفاء واستغلال الاستعمال هكذا كان حينما كانت الحدود الجغرافية هي السبب في الخصومات والحكم في المعارك.
أما الآن فمن الخطأ الذي وقعنا فيه مع الأسف بقاؤنا على هذا التصور، فقد أشاعوا فينا أن الاتحاد السوفيتي سيعين العرب - كل العون - لئلا تكون الولايات المتحدة قريبة من حدوده ونسينا أن الاتحاد السوفياتي لم يحرك ساكناً ضد تركيا وهي دولة من دول حلف الأطلسي مع أنها الأقرب لحدوده..
وإني لأجد الجرأة في نفسي لأقول. إن الاتحاد السوفيتي في استراتيجيته التي لم تكن جديدة بعد الوفاق وإنما هي قبلة من زمن بعيد.. بل لعلّها الأساس في دعم الوفاق بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، ففي يقيني أن الاتحاد السوفياتي يريد لحمايته من الصين ولتثبيت أقدامه في أكثر من بلد - يريد ويعمل لتحقيق ما يريد أن تكون الولايات المتحدة هي القريبة من حدوده.. تحمي واجهته فهو لا يخشاها كقوة لأن المواجهة بينهما مستحيلة.. وإنما هو يرجوها كقوة رادعة عنه هجمات الصين.. فلهذه الاستراتيجية تعمد الاتحاد السوفياتي أن يثير العرب ضد الولايات المتحدة تحت ستار الحرب مع إسرائيل.. بينما هو المعين لإسرائيل والناكث بالوعود لا يعطي أسلحة متطورة.
هذه سياسته.. تكون الولايات المتحدة قريبة من حدوده سواء بالدول التي هي في حلف الأطلسي أو في الحلف المركزي.. أو مع إسرائيل.
ولا أدري هل الذين يدرسون المتغيرات اليوم قد تطرقوا إلى هذا الفهم.. أم أني من دعا في السياسة وفي استقراء التاريخ.. لا يقوم برهان عندي دعا صواب ما ذكرت.. فلئن ألبسوني هذا الظن منهم لازالوا يلبسون على أنفسهم، وهناك ظاهرة، فقد سمعنا أن أكاديمية البحث الروسية قد أكدت أن العالم العربي ليس لديه مزاج يقبل الشيوعية.. كأنهم قد نفضوا أيديهم من الدعاية لمذهبهم.
هذا الخبر أهو الجديد على الاتحاد السوفياتي.. أم أنه معروف من زمن بعيد..؟
في أغلب الظن أنهم يعرفونه من قبل.. وما أذاعوه إلا وفاقاً في أيام الوفاق يطمئنون الطرف الثاني في الوفاق من ناحية.. ويثيرون بعض الأفراد من العرب على إخوانهم.. كل هذا من المتغيرات تسقط القيمة الجغرافية.. وتبقى المنفعة الاستراتيجية.
والأمر في هذا كله لا يحتاج إلى برهان. فالبراهين كثيرة فإن وجود الولايات المتحدة في غرب أوروبا هو الضمان ومحدد الاستمرار لوجود الاتحاد السوفيتي في شرق أوروبا.. وإن وجود الاتحاد السوفياتي في البحر الأبيض ضمان لاستمرار وجود الأسطول السادس في البحر الأبيض.. وبالعكس أيضاً.. وإن وجود الولايات المتحدة في الشرق الأقصى في الفلبين واليابان بالذات، ضمان لوجود الاتحاد السوفيتي في منغوليا. ليس على حدود الصين فحسب، وإنما في أرض صينية.. وإن وجود الاتحاد السوفياتي في بقاع من آسيا غرب الصين هو ضمان لوجود الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وفي الشرق الأدنى.
إن وجودهما متلازم فأسقطوا من حسابكم الاستراتيجية الجغرافية.. وضعوا في حساب المتغيرات الاستراتيجية الإمبراطورية.. هما قوتان لا تخاف إحداهما الأخرى، وإنما تحمي إحداهما الأخرى.
خسرت المذاهب.. وكسبت الإمبراطوريات
في الواقع الملموس أن اليسار المتطرف.. أو بالصراحة الواضحة.. الشيوعية العالمية.. لم يكسبا شيئاً.. خسرا معركة الشيوع والذيوع في الشرق الأدنى. وفي الشرق الأوسط.. ولا أجازف حينما أقول: أنها خسرت نفسها في الشرق الأقصى ما عدا الصين.
لماذا؟
إن ذلك لم يكن عن غفلة.. وإنما هو العمد من هؤلاء الساسة كسبوا الإمبراطورية بهذا الخسران لمذاهبهم.
كيف؟
حينما تأزمت الحالة في كوريا.. غابت روسيا عن مجلس الأمن فكسب القرار الأمريكي معونة الدول التي اشتركت في حرب كوريا فوقعت الحرب الكورية ميدانها كوريا.. وشعرها الغلاف المذهبي.. والفائدة المكتسبة تمكن الإمبراطوريات الثلاث من الوقوف قوة تجاه الأخرى تنصب حبلها.. تكسب تجربة السلاح..
هذا الكسب ما كانت تأخذه الرأسمالية الملعب ولا الشيوعية المذهب.. وإنما الذي أخذته إمبراطورية كل منها.
فهل غاب الروس أم أنهم انخذلوا لأنهم خافوا؟
لا أحسب الخذلان كان في حسابهم ولا أظن الخوف كان الحاجز لهم.. وإنما هو أعطاهم الفرصة الخصم والمناقض أن يخوض حرباً يقفون وراءه ليربحوا موقفاً جديداً يجعل خصومهم يعرفون ما لديهم من قوة دون أن يجازفوا بسمعة في معركة خاسرة.. ويرون أن يدخلوا حرباً مكشوفة لا يعرفون مصيرها.. فالاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة.. ومن جانب آخر.. الصين الشيوعية.. كل منها خاض هذه الحرب الكورية لحساب الإمبراطورية وليس لحساب المذهب.
وحرب فيتنام هي على الصورة نفسها.. وإن اختلفت الأساليب.. كسبت إمبراطورية البيت الأبيض تجربة السلاح.. وعمل المصانع وإبقاء الشعب - كل الشعب - في وضع الجنود لئلا يناموا بعد الحرب العالمية الثانية.
وكسب الاتحاد السوفياتي تجربة السلاح وإشعال العمل في المصانع وموقف الندية للولايات المتحدة..
فالمذهب ليس محسوباً حسابه وإنما قيمة الإمبراطورية دفعوا لها الثمن من دم الشعوب التي شنت عليها الحرب.
ومشكلة الشرق الأوسط هي أيضاً على الصورة نفسها.. عمل الاتحاد السوفياتي على أن تقع.. ولا يهمه في ذلك أن تنتشر الشيوعية في المنطقة. وإنما كل همه أن يتسع نفوذ الإمبراطورية في المنطقة.. أسطول روسي يشارك الأسطول الأمريكي.. وأساطيل الأطلسي في البحر المتوسط.. تجارب جديدة لمفعول السلاح.. موقف النديد للولايات المتحدة.. فكلما كان الأمريكان أن روسيا وراء فريق يحارب في هذا الشرق كان من حقها على نفسها.. أو من واجبها.. أن تنصب حبالها بكل القوة لتنصر العدو المحارب للعرب.. حاجزه للنفوذ الروسي أن يستغول أكثر..
إن الاتحاد السوفيتي ليس من الغفلة أن يجزع من خسران المذاهب لأن من الذكاء لديهم ما أكسبهم نفوذ الإمبراطورية.. إمبراطورية الكرملين وإن بكين قد بلغت من الذكاء ألا تتورط في فيتنام كما تورط في كوريا فيعطيها ذلك لومة الإمبراطورية المذهب ضاع والإمبراطورية كسبت ولا يهمنا في هذه المنطقة أن تكسب الإمبراطورية.. أن تخسر المذهب وإنما المهم رغم كل ذلك.. هو أن حزب اليسار المتطرف في العالم العربي أنهم الخاسرون من تعلقهم بهذا المذهب فالمنطقة العربية بأسسها وتقاليدها طردت هذا المذهب والقومية بحماستها وأصالتها ولا تخضع لمذهب يحارب القوميات كما يحارب الدين.
إن اليسار المتطرف قد خسر نفسه وليس هذا بمهم وإنما هو جلب كثيراً من الخسران على المنطقة.. جعل إمبراطورية البيت الأبيض تتذرع بوجود تخشاه على مصالحها.. وجعل إمبراطورية الكرملين تستغل وجوده لتزيد نفوذها.. وجعل إسرائيل تعمل ما تريد على يد هذا اليسار المتطرف في العالم العربي كان يعمل لها العملين فعله هو وردود الفعل منها..
لقد قلنا من قبل إن حرب المبادئ قد انتهت بين الإمبراطوريات وإنما هي المصالحة تقوم الآن لمصالح الإمبراطوريات. فليس هو استجداء أمريكياً الذهاب إلى موسكو. وليس هو استعطافاً أمريكياً زيارة بكين وإنما هو في الوفاق بعامل الندادة للتعايش السلمي بين الإمبراطوريات.. والاستغوال الإمبراطوري على كل الشعوب.
وليست هذه الكلمة تنديداً بالإمبراطوريات وإنما هي تذكير لهذا الإنسان المتطرف بأنه جالب الخسران لكل المنطقة.. وواهب الكسب للإمبراطوريات.
* * *
التاريخ يعيد نفسه
حين تتشابه الأحداث، فيعطي حاضرها صورة من ماضيها.. يقول المؤرخ: إن التاريخ يعيد نفسه. ولكن هذه الإعادة لا تعني أن تكون الصورة لأي حدث حاضر طبق الأصل لهذا المثل قوة الاستمرار، فالتاريخ زمان وإنسان. فالزمان يبتسم لأي حدث.. سواء كان مجداً وحضارة صنعها الإنسان، أو كان الحدث كارثة أو مأساة صنعها الإنسان، أو صنعت عليه. هو بالحروب والمذاهب وصراع المبادئ يصنع تاريخاً، وهو بالكوارث الطبيعية صنع عليه التاريخ، أو صنع به!
إن الزمان ابتسم ابتسامة عريضة حين اكتشف الإنسان النار، أو حين صنع إدريس أول إبرة خاط بها ثوبه، ولكنه ضحك حين قتل قابيل هابيل، فمن طبيعة الزمان أنه ليس عابساً يضحك لأنه شمس في النهار وقمر في الليل.. فالوضوح طبيعته، أما الإنسان فأكثر التصاقاً بالعبوس حتى البكاء، ومن الغريب أنه يبكي حتى في الفرح.. إذا ما صفق لبناء حضري تدمع عين صانعه ويبكي الآخرون حسداً أو تأكيداً أو غيرة من صانع هذا البناء الحضاري، فالإنسان من التجاوز القول بأنه صانع الكارثة، وإن تقدم خطوات نحوها.. فالكارثة مصنوعة له، قبل أن تكون مصنوعة به.
* * *
إن الزمان أعطانا صورتين من تشابه التاريخ، فالصورة الأولى في حكاية عن حدث قرأناها للأمير شكيب أرسلان أيام كارثة التتار على بغداد، فبعد أن دمر التتار الحضارة والكتاب في العراق، يقول الأمير شكيب أرسلان: إن الرعب قد أخذ الأفئدة من عشرين رجلاً عربياً انحشروا في قاعة ترتعد فرائصهم خوفاً من القتل، فبينما هم على هذه الحال دخل عليهم تتري لا يحمل البلطة، وليس معه أي سلاح.. مجرداً من أي قوة في يده، لكنه لم يتجرد من قوة الرعب في أفئدة هؤلاء العشرين.. طوله يبلغ أشباراً، ولو وضعته أمام جرة فول لكان أشبه ما يكون بها عرضاً وطولاً، دخل القاعة على هؤلاء العشرين. قال: أنتم هنا. سأذهب أُحضر البلطة أقتلكم جميعاً، وتركوه يذهب ليعود يقتلهم، مع أن واحداً منهم أو اثنين لو قاما إليه لأمسكا به وقتلاه وبعد أن ذهب زال الرعب عن واحد، فقال: نحن عشرون نصبر حتى يأتينا ليقتلنا؟ فلنقتل ونحن نقاتله، أما أن ننتظر القتل كالدجاج.. دعوني أكمن وراء الباب أتلقفه وأمسك به ولتقوموا كرجل واحد تقتلونه بالبلطة التي يحملها. كانت هذه الكلمة من أحدهم قد أزالت غشاوة الرعب وحتى إذا حضر هذا التتري المتملظ على الدم أمسكوا به وقتلوه ونجوا!
أفليست هذه الصورة من الماضي لها الشبيه في تاريخنا الحاضر.. سواء في عام 1948، أو ما بعده فيما صنعه الخزري التتري الآخر ((مناحيم بيجن)) من قتل الفلسطينيين.. كأنما كل العرب أكلهم الإرهاب، وكأنهم إلى اليوم يتآكلون بالرعب!
* * *
ليس السلاح، وليست الإمبراطوريات، وإنما هو الإنسان إذا قتل الرعب في نفسه يستطيع أن ينتصر، فما أكثر الراغبين اليوم.. يمدون أيديهم إلى العرب، ولكن العرب توزعتهم الرغبات المتلاحقة من كل صوب، كأنما الرغبة في الانتصار هي صانعة الهزيمة.. لأن الوسيلة الأولى في الانتصار أن تقتل الرعب.. أن تقتل الخلاف.. أن نستنشق عبير الأرض.. دم الشهداء يفوح منه كرائحة المسك.. شهداء اليوم، وشهداء الأمس.
فهل زكمت الأنوف أن تشم العبير؟!
إن التاريخ قد أعاد نفسه: بالأمس ((تتري)) غزا بغداد، واليوم تتري خزري أشكنازي ضرب المفاعل الذري في بغداد.
ـ أما الصورة الثانية فالتشابه بها كان على صورة من الإيجاب بالحدث، وعلى صورة من السلب في معالجة الحدث، فقد اقترح وزير خارجية بريطانيا، وسموا هذا الاقتراح مبادرة كشأنهم في تضخيم الاقتراحات!.. اقترح على السوق المشتركة خطة لعقد مؤتمر على مرحلتين من أجل الأفغان، وأقرت دول السوق هذه المبادرة، ورحبت بها الولايات المتحدة، وذهب الوزير الخطير يحمل هذه المبادرة يستقبله وزير خارجية الاتحاد السوفياتي "جروميكو" وتكون النتيجة أن الاتحاد السوفياتي قد رفض هذا الاقتراح أو هذه المبادرة.. ذلك أن هذه المبادرة تحمل في طياتها عامل الرفض لها.. كما المؤتمر الذي اقترحه الاتحاد السوفياتي من أجل فلسطين، فهذه المبادرة قد أقصت الأفغان، فكيف يقبل الاتحاد السوفياتي ذلك؟!
أنا لا أتهم هذه المبادرة بأنها كانت استهلاكاً محلياً، ولكن الاتحاد السوفياتي بعامل الرفض فيها قد أهلكها عالمياً، كما الولايات المتحدة أهلكت اقتراح الاتحاد السوفيتي عن عقد مؤتمر من أجل فلسطين!
هذه الصورة في الوقت الحاضر.. أين الشبيه لها فيما مضى؟!
* * *
إن الأيام دول. ففي الوقت الحاضر شن الاتحاد السوفياتي الحرب على الأفغان، ولم يجد رادعاً، وفي الماضي القريب شنت الإمبراطورة ((كاترينا)) وهي تلعب بقادة جيشها وشعبها - الحرب على الدولة العثمانية.. حتى وصل الجيش الروسي على أبواب الآستانة - اسطنبول - عاصمة الخلافة العثمانية، فإذا بريطانيا أيام عز الإمبراطورية يقوم رئيس وزرائها ((دزرائيلي)) يذهب إلى برلين. يستقبله بسمارك. يعقد المؤتمر في برلين، وبقرار كان كالإشارة سحبت الإمبراطورية ((كاترينا)) جيشها ورجعت لا تحقق غرضها.
فالصورة موضوعها الاتحاد السوفياتي في الحالين، ولكن النتيجة اختلفت، لأن ((بروكسل)) اليوم غير ((برلين)) الأمس!!
واإسلاماه.. !
وأضاءت في سجل التاريخ صرخة نادت بها الهاشمية لطمت في عمورية، فقالت: وامعتصماه.. فإذا تاريخ الأمة يضحك لا بأشداق فارغة، وإنما بسيوف بتارة لامعة، فإذا ابن الرشيد أحمد المعتصم يقول: لبيك.
أضاءت في سجلات التاريخ هذه الكلمة حين امتلكت الأمة الإسلامية قوة صنعت التاريخ، وتاريخاً صنع للقوة أن يعطي رجلاً واحداً هذه القيمة، ولكنها بعد، ضاعت في أحقاب التاريخ لأنه لم يعد هناك الرجل الواحد، وإنما تفرق الرجال أشتاتاً، بعضهم صدق من عاهد الله عليه، وبعضهم عجز أن يكون على مثال يذكره التاريخ.
واليوم - وأنتم حول الكعبة ملوكاً ورؤساء، قد وضعكم هذا الاتجاه أمام القبلة وكأنكم الرجل الواحد، فالعبرة والحصيلة إذا ما عاهدتم الله أمام بيت الله ألا يسجل لكم في تاريخ الإسلام إلا أنكم الرجل الواحد، كأنما قوة المعتصم لم تعد قوة إنسان أمام هذا البيت، وإنما هي قوة الله، يمنحها لكم عندما يكون الأساس، كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة.
لقد كان الرجل الواحد خالد بن عبد العزيز فحين دعاكم ولبيتم كان معكم وبكم، وأنتم معه وبه، لن تكونوا إلا الرجل الواحد.. كل منكم بلسان الرجل الواحد لا يقول: وامعتصماه، وإنما يقول: يا الله، وإنما يقول واإسلاماه.
كلمة قالها فارسي، شامي، مصري، عربي، العبد مرتين، استرقه السراق ثم باع نفسه من أجل جلنار، فإذا هو بعد ومن قبل، الملك مرتين، كان طفلاً من بيت ملك فأصبح رجلاً ملكاً قد تربى تربية مسلمة تجرعها جرعة جرعة من يد سلطان العلماء.. المعز بن عبد السلام.. كان معه في عين جالوت إن لم يكن بالحضرة المباشرة فهو بحضور الوجدان، فحين حمل التتار كبعض حملات أعدائكم اليوم، صرخ الملك المظفر قطز - رضي الله عنه - صرخة ارتجت لها الأرض فانهارت تحت أقدام الأعداء، فإذا هو يحوز النصر في اليوم الخامس من أيام الإسلام كلها، بدر، اليرموك، القادسية، حطين، عين جالوت.
إن القبلة تدعوكم أن تقولوا: واإسلاماه.. فإن لم تقلها يَضِعْ منا الرجل سواء كان فرداً أو جماعة، لا تخافوا القلة، فالقلة في المؤمنين كثرة كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ الرسالة على الصفا كانت الرجل الواحد محمداً عليه الصلاة والسلام، والهجرة كانت الرجلين محمداً وأبا بكر، وفي المسيرة إلى المدينة كان الثلاثة محمد وأبو بكر وعامر بن فهيرة، فهل هناك قلة أقل من هذا؟ ولكنها فيما منحها الله انتصرت على الأكثرية وأعطتكم الكثير، فلا تستقلوا كثيركم اليوم، وحين تصدق النيات، ويلتزم العزم مسيرة الجهاد يمنحكم الله النصر..
إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ (محمد: 7).
المدينة تستقبل الملك
المدينة المنورة: مأرز الإيمان. دار الهجرة قاعدة الفتح الأول.. أعلنت فرحتها بالملك خالد بن عبد العزيز، كما أعلن أبوه الملك عبد العزيز من قبل فرحته بها.
فرحت بالملك خالد.. يشد الرحال إلى مسجدها.. يصلي فيه، ثم هو يسلم على رسول الله، هي فرحت بذلك، وهو أشد فرحاً به.
وفرحت به على صورة أخرى: صوَّاناً لأمنها. حفيظاً على إيمانها. خادماً لحرمها يفيض بالخبر مقدمه الميمون بفتح المشاريع العمرانية بناء وماء، فإذا هي كعادتها تفرح بالكمال، لأنها بفضل الله عليها صانعة الكمال.
من هنا فرح عبد العزيز المجمع بها، ففي اللحظة الأولى التي تسلم فيها أميرها ابن عبد العزيز الأمير محمد - أخوك أيها الملك - تم كمال البناء للكيان الكبير.. كأنما المدينة نادت عبد العزيز تقول له: ها أنا قد تم بي الكمال لك.. تؤسس هذا الكيان الكبير.. ترد لي الاعتبار. كنت لأكون اليوم معصومة بك فكل العطاء الذي أعطيته - إن لم ألق له شاكراً - يكفيني أني نشرت الإيمان والفتح، فإذا كثير من المشركين والكافرين في كل أقطار الدنيا قد زرعوا لي الحب في قلوبهم فحين يتجهون إلى القبلة، وحين يعلو خطيبهم منبراً.. لا ينسون مع أنّى لهم، فينالني بعض الذكر منهم حينما يصلون ويسلمون على رسول الله الذي عز دينه بالهجرة إليّ وارتفع مكان قبره في ترابي على كل أرض.. فاخراً به، شاكراً لأنعم الله عليه وعلي، فالمعدن النظيف نبعه من تراب نظيف، ولست أنت ولا أبوك إلا من أعراق هذا التراب النظيف.. نسبا وحسبا وعقيدة.
ولعلّي - وأنت تعيش أياماً في ربوعي تمدني بحياة جديدة - ينبغي أن لا أنسى لأذكرك برحمة أبيك لأهلي وعمراني فأحب بكل الجهد أن لا يهدر دم، وأن لا يخرب بناء فأنت أيها الملك - تعرف بمن حوصرت المدينة؟! في قباء كان ((فيصل الدويش)) شاهراً سيفه وسلاحه.
وفي العالية كان أخو حسنة ((عبد المحسن الفدم)) رديفاً للدويش حاجزاً له رقيباً عليه بأمر عبد العزيز لئلا تكون جامجة من الدويش.
وزاد لبوك هذا الاحتياطي احتياطياً أقوى حينما أرسل إبراهيم النشمي يحاصر المدينة من السافلة ((العيون)) يخيم في بستان الزهرة.
لقد سألت إبراهيم النشمي ونحن في الخرج وكان صديقاً لي: كيف أبحت لشباب المدينة ورجالها أن يأتوا إلى مخيمك يحملون إلى المدينة سكراً وتمراً وأرزاً وقمحاً ففي كل ليلة يذهب أكثر من ثلاثين أو خمسين رجلاً يحملون الأرزاق إلى المدينة.. ينفرج بها شديد الحصار كيف فعلت هذا؟!
ـ فقال: ما فعلته عن أمري، وإنما كان ذلك عبد العزيز أمرني أن أرخي الحصار ليطول الدويش.. حتى تصان المدينة من هتكة يهتكها!.
سمعت ذلك فأكبرت عبد العزيز ذلك عمل الأبطال قادة شعوب الذين يقيمون الممالك.
هذا الخبر لا يعرفه كثير أو قليل من أهل المدينة ولا من غيرها.. أعلنه تحية لك ولأبيك..
والمدينة عجيبة.. جماعة للقبائل جماعة لأسماء الأرض حولها.. أفلا تذكر يا صاحب الجلالة قبل سنوات أكثر من العشرين، وقد سألتني:
ـ هل المدينة نجدية أم حجازية؟
ـ فقلت لك: إنها نجدية حجازية تهامية، فإن شرق منها راكب إلى الشرق في أول شبر منها كان في نجد، وإن غرب راكب منها كان في أول خطواته يعلو سفوح الحجاز ((السراة)) وإن شمأل راكب منها فخطا خطوات إلى السافلة فقد اتهم.
من هنا.. كانت الهجرة إليها، فقبائل العرب كلهم حولها: غطفان وأسد وتميم ومزينة في نجدها وأسلم وغفار ومن إليهما في حضن حجازها، وفي شمالها، جهينة وبلى وعنزة وفي جنوبها ما تفرع من أنصارها وخزاعة وقريش ولحيان وهذيل. وهكذا المدينة.. فرحت بك، كما فرح بها أبوك..
وأسأل الله أن يديم عليكم - آل سعود - هيبة السلطان وأن يديم لكم هذا التفوق فلا تسألوا عن الشاكرين والناكرين، فقد تعود هذا البلد أنه عطاء بلا حدود ولا يهتم بالجحود فكم أعطى، وكم جحدوا!!
قمرية في ((لاهور))
لم أسافر منه حتى إلى الحج.. فلم يتيسر لذلك السبيل، وكتبت الرحلة إلى الهند في اليوم العاشر من جمادى الآخرة سنة 1352هـ. ركبت سيارة ((لوري)) ليست هي سيارة البريد.. وإنما هي سيارة قريب لنا مسافرة إلى جدة تذهب إليها أنتظر أياماً حتى تصل الباخرة (علوى) لتقل آخر فوج من الحجيج المسلم في الهند.
وصرعتني رائحة الدخان من (الشكمان.. كان محزوقاً يرسل دخانه وسط السيارة.. فلم أستطع أن أكتم أنفاسي أو أغلق رئتي.. لا أشمه.. لا أتجرعه.. فقد استطاع أن يلفني جسداً داخله، يرغم على الاستنشاق.. أصارع بها إغماءة، فأستلقي على حجر الشيخ محمود شويل - يرحمه الله - فيتلطفني لا أسقط أرضاً بين أرجل الراكبين أو لا أحشر بين أكياس تمر، أرسلها صاحب السيارة هدايا إلى أصحاب له في جدة.
واسترحنا في (آبار بن حصاني).. كأني بها الجنة المريحة، أستجم فيها من هول الدوخة وأحس فيها راحة النفس أتطلع إلى جبل يستعرض كأنما يريد أن يتناول الساحل أمامنا تذكرته.. عرفته، إذا هو (الأبواء).. يسمونها اليوم (الخريبة).
الأبواء. الأبواء. لها جرس ليس في الأذن.. وإنما في الوجدان من حنين محمدي يتذكر محمداً. يتذكر طفولة أحمد النبي، عليه الصلاة والسلام، يتذكر كيف كان شعور (محمد) الطفل يوم دفنت أمه أمامه في الأبواء.
ماذا صنعت (أم أيمن)؟! أي كلاءة من السماء كانت تحيط البشير النذير؟! ترعاه. تحميه. بوسائل البشر المنظورة في شخص الحاضنة (بركة الحبشية) أم أيمن. أم أسامة. وترعاه وتحميه بالشيء غير المنظور أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى (الضحى: 6).
سرحت. أتذكر الأبواء في يومين. يوم اليتيم. ويوم الفتح. تذكرت الصحاب في حملة جهد.. في غزو وفتح. في مشقة من عبادة.
كل ذلك يعرض الصورة في جو العراك المؤمل الذي انتصر فيه بالعبادة وانتصر أناس بالعمل والعون (لقد فاز بالأجر المفطرون اليوم) وانتصر الكل بالفتح المبين.. وكان الجزاء قد أعطاه الله لمحمد في صورة عملية كأنما القول له، أتذكر يا محمد وأنت طفل ماتت أمك ودفنت بالأبواء لتذكر اليوم ما أوصلك إليه الله. وكأن هذه السورة قد نزلت تحكي الصورتين وَالضُّحَى..وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى.. مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى.. وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى.. وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى.. أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى.. وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى.. وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى.. فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ.. وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ.. وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (الضحى: 1 - 11).
كأنما الصورة في الأبواء في الحالتين تفسيرهما هذه السورة الكريمة إذا اتحدت الأوضاع في الوجدان بين الحالتين حال اليتيم في الطفولة، وهذا يكون فيه محمد الرجل الإنسان، العظيم، النبي، الرسول القائد الهادي الفاتح، الرحمة.
أحسب أن كثيراً من الآيات إذا ما عرضت الصورة المجسدة لأسباب نزولها في حال الواقعة وحال المتلبسين اللابسين لأسبابها أمكن تفسيرها تفسيراً رائعاً، يأخذ بلب المؤمن تتجسد أمامه كل المشاعر، حركة في وجدان، تحركاً لإنسان.
وفسرت السورة فارتعشت نفسي حتى لم أسأل عن الدخان الخانق، دخان مادي، لأني أعيش النور.. من ذكري الحب، والإيمان والمجد لأرتفع ولترتفع عندي قطعة من بلدي، (آبار بن حصاني) كأبهى مكان، وأحلى بقعة.
(آبار بن حصاني) يسميها أمين سعيد في كتابه (الثورة العربية) (آبار بن حسان) أخذا عاجلاً عن اللغة الإنجليزية. نقلاً عن ((لورنس)) ومن إليه. لا يشعر بأنه قد حرف لأنه لم يألف المكان. وإنما هو ألف عما كان فيها فريق من الضباط العرب العراقيين أمثال نوري السعيد وجعفر العسكري ومولود مخلص - يرحمهم الله - كان هناك روما للثائرين كما حدثني مولود مخلص نفسه. أرخ ((لورنس)) فأخذ العرب تاريخهم من أفواه الأجنبي.
(آبار بن حصاني) يجعلها (فيلبى) النقطة التي يمر بها مدار السرطان. جنوب المدينة غرباً وشمال مكة غرباً هو يخطئ الذين يجعلون المدينة المنورة على مدار السرطان 5‚23/5 درجة عرضية.
ظهيرة حلوة في (آبار بن حصاني) تفيأت فيها ظلال النجيلات. أنام على (النجم) حتى لقد رأيتني أسترجع نفسي من وحشة الأبد النفور إلى أنس الدواجن والحضري. فالتدجين حضارة الحيوان والحضارة تدجين الإنسان. أو تهجنه يتفاعل مع الأحياء يصنع الحياة قسراً حيناً وطواعية حيناً آخر.
وسرنا نقطع النفوز في (آبار الشيخ) في الأصيل. تبرد فيه الرمال. تسير عليها العجلات. لا (تغرز) أي لا تنغرز في الرمل. تذوب حوله أجسامنا ندفع السيارة إلى المشي. نعين قوة (الماتور) لا يستطيع أن ينقل العجلات إلا بسرعة دائرة على نفسها. لا تجد الأرض الصلبة تدور عليها. ولم (نغرز) (فالسواق) كان جيداً. والجودة طبيعة في سائق الأمس. لقلة السيارات وندرة السواقين. فالقلة جودة. والندرة أجود. سائق الأمس هو السيارة كلفة وتكليفاً. وتسييراً. وشغلاً. وإصلاحاً لأنه لم ينعم بما ينعم به سائق اليوم.
كان سائق الأمس قوة تحرك السيارة أما اليوم فمترف يتنعم طريق مسفلت سيارة مترفة (أوتوماتيك) واستعداد مريح. القوة في أولئك كان حديداً. والترف في هؤلاء (نيكل) براق. السائق كان هو (الماتور) أما اليوم فالسائق هو (الحلية)!!
الحال من بعضه. فرجل الأمس عضل ومشقة. وعرق. ورجل اليوم حضارة وترف. ذلك يحقق المطالب. يحفر الأرض بالأظافر. ويرضى بكوز ماء من شربة (منحسة) أما اليوم فالأرض. تحفر لنا. بأسلوب العلم والآلة. ونشرب الماء المثلج. يحفظ في الثلاجات. (الترامس) وحتى المقاهي استبدلنا فيها كلمة (شربة يا واد). بكلمة أخرى (هات ثلاجة) يعني قارورة ماء مركز بالثلج.
كانوا الحديد والفخار. فأصبحنا القوارير والحرير. ومع هذا فالرضا هناك. والقلق هنا. الرضا والقناعة في رجل الأمس. والسخط والتشهي والأماني والقرف في رجل اليوم.. طبيعة العصر.
ونزلنا في جدة. في ضيافة الأفندي الشيخ حسين نصيف. فأكرمنا كما هي عادته. لم تكن هناك (أوتيلات) تخفف عن الناس ألا يزحم الآخرين. ميزة ألا تزحم أحداً ألا تكرب أحداً. ولكن الفضيلة في أن تشبع من المودة إذا ما نزلت ضيفاً على كريم. حتى إذا ركبنا الباخرة (علوى) أصبحت كعلبة (السردين) قد كبست الأجسام فيها كبساً. وأخذت الباخرة تترنح. من ضربات الأمواج. وابتلعنا الدوار. الكل مسمر في سريره. لا يستطيع أن يتحرك. لا يطعم طعاماً. ولا يذوق شراباً ولكن الشيخ محمود كأنما قدَّ من حديد. كأنما هو عمود أسمر. قد نحت من صخيرات (سلع) أو من حجر الجرانيت لم يأخذ دوار. لم يستلق على سريره. فقد صادف ذلك أيام صيامه الموقوف. كل اثنين. وكل خميس فصام. وقام يسلق دجاجة يعدها لإفطاره فأوقد (الدافور) ووضع القدر عليه. وبينما هو كذلك جاء هندوكي من عمال الباخرة يهزه. يكلمه. يشير إلى الشمس بأنها كفت. تكلم الهندوكي وهو يرتجف ويقول: الله. الله. هو لا يعني الشمس. وإنما يعني الله حقيقة لأنه لا يؤمن بالله رباً خالقاً. ويشرك به آلهة آخرين. وترك الشيخ محمود الدجاجة والحياة الدنيا. وقام يصلي صلاة الكسوف يقرأ البقرة وآل عمران وقض يتأرجح يميل مع الدوار لم يصب رأسه وإنما يحرك رجله لكنه سمرها كأنما قوة الوجدان في الصلاة قد قهرت قوة التحرك في الجسم.
وانكفأت القدر. واندلق المرق، سقطت الدجاجة على الأرض فلم يعرها المصلي التفاتاً. ولم أستطع القيام لأنقذه لأني كنت عديم الحركة في الجسد. لأتحرك معه. وأنا ساكت أسرح بالقيمة التي اغتصبها مني. وهو يصنع ما صنع. حتى لقد شمخ أرى إنساناً غير هذا الصديق. تبلغ به الحدة في القول أحياناً مبلغاً ينكره الناس عليه. وأكمل صلاته. ورفع دجاجته يغسلها ليضع عليها ماء مرقاً جديداً (تنوة) كأنما هي (تنوة القهوة) أو كأنما هي (تكحيلة الشاهي) يدغش بها طالب (البراد).
لم أتذكر شيئاً حينما وصلنا إلى الهند، كل القارة كانت الإمبراطورية كدولة واحدة. تحكم بعشرات من الإنجليز يحكمون الملايين. وسرنا شوطاً طويلاً نزعتني فيه المادة من إلهام الذكريات.
ولكن الفجر قد بزغ. والصبح قد تنفس. يعيد الذكرى تهزني هزاً حينما أسمع صوتين: صوت المؤذن. وتغريد القمري. كانت قمرية تغرد على فنن. وأحسبني أعجبت بكلمة (تغرهد) أكثر من (تغرد). غرهدت القمرية فانتزعتني إلى مكان آخر. كل المكان (قباء). وكم لقباء من ذكريات تذكرت فجراً في (قباء) الحبيبة في الجزع على حافة (رانوناء). سمعت في القمري فسرقت نفسي من حمأة المادة إلى حمى الذكريات. بكيت ساعتها وأنشدت:
رب ورقاء هتوف في الضحى
ذات شجو هتفت في فنن
فبكاي ربما أرقها
وبكاها ربما أرقني
غير أني بالجوى أعرفها
وهي أيضاً بالجوى تعرفني
بكيت. فلو أني وجدت طائرة (البوينج) ساعتها لطرت عليها أرجع إلى المدينة المنورة أسمع قمريتي تغرد على نخلة. لا على شجرة ضخمة في (لاهور).
وأقام الشيخ الصلاة. وسمعت الضجيج في هؤلاء المبكرين. يهتفون. (لا إله إلا الله. محمد رسول الله) وهنا تذكرت السورة التي بعد سورة وَالضُّحَى كأنما قد انتظم سباق السورتين يعذر تاليهما إذا ما وصلهما ببعضهما كأنما هي سورة واحدة هي سورة أَلَمْ نَشْرَحْ أقرأوها معي: ألا ترون النسق فيها قد اتسق مع السورة قبلها؟! أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ.. وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ.. الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ.. وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (الشرح: 1 - 4).
أليست هذه بعد الضحى فيها المن من الله تعالى؟ رحمة منه بهذا اليتيم في (الأبوء) يرتفع ذكره في (لاهور) يجيء اسمه بعد اسم الله. في شهادة لا يتم الإسلام إلا بها (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله).. تذكرت ارتفاع الذكر يصل إلى مداه إلى الهند. وإلى أبعد لتكمل الصورة في نظري. تضع الأبواء. تضع مكة. تضع المدينة. كشيء له قيمة حينما تتحد الأوضاع في أسباب النزول. في روعة المعاني. نفهمها من هذا القرآن الكريم.
ورجعت إلى وقاري أعد نفسي كأنما هو النذر أذهب إلى قباء أصلي ركعتين في مسجده ليطلع فجره علي أسمع فيه صوت القمري. وسمعت القمري في (قباء) بعد في فجر يوم جمعة. وفي الجزع نفسه فلم يكن شجياً كذلك التغريد في (لاهور) لأن هذا كان واقعاً ملموساً، أما ذلك فواقعة حركت الخيال أشعلت الذكريات. والخيال والذكريات أمتع لذة. وأقوى تأثيراً من الواقع. ليكون الواقع اليوم هو الممتع غداً حينما يصبح ذكرى. هذا الواقع أشعر بلذته وأنا أكتب لأنه أصبح ذكرى. فما أمتع الذكرى في القلوب المحسة الشاعرة. تعيش عليها. زاد معركة. رفيق حياة. مثار حنين. عزاء كرب. بينما هي كرب وجدان. في تنفس مشاعر. في لظى حب جديد. الذكرى تتجدد. في مذكر يستجد. فالذكريات في يقيني تفسير يتسع له ما ذكره الأستاذ مأمون الشناوي نقلاً عن (فولتير) قال فولتير: الجراح القديمة تغني والجراح الجديدة تبكي.. ليس هذا تفسيراً للذكريات.. وليست الذكريات تفسيراً له؟
ـ صورة:
وعلى ذكر التفسير لسورة الضحى أذكر ملحة طريفة سمعتها من شيخنا مهذب نفوسنا. شيخ المدينة العلامة الحبر (الألفا هاشم) رحمه الله حضرت أسمع عليه درساً في التفسير. مع تلامذته من قومه. السود الطوال. من قبائل الفلاتة ومن ولد (عقبة بن نافع الفهري) فقد كان سيدهم سواء في المدينة أو في مالي..
قال رحمه الله يفسر قوله تعالى وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى (الضحى: 4) فاستعرض التفسير الراجح المشهور ثم عرض تفسيراً آخر. قال: وفسر بعضهم هذه الآية: وَلَلْآخِرَةُ (المدينة) خير لك من الأولى (مكة) سمعت ذلك وضحكت. أعتز كمالكي مدني بهذا الشيخ لم يخرج عن مذهب إمامه. أمام دار الهجرة فأعلن القول المرجوح. كأنما هو يرجحه. إنه تفسير ظريف يدغدغ العواطف. ولا يحجب به الفضل. لأي من المسجدين الكريمين. الحرمين الشريفين.
وكنت معك في أزمتين صنعت لي فيهما لذتين. فصنعت أنا لنفسي سعادتين. ثم أرجعتهما الممين. ثم عادتا تسترجعان في النفس والعقل فكرتين. أسطرهما على قرطاس تسود عليه الحروف بينما هي البيضاء حينما تحدثت أنت وحينما سمعت أنا وإذ أكتب الآن. حديثك عن الحب وعن صنع كل شيء في الازدواج المثنى، من الأزمة، واللذة، والسعادة والألم، والفكرة عشت أحلم في يقظة الهوى، كأنما (توفيق البكري) قد عاد حياة يفيض في عقله الذي أشاعوا فيه الجنون أو أشاعوا عنه لوثة العناد. في عرف الذين لا يرغبون أن تقال لهم الكلمة: لا.. قد كنت أحلم قبل اليوم في سنة فصرت أحلم منذ اليوم يقظاناً أو كأنما (مي) قد عادت تعقل كنه الحديث معها. لا كنه الحديث عنها لأنها لا تطيق استكناه التحدث بالتوافه عن الآخرين. ولا تقبل من الذين إذا ما ذكر اسم واحد منهم أشارت بأنفها تمسكه بأصبعيها كأنما هي تفلة من الأنف. إسقاطاً للقيمة. واعتزازاً بالتقييم.
لقد أشعت الألم من سعادة الأمل. وأشعلت الأمل من تسعر الألم. في هذا اللقاء المفاجئ لم تصنعه أنت ولم ترده واحدة. وإنما صنعته العواطف المتراسلة عن بعد. بأسلوب أن لا قصد. أن لا عمد بطريقة التلبث. أو التلبانية كأنما هو النداء المشع من بطارية يتراسل أصحابها بطريق الإشارة. كأنما هم تلامذة (مورس) أو (ماركوني).
ما الذي ساقك أن تقف؟! ما الذي ساقها أن تمشي؟! ومن الذي سير الواقف؟! ومن الذي أوقف السائر؟! كأنما تسمرت الأقدام لا لتبصم الأرض بأرجل. وإنما لتضع البصمات على قلبين تدفقا فرحاً. مدفوعين إلى مصيرهما المحتوم. ليكون نور البسمة من نار الدمعة. في إشراقة المواعيد. في آلام التملك. من ألم الفقد. تقبض على النادر الثمين بين أصابعك. ثم إذا أنت تتركه يفلت من يدك. لأنك غير قادر على اقتناء الحلية النادرة وإن ملكتها ففرق بين القينة والمملوك. تضن بها ألا تعيش لك. بك. فيك. فدعها لتعيش فيك بس. لا لك. ولا بك. فالقدرة على الالتصاق. ليس لها ضمان الإمساك بالنادر الثمين. إنك تدعها تعيش في ألم حرمان من عيشها في أزمة الوجود. من عيشك في الحيرة. بين ألم الحرمان وأزمة الوجود.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1422  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 820 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة بديعة كشغري

الأديبة والكاتبة والشاعرة.