شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
العرب بين الإرهاص والمعجزة (1)
سادتي..
لا أريد أن أقدم بحثاً عن دراسة شاملة.. فما زلت أعرف في أمثال عروبتي - ألا أحمل التمر إلى هجر، فأنتم رجال العلم والفكر مما كنا نسميكم المستشرقين، فرفضت هذه التسمية أسير بها كما سار بها البروفيسور جاك بيرك، والبروفيسور شارل بيلا، الفرنسيان المستعربان - فأقول أنتم المستعربون لا المستشرقون.
فالاستشراق يحرمني أنا العربي الاستحواذ عليكم والالتصاق بكم، وحصر ما صنعتم لأمتي العربية تقديراً لكم.. لا حرماناً للآخرين من عملكم، وبكل الصراحة، وبالصدق المكلف به طالب المعرفة.. أقر وأعترف أنا الموقع أدناه، أو بعبارة أخرى الناطق به أمامكم بأننا نحن العرب مدينون لكم بنشر تاريخنا والاحتفال بتراثنا والإشادة بحضارتنا، ليس من باب الإطراء لتاريخنا وآثارنا وحضارتنا، وإنما هو أدخل في باب إعلان الاعتراف منكم بعظمة هذا التاريخ وعظمة هذه الحضارة، والاغتراف منها.. فقد كانت أمة العرب أمة الإسلام الأمة الوسط، حاملة الحضارة الوسيط التي أفادتكم، فكانت الأساس والدعامة لما أنتم عليه الآن.
من هذا المنطلق.. لا أتقدم بدراسة وبحث، وإنما أتقدم بخواطر..
فقد كانت حالة العرب وشبه الجزيرة العربية قبل الإسلام موضوعاً لبحوث كثيرة ومتعددة في الشرق والغرب على السواء، كتبت بلغات مختلفة، وعكف عليها عدد كبير من الدارسين. ذلك لأن ظهور الإسلام كان حدثاً تاريخياً لا يشابهه حدث آخر في تاريخ البشرية كلها.. فلقد استطاع أتباع هذا الدين أن يغيروا وجه الأرض المعروفة في ذلك الوقت، تغييراً كلياً في فترة من الزمان لا تتجاوز الثلاثين عاماً ولا تزال البشرية كلها تعيش في آثار تلك التغيرات إلى يومنا هذا.
ومن هنا فقد أراد العلماء شرقاً وغرباً أن يستطلعوا أحوال ذلك الجنس العربي الذي تمكن من إبراز هذه المعجزة.. وأرادوا أن يعرفوا الخصائص التي ساعدتهم ومكنتهم من ذلك كله.. فكان لا بد من أن يرجعوا إلى الوراء قبل ظهور البعثة المحمدية، فدرسوا أحوال شبه الجزيرة من الناحية الجغرافية وموقعها، وأثر ذلك الموقع في قبول الإسلام.. كما درسوا أحوال القبائل العربية التي كانت تقطن شبه الجزيرة آنذاك من الناحية الاجتماعية، وتركيب هذه القبائل وعلاقة الفرد بها، وعلاقتها بالفرد.. والحروب الدموية التي كانت تقوم بينها وأسبابها.
كما درسوا الحالة الاقتصادية وأنواع المتاجر الداخلة إلى شبه الجزيرة والخارجة منها، والنقود التي استعملوها سواء أكانت دراهم فارسية أم دنانير بيزنطية.
ودرسوا حالة الطرق وأنواع القوافل. ولكن أهم الدراسات انصبت على الحياة العقلية ومظاهرها في اللغة والشعر والأنساب والقصص.
وكذلك الديانات التي كانت سائدة بين سكان شبه الجزيرة، فدرسوا الوثنية وأصولها وأنواع الآلهة التي كانت تعبد هناك؛ ودرسوا انتشار اليهودية والنصرانية والأثر الذي أحدثته هاتان الديانتان في العقلية العربية، وخلصوا من ذلك كله إلى أن الأرض كانت موطن حضارات متعددة ومتقدمة.
فلقد كانت مدن الحجاز.. الطائف ومكة والمدينة.. تعيش عيشة الحرية والاستقلال فلا تقر بالطاعة لأحد.
أما في الشمال في بادية الشام، فقد خضع العرب لتيارات السياسة العالمية دون إخوانهم عرب الجزيرة بزمن طويل، فمنذ زمن الآشوريين كان للعرب هناك مملكة عاصمتها الجوف، تعاقبت على عرشها الملكات، وظلت خاضعة لنفوذ الآشوريين حتى عام 669 ق.م. بل لقد جعل الملك البابلي نابونيدس (بختنصر) 566 - 539 ق.م. مقره فترة من الزمان في واحة تيماء التي كانت قاعدة لحملاته على الغرب.. ولقد وجد في هذه الواحة نقش آرامي يرجع إلى العهد الفارسي يدل على النظام الديني في تلك المدينة، وما ينطوي عليه من كهنة، وهياكل، وآلهة خاصة بكل منها. ثم نشأت دولة الأنباط بعد ذلك بزمن متأخر وسيطرت على تجارة القوافل، وكانت عاصمتهم سلع أو البتراء، وهي قلعة جبلية تقع على منتصف الطريق تقريباً بين البحر الميت ورأس الخليج العربي وهي الآن مقصد السياح الوافدين على الأردن.
ولا تزال آثار سلع الهامة والكتابات المختلفة التي نقشت على قبورها المنحوتة في الصخر شاهدة على ما كان لها من حضارة زاهية. ولقد اصطنع الأنباط الذين ورثوا الثموديين في هذه النقوش.. اللغة الآرامية التي كانت لغتهم الرسمية واقتبسوا ألقاب موظفيهم وزعمائهم العسكريين من الدول الهيلينية المجاورة.
ثم قضى الرومان على استقلال ((سلع)) سنة 106م، وضموها إلى إمبراطوريتهم وعرفت عندهم باسم ((المقاطعة العربية)).. وكانت تدمر التي خلفت دولة الأنباط أسعد حظاً من سابقتها، وكانت السيادة فيها للعرب.
ولقد خاضت تدمر حروباً ناجحة ضد الفرس، مكنت ملكها ((أذينة)) من بسط سلطانه على سوريا كلها.. ولما توفي ((أذينة)) سنة 268م، تولت امرأته ((زنوبيا)) الذباء زينب أمر الحكم من بعده، وظلت تصرف شؤون المملكة حتى 273م، عندما دمر الإمبراطور أورليانوس مدينة تدمر. وكانت نهاية الملكة ((زنوبيا)) الفاجعة موضوعاً بعيد الأثر في نفوس عرب الصحراء، وظلت سيرتها الأولى بعد أن اكتسبت طابعاً أسطورياً.
وبالقضاء على تدمر انتهى عهد الدولة العربية المستقلة في الشمال، ومنذ ذلك الحين صار الرومان وخلفاؤهم البيزنطيون قادرين دائماً على أن يتخذوا بعض العرب صنائع لهم على تخوم البادية، يستعينون بهم على صد غارات البدو ضد غارات العدو على المناطق المتحضرة. والواقع أنهم اصطنعوا الغساسنة في الشام، وكان إليهم حكم المناطق الواقعة شرق الأردن.. وأشهر ملوك هذه الأسرة الحارث الخامس، وكانت له سلطة مطلقة على العرب في شمال سوريا، إلا أنه بعد وفاته لم يتمكن ملك من ملوك الغساسنة أن يخضع هؤلاء جميعاً لحكمه إلا قبيل الفتح الإسلامي.
واتبع الفرس أعداء الرومان التقليديون نفس السياسة نحو العرب، والمفروض أن سابوراً الأول ذا الأكتاف نفسه هو الذي عيّن عمرو بن عدي من بني لخم ملكاً على العرب في العراق. وقد وجد النقش المحفور على قبر امرىء القيس في النمارة جنوب شرقي دمشق وعرف عند علماء الدراسات التاريخية باسم نقش النمارة ولا يزال أحد المصادر الرئيسية في دراسة أصل الخط العربي.
أما خلفاؤه فقد جعلوا مقرهم بوصفهم عمالاً للفرس في الحيرة الواقعة على نحو عشرة أميال جنوب بابل.. ولقد كان هؤلاء في حرب دائمة مع الغساسنة الذين استولى ملكهم المنذر على الحيرة حوالى سنة 575م ودمرها. وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة الم.. غُلِبَتِ الرُّومُ.. فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ.. فِي بِضْعِ سِنِينَ (الروم: 1 - 4) أشارت إلى الحرب بين الإمبراطوريتين ((غلبت الروم ثم غلبت - فجزع المسلمون لانتصار الوثنيين الفرس على الكتابيين الرومان حتى إذا انتصروا مهدوا بإضعاف الفرس للانتصار في القادسية)).
وعلى ذلك فإننا نرى أن أجناساً كثيرة وجدت في شبه الجزيرة قبل ظهور الإسلام.
ولقد اعتاد النسابون أن يقولوا إن عرب الشمال من نسل إسماعيل بن إبراهيم وعرب الجنوب من نسل قحطان، وتبعاً لهذه الرواية نعرف فروقاً بين القبيلتين:
أولاً: أن القسم الجنوبي كان يعيش عيشة استقرار وتغلب عليه الحضارة، ولقد ذكر القرآن هذه الحقيقة في قوله تعالى لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (سبأ: 15). أما أهل الشمال فكانت تغلب عليهم البداوة والبعد عن الاستقرار.
ثانياً: إنهم مختلفون في اللغة، فكانت لغة اليمن تخالف لغة الحجاز.. فاللغة اليمنية أكثر اتصالاً باللغة الحبشية والأكادية.. ولغة الحجاز أكثر اتصالاً باللغة العبرية والنبطية.
ثالثاً: أنهم مختلفون في درجة الثقافة العقلية تبعاً لما هم عليه من عيشة بدوية أو حضرية. وتبعاً لاختلافهم في اللغة والأمم التي كانوا يخالطونها، ولقد تجاوز المؤرخون عندما ذكروا أن هذا اختلاف في اللغة، وليس الأمر كذلك إنما هو اختلاف في اللهجات، أما اللغة فأساس واحد.
ورغم ذلك فإنه مما يستوقف نظرنا أن نرى اللخميين في الحيرة والغساسنة في الشام قد عمروا قروناً وبلغوا في المدنية شأواً بعيداً - إذا قيس بحالة العرب في الجزيرة - وكان منهم من يخالط الفرس والروم ويتكلم بلغتهم، ودينهم على العموم كان أرقى من دين غيرهم من العرب.. فهم إما نصارى أو مجوس وهذا كله كان داعياً إلى خصب الذهن وتفتق القريحة بالشعر، وكان من المعقول أن تخرج بلادهم فحولاً من الشعراء.. ولكننا لم نظفر منهم بشعر ذي خطر، فهم مثلاً يحدثوننا عن عدي بن زيد العبادي الحيري وهو شاعر ضعيف كان الأصمعي وأبو عبيدة يقولان فيه: عدي بن زيد في الشعراء بمنزلة سهيل في النجوم يعارضها ولا يجدي معها، وكل الذي يرويه لنا الأدباء هو رحلة شعراء الجزيرة.. كالنابغة والأعشى وحسان إلى أمراء الحيرة وأمراء غسان.
ولقد كانت الحياة الدينية عند العرب القدماء تقوم على تقديسهم لضروب من الحجارة في سلع وغيرها. ولقد حظيت بعض الأماكن المقدسة بشهرة خاصة، فكانت القبائل المختلفة تحج إلى عكاظ والواقع أن الأسواق التي كان العرب يقيمونها في الجاهلية ارتبطت بالاحتفالات الدينية ومن هنا كانت مجالاً لتبادل النتاج الرومي بالإضافة إلى البضائع والعروض المادية.
لكن هناك ثلاثة آلهة اشتهرت عندهم أكثر من غيرها، الأولى وهي ((مناة)) وكانت معروفة في مكة، لكن عبادتها شاعت على الخصوص بين هذيل، والثانية ((اللات)) والثالثة ((العزى)).
ولكن بالإضافة إلى هذه الآلهة اعتقد العرب ككثير غيرهم من الشعوب القديمة بإله خالق للكون ((الله)) سبحانه وتعالى يعرفون الرب ويشركون بالإله.
كما أن الديانات السماوية التي كان لها منذ زمن طويل أنصار وأتباع في بلاد العرب قد ساعدت على هدم الوثنية العربية السابقة.. ففي جنوب الجزيرة بلغت اليهودية في فترة من الزمن مبلغاً من القوة ظهرت آثاره في اعتناق الحكام لها.
أما النصرانية فقد تمتعت في ظل الإمبراطورية بقوة اجتذاب عظيمة لمجرد كونها دين الدولة الرسمي.. ومما لا شك فيه أن بلاد العرب الداخلية وبخاصة مدن الحجاز التجارية لم تكن تجهل كل الجهل تعاليم المسيحية وتقاليدها بسبب اتصالها الدائم بقبائل الشمال.. وليس من شك في أن الرهبان الذين انتشرت صوامعهم من فلسطين وشبه جزيرة سيناء حتى قلب الصحراء كان لهم أثر كبير في تعريف العرب بالنصرانية.
* * *
تلك هي خلاصة لبعض الأحوال السائدة في شبه الجزيرة قبل البعثة المحمدية.
وقد يكون في خواطري الجديد علي، أو هو الجديد مني، ألفت إليه أنظاركم لعلّ بعضكم يعترف بصحته ولعلّ بعضكم الآخر يطرح حواراً يناقض هذا الصواب، فالحوار فيه النقيض، لكن النقيض حياة للنقيض، خطأ يصلحه صواب، وصواب تتعرف إليه التخطئة لينصب حيلة وينتصب قوامه، صواباً لا تأخذ منه التخطئة، فالتاريخ الحدث.. الأثر كلمة صامتة نحاول أن ننطقها بقراءة جديدة، وفقه جديد أنتم أيها المستعربون كنتم السباقين إلى فكر التاريخ وفلسفة التاريخ.
سباقون بالجهر، وبالصراحة، وفي هذا لا أكيل الثناء عليكم وإنما أريد ألا يكون كبرياء تاريخ العرب يتنكر للذين يفقهونه ويفلسفونه.
ولست بهذا الثناء عليكم أنسى عالمنا وإمامنا في فلسفة التاريخ العربي الحضرمي التونسي المصري ابن خلدون.. كما لا أنسى أستاذ القومية العربية من سمى نفسه إعجاباً بأبي خلدون.. ساطع الحصري أجاد الحوار مع المؤرخ الكبير.. لا يحرمه الحوار حين يبرز الخطأ من الحب والتقدير للإمام ابن خلدون.. فالحوار فكر مع فكر.. بهذا تعلو ولن يكون ذاتاً مع ذات.. أنانية ضد أنانية، فإن كان ذلك فليسقط التاريخ.
هذه المقدمة أتبعها بمقدمة ثانية عن لمحة موجزة عن الأمة العربية في عصور التاريخ السحيقة.
فإذا كان طوفان نوح هو التطور الثالث طبيعياً، أبرز أراضين، وأغرق أراضين، وخسف بحضارات، فإن العرب هم ورثة نوح.. أصحاب التطور الحضاري من ولده سام، فهم الساميون الأكثر اعتزازاً بالسامية، لا يحاربونها وإنما هم يحاربون من أقحموا أنفسهم على السامية من الذين تهودوا من هؤلاء الأشكناز الذين لم تلدهم إسرائيل.. قد نسميه تجاوزاً التطور الثاني لا الثالث لنعطيكم أنتم كمستعربين قيمة التطور الحضاري الثالث. أرجو ألا يرتفع إصبع يذكرني بحضارة الرومان واليونان، فلا أريد أن أنسى ذلك أو أتناساه، ولست متعسفاً حين أضع حضارة اليونان والرومان جزءاً كقبس من التطور الثاني لحضارة الإنسان صناعة العرب، جاءت حضارة اليونان والرومان قبساً منها.
فالفراعين والكلدان والآشوريين والأنباط وعاد وثمود وفينيق وكنعان - هؤلاء عرب هم أصحاب التطور الثاني واليونان جاؤوا معاصرين لبعض هؤلاء أو متأخرين عن بعض هؤلاء.
فحين أذكر هذه الشعوب العربية حول النهر.. نهر النيل، نهر الفرات، نهر بردى، نهر الأردن.. في اليمن الخضراء.. في شطف الصحراء.. أعتبر أن كل هذه من العرب.. وكانوا بكل ما تمكنوا به وبالرسالات والأنبياء.. كانوا أول إرهاص لهذا الإسلام، فالعرب بكل ما لهم وما عليهم كانوا الإرهاص.. أعدهم الله لأن يكونوا وفي أحقاب السنين على دائم من الحضارة، وتعدد الديانات، ونبوغ الرسالات، مقدمة لهذا الدين، حمله العرب أول من حمله، ثم حملته الشعوب الأخرى التي أسلمت فكانت عربية الوجدان بلغة القرآن وتعاليم القرآن.. مسلمة الإيمان بتعاليم القرآن وشريعة الإسلام.
هذا الإرهاص الكلي، وباعتباره التكوين للوجدان العربي وفكره وحضارته.. قد جاءت بعده إرهاصات كثيرة منها ظاهرة السلب، والانتفاء من الانتماء، وكثير من الإيجاب.. الاحتفاء بالانتماء، فكيف كان ذلك؟
* * *
فأدهر العرب في جزيرتهم فلم يصحروا، اندفعوا موجات موجات، لا ينتقلون بشراً إلى الأمراع حول النهر.. وإنما نقلوا كل فكرهم ووجدانهم إلى بيئات خضراء، إخضرت بها حضارات ورثت حضارات وأنبتت حضارات.
فالهجرة من الأمراع إلى الصحراء غير واردة. قال ذلك العلماء، وإنما الصحيح أن هجرة العرب كانت من الأرض التي أدهرت إلى الأرض التي أمرعت، لكن وقد التصقوا بالأرض لم يدعوا الجزيرة فراغاً، بقيت بقايا منهم في بيوت الشعر، كانت الملجأ لهم حين تعضهم شعوب غازية، يهاجرون من بيت الشعر، ويتهاجرون إليه.
إن بيت الشعر هو عظمة الإرهاص لمعجزة الإسلام.. تصوروا كم من المهلكات التي سقطت على بيت الشعر.. جدب، وأمراض ودماء.. الخ هذه الواوات. وبقي بيت الشعر المدد الولود يحفظ على الشام عروبته، وعلى العراق عروبته، وعلى اليمن كيانه، ويمد أفريقيا بمدد عربها.
فقد قال الإمام بن باديس، شيخ الجزائر، الرجل الأول في تعليم الجزائر الثورة على الاستعمار.. قال: لئن قيل إنهم خربوا، فلنقل إنهم عربوا.. يعني موجة بني هلال وبني سليم. فموجة الفتح التي استمرت في إمبراطورية الخلفاء، وإمبراطورية أمية، وإمبراطورية العباس، تبعتها موجات من الجزيرة لم تذهب للنعجة وإنما كانت حملة قومية بوازع سياسي لم يسأل عنه تاريخ المعز إلى الآن. أزعم أنها على يقين أن موجة بني هلال وبني سليم كانت عن تخطيط بين هاتين القبيلتين وبين المعز لدين الله الفاطمي.. لها آثارها وبها تأثيرها.
أكثر الذين كتبوا عن العرب، ومن المسلمين بالذات وقعوا في خطأ ابن خلدون.. يزعمون أن العرب كانوا قبل الإسلام لا شيء، وأن الأعراب بعد الإسلام هم لا شيء.
والحق أن هذا خطأ، نظروا إلى أحد الوجهين من العملة ولم ينظروا إلى الوجه الثاني.. استمر في تعديد السلبيات، وما خطر على بالهم أن خلفية هذه السلبيات كانت إيجابيات.
قالوا:
إن العرب كانوا قبائل تسيل بينها الدماء في حروب قبلية.. خطأ.. أن يكون في أرض واحدة شعب واحد يتوزع قبائل يقتل بعضه بعضاً.. هذا وجه الدنيا. أما الوجه الآخر فشيء آخر..
إن حروب القبائل أزعم وأنا على يقين أنها كانت إرهاصاً لمعجزة الإسلام.. لرسالة سيدنا محمد سيد الأنام عليه الصلاة والسلام.. فالدين الجديد.. الرسالة المحمدية، رسالة الإسلام.. لا بد لها من رجال يعتقدونها.. يحمونها.. ينشرونها..يتحضرون بها ليرسلوا الحضارة الوسيط إلى بني الإنسان.
هذه الحروب القبلية.. كانت أكاديميات عسكرية، تعلمت القبائل المتحاربة، هذه الحروب البغيضة، التعامل مع السيف والرمح والاحتفال باقتنائه، والتجارة به. فقد كانت عند بعضهم ذخيرة من هذا السلاح إما أن يتمولوا بها.. أو أن يمولوا قبيلتهم بها.
أدرع العباس بن عبد المطلب مثلاً السلاح كل السلاح عند صفوان بن أمية إلى غير هؤلاء.
إن قوساً واحدة.. قوس حاجب بن زراره .. صنعت حرب ذي قار.. حتى إذا جاء الإسلام، وجد الفوارس.. قادة الجيوش، فهل كان في الإمكان لو لم تكن هذه الحروب المعلمة، أن يكون في الإسلام وللإسلام قائد مثل خالد بن الوليد؟. أركان حرب مثل القعقاع بن عمرو؟. وفاتح الشرق مثل قتيبة بن مسلم؟ فاتح الغرب مثل عقبة بن نافع؟ فاتح الأندلس مثل موسى بن نصير وطارق بن زياد؟ تعلموا في الجاهلية حتى جاؤوا إلى الفتح كانوا الأساتذة يعلمون الأجيال بعدهم.
والانحياز إلى الصحراء يظهر للشاغبين على العرب أنه بداوة، بينما هو ورغم الحروب القبلية، كان تكتلاً حضارياً.. لم يكن للفرس أن يتجاوزوا الحيرة، ولم يكن للرومان أن ينفذوا إلى بادية الشام، ولم يكن للفرس ولا للأحباش أن يستقروا في اليمن.
وكان تكتلهم في الجزيرة إرهاصاً لهذه المعجزة الإسلامية، وحين سطع نور هذا الدين، وجد في هذه المنطقة الجبلية ميدان النجاح.. صدع النبي محمد بالرسالة على الصفا، فنفقه مما جرى إرهاصين، فحين بشرهم وأنذرهم كان من ردود الفعل أن تجتمع قريش على كلمة واحدة، تصده وترده، لكن هذا الاجتماع انفرد في اللحظة الأولى بموقف أبي لهب المنكر للرسالة، فلو لم يقف أبو لهب عم النبي هذا الموقف المنكر حل به مع قريش لأجمعت قريش أمرها على الإنكار بكلمتها الموحدة تصد وترد.. لكن كلمة أبي لهب ((تباً لك.. ألهذا جمعتنا)).. أطفأت غلواء قريش كأنهم قالوا اتركوه إلى عمه، وجه العملة الرديء.. إنكار أبي لهب، وجه العملة الإرهاص موقف أبي لهب فرق كلمة قريش، تركت الرسول العظيم لعشيرته الأقرب، فلم تشارك عشائر قريش أول الأمر في كلمة واحدة.. أعطت المتنفس ليسلم السابقون الأولون.. ينازعهم عمه أبو لهب، يطفئ النار بما سلب، يناصره عمه أبو طالب، يقاوم ثأرهم بما أوجب.
وهذا الموقف في مكة وهي سلبى كل السلب تحارب قريش رسول الله بالأذى والإنكار والتعذيب للمستضعفين.. كان عملاً رديئاً، لكن الوجه الآخر للدنيا كان عملاً مفيداً.
لماذا؟
لأن وكما ذكرنا من أن قريشاً تركت الأمر بين أبي لهب ينازع الرسالة المحمدية، فإن العرب كل العرب تركت قريشاً تنازع الرسالة المحمدية.. فكأنهم أرادوا.. ما دامت مكة قد حاربت هذه الرسالة فلا داعي لأي تكتل منا يحارب الرسالة في مكة.
فقد يخلق هذا الصراع بيننا وبين قريش حين نبادر إلى أي تحرك ضد مكة.
كان تأخر العرب لأن تحارب هذه الرسالة إرهاصاً للنبوة.
ألستم معي في هذ الفكر؟.. أرحب بمن يستريح لهذا الفكر ولا أجفل ممن يناقض هذا الفكر.
* * *
وإرهاص آخر يتبع إرهاص المتحاربين والمتحاربين والمستنكرين على الصورة التي شرحت بإرهاص آخر كان أساسه المعتقد والمعتقد والعقيدة.
سطع نور الإسلام، وقبائل العرب في جزيرتهم، في نجدهم وحجازهم وتهامتهم وسرواتهم وثنيون.. لهم آلهة من حجر أو شجر.. أو حتى إله من عجوة التمر، كما هو إله عمر في الجاهلية.
هذه الوثنية في العرب أزعم أنها من الإرهاص للإسلام.
كيف كان ذلك؟
فلو كانت قبائل العرب نصرانية.. لناصرها الرومان، وجاءها المدد من الشام، ولو كانت يهودية لتعثر اقتناعهم بالإسلام.. كما هي الحال فيما وقع في الواحات العربية.. المدينة خيبر وما إلى ذلك من وادي القرى..
لو كانوا نصارى أو يهوداً أو لو كانوا وثنيين مجوساً من أتباع زرادشت أو ماني.. لوجدوا النصير ولوجد الإسلام العسير، ولكنهم كانوا وثنيين.. لديهم ملامح ووراثات من ملة إبراهيم، فانفتح وجدانهم إلى قبول العقيدة الإسلامية يسر فيه بعض العسر.. ليس عمق العقيدة لديهم، وإنما سببها زعامات خافت على نفوذها إذا ما انضوت تحت راية الإسلام كالذين ادعوا النبوة أو الذين منعوا الزكاة.
إن هبلا الوثن كبير الآلهة في مكة الذي سقط يخرج من جوف الكعبة كان وثناً، رديئاً أن يعبد، ولكنه من الوجه الآخر، كان حرزاً للعربي أن يتنصر أو يتهود، كان إرهاصاً لمعجزة الإسلام تدخل فيها قبائل العرب الوثنية.
إن اليهود في الواحات، كانت العسر كل العسر، فما تنفس الإسلام حتى أجلاهم وإن نصارى تغلب قد مكثوا طويلاً فلم يسلموا إلا بعد لأي.. فطليحة الأسدي الوثني ادعى النبوة وما أسرع ما انهزم حتى أسلم، وفقة التغلبي النصراني انهزم مع طليحة.. فما أسلم حتى أهلكه خالد بن الوليد وما زالت تغلب تبقى على نصرانيتها إلى زمن طويل.
إن القومية العربية حين أصبحت شعوبية عربية في عهد بني أمية، كان لها وجهان.. الوجه الحبيب إلى العرب، والوجه البغيض إلى الشعوب المسلمة قد غربها العرب فحملت لهم مذلة اختفت ثم ظهرت.
لم تكن إحساناً على العرب إلا حيناً من الدهر تسعين عاماً، ولكنها كانت إحساناً لانتشار الإسلام، وتشبثت الشعوب بحبائله، تدافع عن نفسها به، فبالإسلام انتصبت شعوبية هذه الشعوب إلى هدم القومية لنصرة ذاتها بانتصار الإسلامية، فأظهرت العباسيين فانقلب الأمر على حرمان العرب من كل سلطان.. حلفاء عرب بفكر إسلامي ينتصر بغير العرب، فمن سيئات الشعوبية إذلال العرب، ومن بعض محاسنها انتصار الإمبراطورية العباسية لتنتشر حضارة الإسلام برجال من أعراق غير عربية لكن اللسان الإمبراطوري العظيم.. لسان العرب هو الذي لم ينهزم.. فكل هؤلاء الرجال العباقرة من غير العرب كانوا عرباً.. عرباً تكلموا العربية، فكروا بأسلوبها، كتبوا بها.. فالحضارة الإسلامية صناعة مسلمة بوجدان عربي، بلغة عربية، ليس هذا إرهاصاً إنما هو معجزة، ليست معجزة العرب وإنما معجزة الإسلام.
إن الإسلام ليس دين عبادة فحسب وإنما هو حرية الوجدان والفكر في انطلاقة لاعتناق ما هو حسن، واجتناب ما هو سيئ، فلم يتنكر المسلمون إلى علم الصين والهند واليونان والرومان.. أخذوا كل ذلك فأعطوا على ذلك.. ليس هذا إرهاصاً وإنما هو معجزة.
* * *
تقدم إليكم الأثر الاجتماعي وكيف كان المظهر السيئ له عائد حسن، فالقتال والوثن والخلاف.. كل هذا مهد كإرهاص لمعجزة الإسلام.. غير أن هناك الدعامة والأساس، أساس سرمدي هو وحدة الأرض، فالأرض عربية كأنما طوفان نوح وأبناء سام الذين هم الخلاصة التي جاءت بالشعوبية العربية، فالشعوب العربية هي الأولى بوراثة السامية لا غيرها.
إن وحدة العرق في الغالب في وحدة الأرض كان إرهاصاً للإسلام، فاتصال الأرضين التي عمرها العرب سهل قبولهم للإسلام حتى إن الاستعمار الروماني والفارسي كانا من هذه الأسباب التي انتصر بها الإسلام كما انتصر عليها، فالشعب العربي في الشام، في العراق، في اليمن، في مصر في أفريقيا، وجد وهو في ثورة على المستعمر الغوث في الفتح الإسلامي.
فالوجه الرديء للاستعمار له وجه آخر هو حرب الشعوب عليه قبلت الغوث حين فتحت الأرض الموحدة انفتح قلب ساكنها العربي لهذا الإسلام.
وحدة الأرض عامل كبير، فرغم صعوبة وسائل المواصلات كانت وحدة الأرض هي القريبة التي سهلت صعوبة المواصلات إلى قرب الاتصال.
وهناك عامل أساسي أيضاً بعد وحدة الأرض هو وحدة اللغة.. لهجات الشعوب العربية كانت قبل هذا التوجيه للغة كأنها لغات متغايرة، وجاء الأمر قبل الإسلام إرهاصاً في الأسواق العربية أهمها سوق عكاظ تجتمع القبائل، يتسع الحوار، تتصافح القربى، تتعارف الرجال، تتوحد اللغة.. كانت وحدة اللغة تمهيداً لفهم القرآن جاءت بيانية فصيحة في أمة بيانية فصيحة.
إن وحدة اللغة عامل أهم كان رديفاً لتأثير القرآن، يعرفونه، يفهمون لغته، متوحدين في هذا الفهم بلسان واحد عربي مبين، فكان من السهل أن تدخل لغة القرآن مسامع الوجدان الموحد بلسان واحد.
* * *
تقع الأمة العربية الآن في خطأ الانعزالية.. كل شعب يؤرخ لشعبه، مصر تنعزل بتاريخها مستقلة به عن العرب، العراق.. لبنان.. تونس.. الخ ما هنالك.
فراعين، فينيقيون، كلدانيون، آشوريون.. إن هذا الانفصال أو الانعزال.. تجزئة لتاريخ أمة العرب، بينما كل هؤلاء عرب، ليس برهاني وحدة اللسان، وإنما برهاني وحدة الأثر، فالإثارة العربية في الجزيرة وعلى الخليج تناغينا بأنها المدد لآثار الآخرين، أو الامتداد لها.. ذلك ما يأتي به الزمان عندما نتعاون نحن وأنتم على كشف المخبأ.
زارني أستاذ تاريخ مصري في يده بحث عنوانه ((الاستعمار الآشوري)) فألهمت ساعة في الحوار معه.. أقول له إن كلمة الاستعمار حديثة، وكلمة الاستيطان أحدث وأرى أن تسمية انسياح الآشوريين أو الهكسوس أو الفينيقيين أو الكنعانيين من أرض عربية إلى أرض عربية.. أن تسمى بالاستعمار. فالاستعمار تسلط أجنبي، والعربي حين يأتي بلداً عربياً ولو بصورة غزو فإنما يعمر أرضه، ويتآخى مع إنسانه فيذوب فيه.
إن دعاة الفرعونية، والفينيقية، يزعمون أمرهم لو انتصروا أن يعدوا الفتح الإسلامي لمصر أو لبنان أو تونس استعماراً.. قياساً على وصف الآشوريين والهكسوس بالمستعمرين.
من هنا كانت الدقة في عظمة التسمية الإسلامية، تسمية ضم الأراضي العربية في وحدة العقيدة ووحدة اللغة والوجدان فتحاً.. إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً (الفتح: 1).
الفتح العظيم.. حتى الترجمة لكلمة غستاف ليبون إعراباً عن هذه الدقة في التسمية.
أنا لا أعرف كلمة غستاف ليبون بالفرنسية وإنما أعرف الترجمة ((ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب)) أو الكلمة الأخرى.. ((لقد فتح العرب في ثمانين عاماً أكثر مما فتح الرومان في ثمانمائة عام وأكثر من ذلك)).. لهذا أدعو الشعوب العربية أن تفقه تاريخها.. تاريخ أمة واحدة، لكل شعب امتيازه، لكل شعب جهده.. لكل شعب مجده، لكن التاريخ واحد والأمة واحدة.. إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (الأنبياء: 92).
فالخلاصة أن العرب حملة رسالة.. بناة حضارة.. صناع سلام.. يحتفلون بالصداقة يحترمون حاضرهم، ويعملون لمستقبلهم.. فما أكثر ما تبرأوا من الحقد، وما أكثر ما تجرعوا من الحقد.
العرب بالإرهاص وبالمعجزة كانوا وما زالوا قوة تؤمن بالحق، وتخضع لقانون الحق، وتريد أن تكون أمة تعمل للسلام، لا تغتال أرض أحد، ولا تستغول في دماء البشر، وإنما تريد سلامة الناس من الناس.
كأنها بهذه الفلسفة إنسان الإنسان، لا تلوموني إن فخرت بأمتي فكلكم فخور بأمته..
العرب أعراق والعروبة استعراق
ـ وحين رست السفينة على الجودي، فاستغرق أبونا سام يزرع بنيه في الأرض الوسط - جزيرة العرب - فأبناؤه الذين حافظوا على العرق واستحوذ عليهم الاستغراق في الأرض.. جعلوا من وادي النهرين، والأرض الممرعة غرب النهرين، والأرض اليانعة: اليمن السعيد.. جزيرتهم كأنما هم حين تعربوا أعربت الأرض عن عروبتها، فالإنسان العرق، واللغة العراقة، والأرض الاستعراق، والزمان المغرق في القدم.. كل هؤلاء لا يمكن إلا أن تكون التسمية لهم: العرب إنساناً، والعربية لغة، والعروبة أرضاً، ولا غير ذلك!
* * *
وتأتي من كل هذا - حين تفرع أبناء قحطان (يقظان بن أرفخشد) إلى فروع شتى - أن تستأصل العرق العربي في أقوام، ولن أقول قبائل؛ فمن بيان القرآن الكريم أن سمى قوم عاد قوم ثمود، كما سمى دون إضافة ((قوم)) فرعون: أصحاب الرس (الأنباط).
قوم امتد لهم قوام في العصر السحيق: عاد ثمود، الفراعين، الكنعانيون، الفينيقيون، الآراميون، المعينيون، الحميريون، إلى آخر ما هنالك، فاستقروا على أرضهم العربية يستعرقون فيها، حتى إذا أحسب أن اسم (العراق) كان من هذا الاشتقاق.
وطال الأمد، وليس في كل هؤلاء إلا أنهم العرب في أعراقهم.. لا دخيل ولا مستعرب.
* * *
وحين كثر النسل، وتتابعت هجرة الموجات راحلة من الجدب الذي حل بعد المراع.. إلى ما جاورها من الأرضين الممرعة حول النهرين في العراق، وإلى النهر في مصر، فإذا الاختلاط بالقادمين من الجوار، أو مع الساكنين في الأرض التي رحلوا إليها بدأت العروبة تطغى على اسم العرب، فالعرق قد اختلط، أو قد تطور في الأرض التي سكنها، فإذا الاستعراق عروبة، أعني بذلك أن العربي اليوم إنساناً لم يعد صاحب العرق المصفى في كل الأقاليم العربية من الخليج إلى المحيط، وإن بقيت صفوة العرق متأصلة في اليمن والصحراء، فالعرب العرق قد أصبحوا الآن: العروبة الاستعراق، فالأرض فعلت ذلك حين اتسعت، واللغة فعلت ذلك حين توسعت، والتاريخ المشترك فرض ذلك والمصالح المشتركة تدعو إلى ذلك، والمصير المشترك يحتم ذلك!
وفي الأثر: (أنا عربي ولسان أهل الجنة عربي).
وفي أثر آخر: (من تكلم العربية فهو عربي).
فبلال وسلمان، وابن المقفع، والجاحظ، وابن الرومي، وأبو نواس.. أقسم أنهم عربيون عربيون.. حين عشقوا ((مجنة)) كبلال. حين كان ((سلمان)) من أهل البيت. حين صارت اللغة العربية مشرقة في بيان ابن المقفع، والجاحظ.. مترفة مترفة في شعر ابن الرومي وأبي نواس ومهيار، فمن ينكر على هؤلاء أنهم عربيون؟!
* * *
ولا أنسى ((شوقي)) فإنه من هؤلاء!
هكذا القرآن، هكذا اللغة، وهكذا الأرض.. فالذين يكتبون العربية اليوم، ويعيشون في وجدان القارئ العربي في الدار البيضاء وفي بغداد.. في دمشق وفي مكة، لا يقدرون بحال أن يعتزلوا العروبة، وإنما هم خذلوا أنفسهم، كأنما ((عودة الروح)) يعالجها النزع بخرافة ((عودة الوعي)).
* * *
لكن الذين اعتزلوا قد أوضحوا أنفسهم، فما أسرع الفضيحة إليهم، ولكن يدعون العروبة، ثم هم يتعاملون معها بالفراق والشقاق.. هؤلاء لن يكونوا إلا وقد أنهكهم العقوق، فمن يدعي أنه معك، ثم يكيد لك في الخفاء شر من الذي يعلمك أنه ليس معك!!
* * *
العرب.. نسب وسبب وحسب !
بهذا العنوان الذي سجع فيه حرف ((الباء)) ولم يكن القصد التزاوج بالسجع، وإنما القصد إجراء الحوار بين النسب والسبب والحسب! فكل من هؤلاء قد يكون وثيق الصلة بالآخر، وعوناً له وانتصاراً به، وقد تأتت ظروف ووقائع فرقت بين الأحبة.
فالنسب: العزة والحمية والفخار.. قد أصبح قاتلاً، فكل ما جرى على العرب من فرقة وشتات، وشرب الدم واستساغة القتل، كان النسب هو فاعله.. فالقاتل الأول في الأمة العربية هو النسب، كأنما قابيل وهابيل قد أخذ العرب عنهما ثلاثة أرباع التركة.. فإذا ما فتحنا أعيننا على فقه التاريخ نجد أن ((عثمان بن عفان)) قتيل النسب لا قتيل الفتنة، فالذي أشعل نارها أقرب الناس إلى عثمان بن عفان.
والعبشميون، والهاشميون، والأمويون، والعباسيون، كلهم أب واحد، نسب واحد.. تباعدوا عن السبب، وأرادوا أن يضيفوا إلى شراسة النسب حين تشرسوا به أن يصنعوا لأنفسهم حسباً جديداً، فقد أبكوا السبب - أعني الوحدة في العقيدة تمنع أن يكون قتال بين أبنائها، والوحدة في الأرض تحرم على أبنائها أن يمزقوها أشباراً.. كل فريق فرح لما لديه.. ووحدة المصير إن بقيت قرونها الثلاثة مصونة بإمبراطورية ((أمية)) وإمبراطورية العباسيين في عهد القوة التي كانت لها.. فإنها في الإثني عشر قرناً التي بعد مزقها هذا النسب القاتل إلى دويلات وسلاطين لم تقو على صد التتار والصليبيين والمذاهب المنحرفة، حتى إذا شن الاستعمار حرب الاستغوال والاستقلال وجد أن العرب أمة منهوكة القوى، متفرقة الرأي يطحنها طحناً.
سواء كان استعماراً مباشراً بفرقة من الجيش، وافتراق من الشعب، وارتفاق من العملاء، أو كان - وفي هذا العهد الجديد - على صورة من دعوى الصداقة، كأنما هو النزح.. قد كان متحاً بالدلاء، بأيدي المستعمرين، أو أصبح منحى من أيدي الأصدقاء والحلفاء!
هذا النسب وما فعل، فإذا السبب يقول: أنا العقيدة، أنا الوحدة.. سقتكم بذلك إلى الفتح العظيم.. تسوقتم بي الحضارة فانساق الشر بي إلى بعيد، لكن النسب عطلني!
وجاء الحسب.. مآثرها أكثرها في وجدان العربي، فهل سمعتم أن عربياً نصرانياً طائياً اسمه ((أبو زيد)) كان مع صوان النسب.. الحفيظ على السبب.. المقاد بالحسب، فتى الإسلام والعرب الذي استغول في أطراف العراق والفرس: المثنى بن حارثة الشيباني، فحين سل سيفه في مواجهة الفرس، قال له عشيره النصراني ((أبو زيد)):
ـ ((ما تراني أصنع اليوم))؟!
فشمخ ابن ربيعة الفرس يكلم الطائي بن قحطان.. يقول له:
ـ ((قاتل على أحسابك))!
فإذا ((أبو زيد)) يقاتل، ويقتل.. لا أجد كلمة أقولها عنه إلا كلمتين: كلمة رسول الله محمد بن عبد الله بن مضر الحمراء حيث قال عليه الصلاة والسلام:
ـ ((إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، أو الرجل الكافر)) كما قال.
أما الكلمة الأخرى، فكلمة الإمام ((الحسن البصري)).. مات جار له، لعلّه كان يهودياً أو نصرانياً، فشيع جنازته.. عاطفة المسلم على الذمي، ثم قال.
ـ ((اللَّهم ارحمه برحمة أهل دينه)).
وكأنما ((الحسن البصري)) قد اقتدى برسول الله صلَّى الله عليه وسلم، فقد كان جالساً يوماً ما في جمع من أصحابه، فمرت جنازة، فقام ذو الخلق العظيم يحترم الموت، فقالوا له: إنه يهودي، فقال عليه الصلاة والسلام:
ـ ((أوليست نفساً))؟!
فاحترام النفس سبب، وهو في الوقت نفسه حسب.
ـ ثم قال الحسن أيضاً: كان واحد من أصحاب الحسب والنسب قد ارتد عن السبب، فادعى النبوة، فلما هزم ورجع إلى الإسلام.. كان حسبه أن كان عظيماً حين صار على خلق حسن.. فارساً في القادسية أوصى عمر بن الخطاب، قائد القادسية ((سعد بن أبي وقاص)).. قال له:
ـ ((عندك اثنان: طليحة الأسدي، وعمرو بن معدي يكرب الزبيدي.. لا تقطع أمراً دونهما))!
مع أن كلاً منهما ارتد، لكن السبب أسقط النسب، والحسب أعز السبب!
وسار الجيش الفاتح إلى ((نهاوند)) فانتدبوا طليحة الأسدي يسبر الطريق أمام الجيش، فغاب طويلاً، وظنوا به الظنون.. حسبوه قد ارتد يذهب إلى العدو.. فلما أقبل عليهم يصافح قائده ((النعمان بن مقرن)) علم عن سوء الظن فيه، فقال كلمة الحسب:
ـ ((أوتظنون بي الظنون.. تحسبونني أترك قومي العرب جزراً لهؤلاء الأعاجم))؟!
هكذا.. الرجال كانوا، فأين هم الآن؟!
إني لأغمض عيني، ثم أفتحها
على كثير، ولكن لا أرى أحداً
* * *
ذهب الذين يعاش في أكنافهم
وبقيت في خلف كجلد الأجرب!
إن النسب لا يعاب إلا إذا كان هو القاتل، وإن السبب لا يعق لأنه الموحد، وإن الحسب لا يجفى لأنه الحلية والفخار!!
وحري بنا أمام هذا الموضوع أن أنشد قول ((الرصافي)):
وإن لهاشم في الدهر مجداً
بناه لها الذي هشم الثريدا
فدعني والفخار بمجد قوم
مضى الزمن القديم بهم حميدا
فخير الناس ذو حسب قديم
أقام لنفسه حسباً جديدا
وشر العالمين ذوو خمول
إذا فاخرتم ذكروا الجدودا
مصر.. الرباط والمتنفس
ـ كثيراً ما حاولت أن أشدد النكير.. أرفض به خصومة الوقت، لأكون شديد الحرص على الإبقاء.. لا تتأثر بخصومة الوقت علاقة الزمن، فالخصومة.. الوقت بين الزعامات لا تلبث إلا أن تزول.. بالمصالحة، أو الموت، أو حتى الاغتيال!
إن الأمة العربية تمر في مرحلة - الآن - أقسى وأنكى من المراحل التي ذاقت مرارتها من قبل، فمرحلة الوقت اليوم أشد وطأة من موجة التتار وسعار الصليبيين وطغيان الاستعمار.
مرحلة اليوم: أنها بين المطرقة والسندان.. مطرقة اليهود، مطرقة الاستقطاب لإحدى الإمبراطوريتين. أما السندان فهو تجرع الغصة تلو الغصة، كأنما الأقاليم العربية قد عادت إلى الحروب القبلية. ولعلّ هذه الغصص بهذا الخلاف والافتراق والشقاق هي الأشد شراً من طغيان اليهود، وسيادة الاستقطاب.
وحين رفضنا خصومة الوقت لم نكن في سلامة من الخوض في خصومة الوقت.. إنكاراً لعمل دعا إلى خصومة الوقت، ولكننا اليوم في حاجة إلى أن نبدأ في تجديد العلاقة.. علاقة الزمن لنكون الأمة الواحدة، لا بشعار إمبراطوري، ولكن بمشاعر الحب والتضامن ننبذ الخلاف.. نعطي الفرصة للشعوب أن ترفض خصومة الوقت لتعتنق الصداقة مع المصير.. مصير الأمة الواحدة.
من هنا.. أريد أن أتكلم عن ((مصر - الأرض والإنسان)) لأعطي تاريخ العلاقة - الزمن حقها:
إن مصر حين تسلم زمام الأمر فيها فاتحها ((عمرو بن العاص)) اعتنقت الإسلام، وحين طرقت أبوابها موجة بني هلال وسليم من شرق المدينة المنورة، وعالية نجد أصبحت مصر قد أمسكت بالعرب العرق، والعروبة الاستعراق.. كأنما الأرض العربية عروبة ((أحمس)) امتد بها الزمن لأن تكون عروبة القرآن، ولو لم تفتح مصر لاهتز الإسلام في الشام من حملات رومانية يقودها القيصر، لكن الجناح الأيمن - مصر - قد حمى الإسلام الجناح الأيسر - الشام.
وكانت لفتة مني قبل أعوام مضت في كلمة قلتها مراراً، فأول مرة كانت أمام أمين الحسيني ورياض الصلح وعزت دروزة وبشير السعداوي في المدينة المنورة، وفي صالة جماعة المحاضرات، وبعد سنوات قلتها أمام شكري القوتلي، في الصالة نفسها، وآخر مرة قلتها أمام الملك سعود يرحمه الله، وأمام جمال عبد الناصر يرحمه الله في حفل أقمناه نحن السعوديين في فندق هيلتون بالقاهرة.. والكلمة هي ذات شطرين:
ـ ((لئن قدس الدين الإسلامي مكة والمدينة وبيت المقدس، فقد قدس العرق والدم والتاريخ والمصير: دمشق وبغداد والقاهرة، وكل شبر من أرض عربية.. من مخاضة عمرو بن العلاء في الخليج، إلى وطأة القدم - قدم عقبة بن نافع على المحيط)).
أما الشطر الثاني، فقد قلت أمام الملك والرئيس في خطاب ألقيته أمامهما:
ـ ((من المدينة المنورة - قاعدة الفتح الأول - بلدك يا صاحب الجلالة تفرعت للفتح قاعدتان: قاعدة في دمشق تمتد إلى الكوفة، وقاعدة الفسطاط.. امتدت إلى القيروان، إلى فاس، إلى قرطبة. قاعدة دمشق شرق منها الفتح ولأسباب لم يغرب، أما قاعدة الفسطاط فغرب منها الفتح وغرب))!
لم أقل ذلك استجداء لعاطفة، أو استرخاء من عاطفة، وإنما هو الاعتلاء بالعاطفة.. فحين يفرغ وجدان العربي من عواطف الحب، فإنه أول من يهلك نفسه بالبغضاء!!.
ولنتأمل.. لو أن شعب الجزيرة العربية كلها بالمسجدين، وبنجدها وتهائمها وسراتها قد تجرع من الأحداث التي جرت عليه البغضاء واعتنق الأحقاد على الذين أجروها عليه لكان غير جدير بالأمومة وبالأبوة.. أبوة التاريخ واللغة والدين والأعراق.. إنه لا يعيش البغضاء للشام بما فعل الأمويون في الحجاز، وفي المدينة المنورة ومكة المكرمة بالذات، وإنه لا يعيش الأحقاد على العراق بما فعل المنصور من قتل أبناء عمه في المدينة المنورة، وفي فخ، وفي الكوفة، وبما فعل المعتصم حين أرسل الأفشين وبغى يدكون نجداً دكاً.. تذوب قبائل، وترحل قبائل، ولو أنه يعيش الأحقاد لما غفر لمصر ما صنعه محمد علي، ولما كان لجمال عبد الناصر، ولما كان العون لأنور السادات قبل العبور، وأثناء العبور، وبعد العبور!
لقد كلفنا تراثنا وميراثنا حين شرفنا بأن نحب.. بأن نسقط البغضاء، نعيش فترة مع خصومة الوقت اضطراراً، ولكننا نعيش بصداقة الزمن دهرنا الطويل!
وهكذا.. كانت هذه الجزيرة أما لإنسانها الذي ذهب للجهاد وللفتح، وكان العراق والشام ميادين الموجة بعد الموجة للفتح شرقاً وغرباً، وكان المغرب هو المصب يغترف من المشرق ليستوعب، ليمثل عطاء جديداً، فمن هنا نربأ بالمغرب (كله) أن يستمر في الشقاق.. فعبرة الأندلس أرجو أن لا تعبر المضيق.. إلى الأرض التي عبرت المضيق فأعطتنا الفردوس المفقود!
* * *
أما مصر، فبما ذكرنا قبل تحقق فيها معنى الرباط: جيش يسير للفتح، وجيش مسيرته أن انتصر على التتار، وانتصر على الصليبيين، وأعان على هزيمة الاستعمار، والرجاء فيه: أن يكون له عبور بالعودة إلى حظيرة الأمة العربية حين تعبر إليه عواطف الشعوب العربية!
وكلمة الرباط، ليست من عندي. فهناك أثر رواه السيوطي، ومعه آثار أذكرها استجداء للحب، وإسقاماً للبغضاء، وهذه الآثار إن ضعف لها سند أو اختلف لها متن، فواقع مصر فيه التصحيح لها:
فالأثر الأول هو: لا يزال أهل مصر في رباط إلى يوم القيامة.
والأثر الثاني هو: إذا فتحتم أرض القبط فاتخذوا منها جنداً كثيفاً سيكون من خير أجناد الأرض.
والأثر الثالث هو: إذا فتحتم أرض القبط فاستوصوا بهم خيراً، فإن لهم رحماً وقرابة.
تلك آثار على أن مصر ((دار رباط)) فلولا الرباط فيها لما كان الانتصار على التتار والصليبيين ومن بعدهما.
أما مصر المتنفس، فحين ضاقت أرض بالأئمة من الحجاز، وبالعترة من أهل البيت وجد الجميع المكان الذي أحاط وحفظ وأعز واعتنق مذاهب الأئمة، وحين عض الأفشين نجداً سرت موجة بني هلال وسليم وزغابة، فوجدت الملجأ في مصر وكانت جيش النصر للمعز ينتزع شمال أفريقيا من سلطان بربري ليكون السلطان عربياً.
أما الصورة الأخرى للمتنفس، فإن الكثيرين من الذين يمسهم الضيم في أرضهم يهاجر بعضهم إلى مصر، وإن بقي لا يستطيع الكلام عن الظلم الذي أحاط به، فلا يجد إلا مصر ينفس عن نفسه بالكلام عليها، وحتى السباب يتلمظون على أن يسمعوا سبة لهم من زعيم، كأنه يعطيهم التنفس ليبدأوا السباب.. يفرجون به عن كروبهم، فلا تجد شاعراً أو كاتباً يستطيع أن يقول كلمة في إقليمه، ولكنه يجد المجال واسعاً أن يقول الكلمة عن إقليمه في شخص الإقليم المصري!.
* * *
الحريق شرق السويس والغريق غربه!
الإنسان في كل أدوار حياته، وفي ما طبعه الله عليه مساير لسنن كونية.. منها التزاوج والازدواج، فالتزاوج هو حياة الحياة به تتكاثر وتنمو بالتناسل والثمار - من كل زوجين اثنين.
من هنا يحمد التزاوج، لكن الازدواج ليس في طبيعة الإنسان كغريزة وإنما هو التطبع بالاكتساب.. نحمد منه الازدواج المتناظر، وحتى الازدواج المضاد كالسماء والأرض، والليل والنهار، والبحر والبر.. إلى آخر ما هنالك من هذه الازدواجية التي تتناظر.. نظير يقابل نظيراً.
لكننا قد وقعنا اليوم في ازدواجية التناحر: شرق وغرب وجنوب، ففي الشرق إمبراطورية الكرملين، وفي الغرب إمبراطورية البيت الأبيض، في الشمال شعوب أطلقوا عليها صفة التقدم، لأن التعريف بذلك قد حدده الرخاء وألزمت به الصناعة. وجنوب وصفوه بالتخلف لأنه فقير.. مع أنه مصدر الغنى للشعوب الشمالية التي فوق خط العرض 30، فلولا ما يستورده الشمال من الجنوب من الطاقة والغذاء.. لما كانت صناعة في الشمال، ولما كان هذا الترف.
إن هذا التحديد الاقتصادي برقعة للسلوك الإنساني، فشعوب الشمال المتقدمة هي التي وضعت الإنسانية من زمن غير بعيد، وبعد الحربين العالميتين الأولى والثانية في موضع الخوف والهلاك. من هنا - وبالأسلوب الذي تسير عليه شعوب الشمال التي تعلن اختلافها المذهبي كمادة لتخويف شعوب الجنوب، وإلا فشعوب الشمال وإن لم تكن في أمن من الخوف فإن لديها المناعة من التخويف.. لأنها تعقل كيف تصون الأمن بينها - لهذا أريد أن أقلب الجغرافية الاقتصادية شمالاً وجنوباً إلى جغرفة تحدد أسلوب صانعي الشر والحرب والتخويف.. أجمع كل الشمال في حد واحد، وهو أنه تحده من الغرب: شمال الأورال، إلى ساحل المحيط الهادي غرب الولايات المتحدة وكندا، ويحد من الشرق: أيضاً من جبال الأورال إلى ساحل المحيط الهادي غرب الولايات المتحدة.. فهذا التحديد لا يخرج الاتحاد السوفيتي من هذه الازدواجية التي تنال من شعوب الجنوب وتفترس كل ثرواته كل ثرواته، وتستغل كل ثرواته، ثم هي لا تعطيه العوض.. تأخذ المادة الخام، وحين تدفع القيمة للمادة الخام تسترجع قيمة لما تبيعه من السلاح!
* * *
ولدينا نحن العرب ازدواجية - آسيويون وأفريقيون - تحكم الحد بينهما قناة السويس، كأنما العرب شرق السويس نظير للعرب غرب السويس، فتارة يكون هذا الوضع صانع حب.. جامع تراث، تمتد به العنعنات الحماسية، وحين يشتد الأمر وتضيق الأنفاس يبتعد النظير عن النظير، ليكون هذا الابتعاد أكثر شراً من التضاد.. كما هي الحال الآن!
فالحريق بدأ يشتعل شرق السويس، والغرق بدأ المتعة لمن هم غرب السويس! أفليست السلامة متعة؟!
وأكثر ما يتمتع به غرب السويس الآن هذه المهادنة بين شعوبه.. صنعها حكامه، فهل هي عن المهادنة.. جاءت من سأم الخلاف برجوع الأخ إلى أخيه، أم هي فرض التناظر يستريحون حيناً حتى يروا ما يحل شرق السويس، أم هو سلطان فرض استقطابه على الذين تبرعوا بطرح المهادنة؟!
فالتربص بالتناظر، والخضوع لانتظار الطوارئ، والاستماتة في متعة السلامة، وفرض الاستقطاب.. كل ذلك لا يتعدى أن يكون غرقاً، كأنما هو الازدواج بين الحريق والغريق.
ولكن.. من المستفيد من هذا الحريق، ومن ذلك الغريق؟.. هل هي إسرائيل وحدها في المشرق، أم هما الإمبراطوريتان يستعجل كل منهما أن تذبح البقرة في المشرق لتسلخ البقرة بعد في المغرب؟
إن إسرائيل ليست وحدها التي تستفيد، بل هما إمبراطورية البيت الأبيض وإمبراطورية الكرملين، فالأولى تزعم أن لها أصدقاء فتأتي إسرائيل بكل ما تفعل من التدمير والطغيان تدمر هذا الزعم لتبقى الولايات المتحدة بلا أصدقاء، كأنما إسرائيل - أرادت أو لم ترد أو أنها قصدت أو لم تقصد - أن تعطي إمبراطورية الكرملين ما تريد، وأن تحرم الولايات المتحدة ما أرادت، فأشعلت الحريق، فإذا الولايات المتحدة لا تصنع شيئاً تصون به مصالحها أو حتى تبقي على أصدقائها.. ذلك أنهم قالوا حين تساءلوا عن من أدخل الاتحاد السوفيتي إلى مناطق نفوذه في الأرض العربية شرق السويس وغرب السويس. مع أنه ينبغي على عقول أمريكية أن تسأل نفسها: أليس الاتحاد السوفيتي أصبح داخل الولايات المتحدة بهؤلاء اليهود الصهيونيين؟!
فلئن كانت إسرائيل عطاء للاتحاد السوفياتي، فإن ذلك ما فرضه اليهود على الإدارة الأمريكية.
إن نفوذ الاتحاد السوفياتي قد لبسه اليهود في داخل الولايات المتحدة، فعقدة فيتنام، والخوف وطلب الأمن.. كل ذلك قد أرجف بالشعب الأمريكي كما أرجف الإدارة الأمريكية، وكل ذلك أيضاً عطاء للاتحاد السوفياتي من داخل الولايات المتحدة.
إن الحريق شرق السويس لن يحرق هذه الأرض وحدها، وإنما نيران هذا الحريق ستأكل - أول ما تأكل - الصناعة في الغرب، وإنتاج الغرب، والبقية الباقية من نفوذ الغرب.
أفلا يوجد عقل أمريكي يبصر شعبه يرفض هذه الاستكانة لما يصنعه اليهود داخل الولايات المتحدة؟!
أحسب أن الأزمة كلما اشتدت سيجد الغرب القوة التي يبصر بها الولايات المتحدة.. لا لينقذ الأرض العربية، وإنما لينقذ نفسه وصناعته، ثم الولايات المتحدة من سلطان اليهود!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1091  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 818 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.