شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حَمد الجَاسر
ـ وكما قلت من قبل، أريد أن أسجل بعض الذكريات عن الذين يستحقون بعض التذكير بهم؛ فقد فاتنا الكثير عن الكثير، فاليوم أسجل بعض الذكريات عن أستاذنا علامة الجزيرة حمد الجاسر. فمكانته العلمية معروفة لعلّه الوحيد - وبصورة أكبر - هو الذي انتشر اسمه خارج الحدود لم يستجد هذه المكانة، فما أكبر نفسه، وعف عن الاستجداء.. عضو في مجمع اللغة يراسله العلماء والباحثون والأدباء من عربيين من شرق السويس وغرب السويس وحتى الآسيويين والمستشرقين، أعني المستعربين من الغرب.. عف أن يدخل في الزحام ولكن ما انكف أن يكون حوله الزحام. بعيد أن يقول (أنا) وقريب أن يقول كل واحد منا، إذا ما احتضن حمد الجاسر، أن يقول بهم ومنه وله عنه (نحن حمد الجاسر)، فالأهل يعتزون بالفخار بواحد نابغة منهم.
عرفته - أول ما عرفته - ليس في مكة المكرمة التي احتضنته طالباً فيها، فلم أكن حينذاك قد شرفني الله بالسكنى فيها.
ولم أعرفه في المدينة المنورة، وإن كان أحد بنيها، فقد ابتعد عنها آباؤه فأنجدوا وأنجبوا، فهو من هذا القبيل، من قبيلة حرب، من مسروح، من بني علي، التي تفرعت فرعين، فرع في العالية (العوالي) وفرع في نجد بزعامة شيخها فارس (أخو حسنة. عبد المحسن الغرم) فعلى هذا - أنا وهو - عزوة واحدة، فأنا نزيعة حيث ولدت في المدينة إلى حرب، فالمدينة من الغابة إلى اللابة حربية، قسمتها حرب إلى نصفين، فمن سوق الحبابة شمالاً إلى بني سالم، ومن نصفه الآخر جنوباً (مسروح) كأنما مسجد الغمامة مسروحي، ومسجد علي سالمي.
لم أعرفه في المدينة ولا في مكة كما قلت، وإنَّما عرفته في الخرج، حينما أنجدت موظفاً في معية عبد الله السليمان الحمدان، الوزير الكبير، والخادم المخلص لمليكه وأسرته، مليكه البطل عبد العزيز بن عبد الرحمن تغمده الله برحمته.
فقد كان الجاسر أستاذاً حربياً أستاذاً خاصاً لأبناء عبد الله السليمان، كانت معرفة رؤية، لا معرفة صحبة وصداقة، فهو بعيد عن الفضول، بعيد عن الاحتكاك بالناس، ثم سمعت عنه أستاذاً في مدينة ينبع ثغرنا الحبيب، وقاضياً في ضبا، حتى إذا أخذ يبيع ما اقتنى من كتاب الأم ليعيش، فقد شبع من لقمة العيش، وإنما من الكتاب الأم، فقد مرت أيامه الأولى وفي ينبع بالذات، وقد بدأ به الولع بالدرس والتدريس، فإذا هو يعرف أن الأخذ من الكتاب الأم لا يعني إلا اليقظة.. يعرف الصواب ويوضح على تلامذته في ينبع، فإذا هو يذكر النص عن ياقوت الحموي عن جبل رضوى (هو جبل في طريق الشام) فإذا التلميذ الجهني ربيب السفح لرضوى المتطلع إلى شماريخ رضوى، يقول للشيخ (دوك.. رضوى) أي انظر.. هذا رضوى. فإذا الجبل المشمخر يراه الشيخ يحتضن وادي ينبع روافده تصب في وادي الحمراء.. فعرف الشيخ يومها أنه ليس قارئ التراث فحسب، وإنما ينبغي له أن يحقق هذا التراث فكان حمد الجاسر علامة الجزيرة، ما أكثر ما حقق ودقق وكتب ونشر، فاليمامة مجلته، والعرب مجلته، ونحن تلامذته.
كانت هذه معرفتنا للعالم، وبقيت معرفتنا للإنسان، ورحلنا عن متن إحدى طائراتنا إلى الكويت، فتعثرنا بعوامل الجو، ألا نصل إلى الظهران إلا بعد أكثر من ست عشرة ساعة. أركب من جدة إلى المدينة ومن المدينة إلى الرياض فيمتنع على الطائرة النزول بعامل الجو، فنعود إلى جدة، حتى إذا صحا الجو عندنا إلى الرياض ومنها إلى الظهران ومنها إلى الكويت. فلم نصل إلى الكويت إلا بعد اثنتين وعشرين ساعة، وكنا لفيفاً من الصحفيين والأدباء، وحين نزلنا إلى مطار الظهران، كنا كالهلكى من النصب، فاسترخى كل واحد منا إلا حمد الجاسر، فذهب يركض إلى (البوفيه) يأتينا بالعصير، يسقينا كأننا أبناؤه، يخدمنا فكان بذلك سيدنا.
وفي الكويت كان هذا المنقبض على نفسه، الذي لا يتحرك لذاته، قد تحرك يتلفت بغضب، حيث لم نجد مكاناً ننزل فيه، فخاطب بعض المسؤولين فإذا الأوتيل يفتح لنا، كان فندقاً كبيراً نزلنا فيه.
إن حمد الجاسر قد حباني بكثير من الفضل، فرأيته في فندق اليمامة، وكنت في ريب من تصحيحه لخطأ وقع فيه حسن الكرمي بإذاعة لندن، في برنامجه (قول على قول) فقد سألوه: من قائل هذا البيت:
إن بالسفح الذي دون سلع
لقتيل دمه ما يطل
فنسبه الكرمي إلى صاحبه (تأبط شراً) ولكنه قال: إن سلع الجبل، هو سلع البتراء بالبلقاء (شرق الأردن) فكتبت أعقب عليه مستبعداً أن يذكر تأبط شراً هذه الصفة لجبل في البلقاء، فلعلّه قد أراد سلعا الجبل في المدينة، حسبت أنه أعرابي لا يذكر إلا جبلاً حول الأرض يسكنها، وقد أرابني هذا التعقيب، فسألت أستاذنا الجاسر فقال لي: لقد وقعت في خطأ كما وقع فيه الكرمي، إن تأبط شراً قد عنى جبله الذي في أرضه، ففي هذيل قبيله جبل اسمه سلع.
قلت له: هكذا أمتك العربية تستعذب أن تسمى أجبالها ومواطنها ومدنها بأسماء واحدة، حباً للقديم وتحبباً للجديد.
وزارني الجاسر في مجلة (الدارة) فإذا هو غاضب من الإجحاف، فواضع الأطلس التاريخي كما يقول الجاسر، قد أخذ ما وضع عن الجاسر، فما أنصف أن يذكر اسم المصدر، فقلت له: لماذا لم تكتب عن ذلك تفند الأخطاء وتوضح الواقع، كأنك تحترم دارة الملك عبد العزيز، مع أني أعتقد أن احترام (الدارة) هو أن تذكرها بالأخطاء وأن تهديها إلى الصواب، فالدارة ليست حكراً على أحد، وليست في منعة من الأخطاء والتصويب، بل إن مطلبها الأول والأخير أن تكون الدارة بك ولك، لا بعيدة عنك، فالمعهد الأكاديمي ينبغي أن يحظى بك ناقداً وموجهاً كما غيرك من أمثالك فليست هي برجاً عاجياً وإن ارتفع اسمها وعظمت غايتها بالنسبة إلى البطل المجمع لهذا الكيان الكبير، ولا أدري هل يفعل أم لا؟.
وبالأمس كنت في الرياض، سألت صديقه وصفيه الأخ عبد العزيز الربيعي عنه، قال: لم ألتق به إلى الآن.
إن حمد الجاسر ثروة وطنية لا أدري كيف لا تدعوه الجامعات كلها في أوقات تحدد بالتنسيق يكون فيها أستاذاً غير متفرغ يلقي محاضرات عن التراث ليس للطلبة فحسب، وإنما للدكاترة الذين ينبغي عليهم ألا يترفعوا عن التلمذة لأستاذ كبير.. لأنه لا يحمل لقب (دكتور) أم لماذا؟ المعنى في بطن الدكاترة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :962  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 815 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج