شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الشيخ محمّد العلي التركي
ـ وهذا الشيخ لم أتتلمذ عليه.. ولم أكن من حاضري حلقة للدرس.. فما أكثر فيما عرفته عنه مشافهة أتحفني بها أو مكاتبة راسلني بها أو حدباً وعوناً حتى الإغاثة أنقذني بها من مغرض لو أجريت الحساب فيما صنعته له أو فيما صنعه لي لكنت الراجح في إحسان إليه.. أعني هذا المغرض.. فقد ملك أن يلعب بمصيري.. ولكن الشيخ محمد العلي التركي قد أعان فإذا بي أعين أستاذاً في المدرسة ألقي الدروس على الذين كانوا زملاء التلمذة في فصول كان فصلي قبله.
ما كان أكثر هذا الشيخ محمد العلي التركي بهذا كله.. وما كان أقله في أن يأخذ مني ومن كل الذين صنع لهم المعروف أي جزاء.. وما كان أقله طلاباً في حلقته.. وما كان أجله متحدثاً إلى الكثيرين.. يطرح المشكلة ليدير الحوار كأنما هو قد عرف أن الحوار هو الأستاذ.. فمن يحترف الحوار يتعلم منه ويعلم به..
من هنا عرفت عنه الكثير.. رجل إصلاح.. جريئاً وصريحاً.. لا يداري ولا يماري.. لايصانع الأقوياء.. ويخفض جناح الرحمة والعون للضعفاء.
وهذا الشيخ لما كنا نسمع به.. ولم نعرفه.. فمن بداية الثلاثينات إلى أوائل الأربعينات ما كنا نعرف عنه شيئاً.. لأنه لم يكن قد وصل إلى المدينة حينذاك.. وفي بداية الأربعينات قبل أن يتم الضم لهذا الكيان الكبير فجأة وفي المسجد النبوي.. فبعد عصر يوم كنت وإخواني محمد سالم الحجيلي ومحمد إياس توفيق يرحمه الله ومحمد نيازي وعلي كماخي في حلقة الدرس أمام شيخنا وأستاذنا السيد محمد صقر.. نقرأ في النحو كتاب (قطر الندى) لابن هشام.. فإذا إنسان قد وقف على الحلقة يسمع الدرس.. رأيناه أبيض الثياب من قماش جيد يلبس عباءة من النوع المسمى (أبو شهر) من غزل فارس.. من وبر النوق.. كان أحلى المشالح وأغلاها.. من يومها عشقت هذا المشلح.. ذكرت هذا الترف في اللباس لأنه بعد ذلك ترك الترف ولبس الشظف.. الثوب من (الدوت) والمشلح من أقل الأنواع.. بل إنه في آخر الأمر ترك المشلح يتخفف منه كأنه قد زهد في أي زينة.. سألناه عنه فعرفنا اسمه.. وكان من دأبه أن يدور على حلقات الدرس في المسجد النبوي الشريف.. يقف على حلقة إبراهيم البري، والشيخ حميدة، والشيخ عبد القادر شلبي، والألفا هاشم.. يريد أن يعرف فقد كان يجل طلبة العلم والعلماء.. كان حنبلي المذهب.. ولم يكن أشعرياً ولا توريديا.. لكنه لم يغاضب أحداً ممن خالف مذهبه.. ولم يجف واحداً من هؤلاء.. سماحة خلق.. ونظافة وجدان.. وحين عرف أن من السياسة الحصيفة.. سياسة الملك البطل عبد العزيز بن عبد الرحمن رحمه الله.. أن جلالته كان الحريص - كل الحرص - على تقريب البعيد.. فما أكثر ما قرب من هؤلاء.. عبد العزيز بن عبد الرحمن.. فحين عرف الشيخ ذلك توسط في عودة من يعرف من علماء المدينة أو أعيانها.. كالشيخ عبد الحفيظ الكردي الكوراني جاء من العراق فتولى القضاء.. وكالشيخين الأخوين أبي بكر حماد وعمر حماد.. جاءا من موريس ومن الهند.. فقد كانا من قبل الأربعينات يبشران بالإسلام ويؤمان المصلين في المساجد.. رجعا إلى المدينة فتوليا القضاء.. وكالشيخ محمود عبد الجواد الذي كان رئيساً لبلدية المدينة جاء من إندونيسيا يسعد بأهله وأبنائه.. كانت هذه السياسة راحمة.. وكانت الشفاعة جالبة لتلك الرحمة.
وحين حضر الشيخ كامل القصاب الزعيم السوري ناشر العلم في دمشق.. يعرف قدر ذلك تلميذ مدرسة أستاذنا الشيخ علي الطنطاوي حين حضر إلى المدينة جلس يسمع في حلقة الشيخ محمد العلي التركي فإذا هو يطريه كما يطري الشيخ حسن الشاعر يرحمه الله.. ونمت صداقة بين الشيخين القصاب ومحمد العلي التركي.. وفي أزمة مرت بين الشيخ محمد العلي التركي والأعيان من أهل عنيزة على بعض من الخلاف.. فالشيخ محمد العلي وأخوه إبراهيم التركي والد الصديق عبد الرحمن الإبراهيم التركي ووالد الصديق الدكتور منصور الإبراهيم العلي التركي مدير جامعة الرياض.. ومعهما ناصر العبد الله العقيل ومحمد الدغيثر.. فسمع القصاب بهذا الخلاف فقال لي: اسأل لي أين الشيخ؟ وكان ذلك في عيد شوال في أواسط الأربعينيات.. وسألت فإذا الجميع كلهم قد عيدوا في قباء في (بلاد) الشيخ عبد الله بن مسلم الحربي الميموني المحمادي والد صديقنا الشيخ حليت مسلم..
وذهبت إلى الشيخ القصاب أقول له: لا يحتاج الأمر إلى أن تذهب فالجميع كلهم في مكان واحد على طعام واحد.. قال: سأذهب.. فاستأجرت له عربة (كرو) وركبت أخدمه.. أدله الطريق.. فدخلنا قبل ظهيرة يوم.. فإذا هم محمد العلي التركي، إبراهيم العلي التركي، صالح الإبراهيم القاضي، صالح العبد العزيز الميمان، عبد العزيز محمد الخريجي، ناصر العبد الله العقيل، محمد الدغيثر.. يجلسون في صفاء.. كأنما هم قد نظموا السلوك.. يقتلون الإشاعة عن الخلاف.. رجاحة العقول والحفاظ على الكرامة.. ولكن الشيخ القصاب أبى إلا أن يطرح السؤال عن الخلاف.. فإذا كل منهم يطرح رأيه.. ثم كلهم قالوا للقصاب.. إننا نحترم حضورك ونكبر مسعاك.. فقد انجلى الخلاف.
وكيف تأصلت علاقتي به؟ وذلك حين شكلت هيئة التفتيش والإصلاح أسسها الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن برئاسة الشيخ حافظ وهبة وعضوية الشيخ محمد العلي التركي ومحمد سليمان التركي ومحمد وإبراهيم الصنيع وكلهم من القصيم.. وأحمد السبحي من مكة، وصالح نصيف من جدة.. فوصلوا إلى المدينة ليفتشوا ويصلحوا.. فعدلوا بعض الوظائف، وعينوا بعض الموظفين.. في مرحلة بعد مرحلة.. ثم زاروا المدرسة السعودية وكنت يومها خادماً عند الشيخ عبد القادر شلبي شريكاً معه في مدرسة خاصة لتلامذة خاصين.. كان قبل أن يعود إلى المدرسة يستقبل التلاميذ في المدرسة الجوهرجية وفيها رباط يسكنه طلاب علم.. ثم حين عاد إلى المدرسة بعد انتقال الشيخ أحمد كماخي إلى القضاء.. نقلنا هؤلاء التلامذة الخاصين وقد شكل منهم فصلان، فصل يلقي فيه الشيخ عبد القادر شلبي بعض الدروس، وفصل تكلفت بإلقاء الدروس فيه.. الجغرافيا والتاريخ ومبادىء الهندسة والحساب.. وكنت ساعتها ألقي الدرس ولم أدر أن هيئة التفتيش والإصلاح قد حضرت.. فإذا بي أرى صديقي محمد سالم الحجيلي قد أرسل إلي رسولاً يدعوني إلى الصعود إلى مكتب المعتمد..
فدخلت وسلمت على الجميع.. فإذا الشيخ محمد العلي التركي يرحمه الله.. يقول للشيخ عبد القادر يسمعه ثناءً علي ويسمعه أعضاء الهيئة كلهم..
هذا الشيخ أستاذ علي حافظ وعثمان حافظ وأحمد العربي وأحمد النقشبندي وهذا - وقد أشار لي - محمد حسين زيدان.. ثم قال - وكأنه كلمته تسمع.. لا يقول له (لا) حتى حافظ وهبه - يأمر محمد سالم الحجيلي.. يعين الأستاذ محمد حسين زيدان أستاذاً في المدرسة.. ثم يسأل الشيخ عبد القادر: لماذا لم يعين السيد محمد صقر أستاذاً في المدرسة كما كان؟ أكتب يعين السيد محمد صقر أستاذاً في المدرسة.. وافق الجميع.. فقال الشيخ عبد القادر شلبي بلهجته اللبنانية: زيدان (أصبحت رجل.. غير لباسك.. غير زيك) وكنت أتزين بزي أولاد الحارة.. لفة شال وحزام كشمير.. ولم أغضب.. بل ابتسمت وقلت للشيخ عبد القادر: ولم أنت تعرف أن كل شيء يلبس.. الذهب والحرير.. ولكن الأصغرين لا يلبسان.. فقال الشيخ محمد العلي التركي يرحمه الله.. إنهما منحة الله.. فقلت: اللَّهم امنحنا إياها.. وإذا الشيخ حافظ وهبة يرحمه الله يقول لي: قف على الخريطة.. فوقفت وسأل عن بعض الأنهار والخلجان والجزر.. وكنت وما زلت - ولله الحمد - أستاذ جغرافيا.. هذان كانا تلميذين بالأمس.. واليوم أستاذان لكم وثقوا أن حكومة الملك عبد العزيز لا تلجأ إلى أجنبي ما دام فيكم الأكفاء..
وأعلنت مديرية المعارف عن الابتعاث إلى مصر لثلاثة أشخاص.. فكتبت للشيخ محمد العلي التركي وهو في مكة أستأذنه.. فكتب إلي: لا تذهب. تزوج واحفظ مكانتك ومكانك.. ولم أذهب.. فذهب الثلاثة السيد محمد شطا والسيد أحمد العربي والسيد ولي الدين أسعد.. سبقونا إلى الخير ونرجو أن نلحق بهم.
والخاتمة أنه كان ذوّاقاً للشعر.. كثير الإعجاب بالمتنبي طرح علي مرة هذا اللغز في بيتين من شعر المتنبي:
إن بعضاً من القريض هذاء
ليس شيئاً وبعضه أحكام
منه ما يجلب البراعة والفضـ
ـل ومنه ما يجلب البرسام
فوقفت كيف رفع البراعة والفضل وأمامه الفضل يجلب. وكذا البرسام. حسبت بالعجلة أن القريض تجلبه البراعة والفضل، وبعضه يجلب البرسام. فإذا الشيخ يقول لي: لا.. إن القريض يأتي مجلوباً من البراعة والفضل، كما الخسيس يأتي من ضعف العقول.. فالأصل ما تجلبه البراعة والفضل. يعني أن الفضل والبراعة هي الجالبة.
يرحمه الله فقد كان يعرف قدر نفسه فما أهدرها يوماً عن مجاملة أو مخافة.
وأخيراً فإن ملاك أمر الشيخ الذي أحكمه فحجبه عن الكراهية وبغضه في البغضاء هو من حكم هذه الآية الكريمة التي طالما يتلوها كثيراً ويرتلها ترتيلاً فإذا هو ينقاد لحكمها ويقتاده التذوق لبيانها هذه الآية هي:
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى (المائدة: 8).
هكذا كان يرحمه الله لا ينحرف مع الكراهية ولا يحترف البغضاء.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1788  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 811 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة بديعة كشغري

الأديبة والكاتبة والشاعرة.