جمال الدين الأفغاني |
نص المحاضرة التي ألقيت بمقر نادي جدة الأدبي 1397هـ
|
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
|
إخوتي رواد هذا النادي والقائمين من أمر هذا النادي على أمر.. |
تحية لكم وبعد: |
فقد وعدت إدارة ناديكم أن ألقي محاضرة بعد محاضرة الأستاذ راضي صدوق، واخترت أول ما اخترت حوادث لبنان الدامية.. أن يكون الموضوع نصارى العرب ما لهم وما عليهم.. ثم وجدتني أتحرج من ذلك لأن ما لهم من الوئام والصدق، وخوض المعارك لحماية الأرض.. قد لا يكون مقبولاً اليوم بما عليهم في هذه الأيام فخشيت على المجد أن يطوى إلى لحد: مجد العربي بلسان ينحرف عن هذا اللسان وعن الأعراق والأرض إلى تصرف بقلب عربي ووجدان عربي إلى لحد عربي يتكلم اللسان العربي ثم هو لهذا كله ينبغي أن نكون على مستوى ما يأمر به الدين خير أمة أخرجت للناس. تحرجت من ذلك فأبدلت موضوع المحاضرة إلى موضوعها اليوم. |
((جمال الدين الأفغاني))
|
إِخواني: |
إن إسلامكم الدين الحنيف وأنتم في هذه الأرض المقدسة هو كما هو الدين لكم هو الدين لأمتكم المسلمة.. لكن كل الشعوب المسلمة مع شدة تمسكها بالدين لها وطنية باسم آخر.. أما أنتم أهل هذا البلد فالإسلام وطنيتكم.. الإسلام وطنية هذا البلد كما هو في الدرجة الأولى دينه وفي الدرجة الثانية وطنيته. |
وليس في ذلك ازدواجية.. بل هو الوحدة بين الإسلام.. الدين والإسلام الوطن. فالوحي والهجرة والفتح والقبلة والحج كلها مشرق الدين.. وجهة الدين هي في الوقت نفسه إشراقة الوطنية.. حتمية الوطنية. |
فمن حسن الحظ أن تعقد في الرياض الموطن التي نهضت منه العقيدة الصادقة ندوة الشباب الإسلامي.. هذا الحوط كتب عليه كمواكبة لم أكن أتعمدها وإنما هي كأنها تلقائية قد ألهمتها أن أحاضر عن بطل من أبطال الإسلام السيد جمال الدين إبان انعقاد ندوة الشباب الإسلامي. |
أيها الإخوة: |
نشأت شاباً أطلب العلم.. فوجدت المسجد على فريقين.. فريق لا يرضى أن يشتم جمال الدين الأفغاني، وفريق جعل ورده ليل نهار الرائية ليوسف النبهان، والرائية الصغرى كال فيهما الشتائم والاتهامات المحرجة المحترجة إلى الثلاثة السلفيين يسميهم الوهابيين جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا، وكانت الحملة على الوهابية شديدة.. تغذيها قوى كبيرة، سخرت هؤلاء العلماء أن يجعلوا مسبة جمال الدين حرباً على السلفية يسمونها الوهابية.. العلماء المغاربة في المسجد، والكبار من أهل المدينة الأصلاء.. لا يتحرقون عن جمال الدين، أما الآخرون فمن بعض المغاربة الذين يتولون مشيخة الطريق ويتباهون برواية الحديث ولا يدرسون درايته، وبعض من أهالي الشام، كيوسف النبهاني، وعبد القادر الشلبي، وبعض علماء الهند من غير أهل الحديث ومن غير أهل ديوبنذ كانوا ألباً على جمال الدين. |
نشأت في هذا الوسط ولما أدرك الفرق بين ما يعتقد هؤلاء ويزعم أولئك.. لم أدرك الفرق وإنما أدركني حب البطولة أن أكون من الفريق المنصف لجمال الدين. |
ولعلّ أثر العلماء المقربين المنصفين وقد تأثر به أشياخي كان البصيص من البرهان يضاف إلى حب البطولة.. جعلني أكون كذلك. |
إخوتي: |
لقد اشتعلت الحرب على جمال الدين.. شنها عليه رجلان: شيخ الإسلام في استنبول (حسين فهمي) ورجل السلطان عبد الحميد.. الرجل الأول لديه أبو الهدى الصيادي، فقد جند كل منهما أعوانه ولا أظن أن النبهاني أشرس من حمل جمال الدين إلا رجلا أبو الهدى الصيادي.. كلاهما شامي.. كلاهما طرقي. فأبو الهدى الشيخ المتوج على جميع أتباع السيد أحمد الرفاعي عن الرفاعية والسيد أحمد الرفاعي بريء مما يصنعون، فقد كان إماماً من أئمة الحنابلة.. لا مشعوذاً. |
فكل الحشوية طعنوا على جمال الدين بأنه وهابي مجسد لا يحب رسول الله.. نسمع هذا منهم.. فنغضب لجمال الدين، وفي يوم من الأيام قال شيخنا عبد القادر الشلبي الطرابلسي هذا القول: |
((إن جمال الدين لا يحب رسول الله)). |
ولا أدري كيف نهض أستاذنا السيد أحمد صقر وهو من الذين يعظمون الشيخ عبد القادر فقال: |
عندي يا مولانا شهادة تبرئ جمال الدين مما ذكرته. لقد رأيت بعيني رأسي كتاباً بخط السيد جمال الدين الأفغاني.. أرسله إلى السيد الصافي الجفري.. يقول فيه لقد منّ الله علي بأداء فريضة الحج، وحبسني ما ترى من عدم الأمن أن أقوم بزيارة المدينة فأرجوك أن تقف تسلم على سيدي رسول الله. وتقول إن خادمك جمال الدين يقرئك السلام. رأيت هذا الكتاب فلا أستطيع بعده أن أسمع اتهاماً لجمال الدين، وسكت الشيخ كأنه لا يريد إطالة الجدل في ذلك خشية أن يشيع أمر هذا الكتاب وحفظت قول السيد أحمد صقر، وأخذت أجري وراء الكتاب فلم أجده عند آل الصافي. |
الصافي الجفري من أعيان المدينة كان الرجل الأول عند السلطان عبد المجيد هناك تعارف مع جمال الدين. |
فالقبوريون.. الحشويون جندهم أبو الهدى لحرب جمال الدين، وسلطان الدولة العثمانية يشجع ذلك لأن الحرب ضد السلفية نتيجتها الحرب ضد آل سعود في نجد. |
إِخوتي: |
هذه مقدمة أتبعها بإيضاح تاريخي عن كل ما ذكرت.. عن كل ما لجمال الدين. |
مولده ونشأته: |
ولد السيد محمد جمال الدين ابن السيد صفتر بقرية أسد آباد من أعمال كابل ببلاد الأفغان في بيت كريم الأصل يجمع إلى جلالة النسب إلى الحسين سؤدد الإمارة على بعض الأقاليم الأفغانية. ثم درج في بيئة تمتاز بطباع البداوة من حرية وحمية وأريحية وأنفة. ثم تحول أبوه إلى كابل وهو في الثامنة من عمره فتلقى فيها مبادئ العلوم العربية والأدبية والشرعية والعقلية على منهاج محيط شامل. ثم حذق في مراحل حياته ومواطن رحلاته اللغات العربية والأردية والفارسية والتركية والفرنسية، وألم بالإنجليزية والروسية، فاتصل منها بثقافة الشرق والغرب في القديم والحديث. ثم أخذ يطوف ما شاء الله أن يطوف في أقطار الهند وإيران والحجاز ومصر وتركية وإنجلترا وفرنسا وروسيا فازداد بصراً بأحوال الدول وأخلاق الشعوب. ثم كان رضي الله عنه متواضع النفس لأنه عظيم، جريء الصدر لأنه حر، ندي الراحة لأنه زاهد، ذرب اللسان لأنه قرشي، أبى الضيم لأنه أمير، حاد الطبع لأنه مرهف، صريح القول لأنه رجل. ولم يبتغ من وراء هذه الصفات - كما قال - إلا سكينة القلب. وكان يحمد الله على أن آتاه من الشجاعة ما يعينه على أن يقول ما يعتقد ويفعل ما يقول
(1)
. ومن امتزاج هذه الشمائل وتلك الوسائل فيه اتسعت حوله الأرض، وامتد أمامه الأفق، وانصرف همه البعيد عن الدار والزوجة والعشيرة إلى الوطن الإسلامي كله، والشرق الإنساني كله، فجعل قصده، ووكده أن يدعو إلى إنهاضهما بالوحدة الإسلامية لتدفع غائلة المستعمر، وبالحكومة الدستورية لتقمع شر المستبد. |
وقد آمن بهذه الدعوة إيمانه بالله حتى رأى في سبيلها السجن رياضة والنفي سياحة، والقتل شهادة
(2)
. |
وكان الذين يقفون من سيرة الأفغاني على الهامش يظنون أنه قصر جهده في تحقيق هذه الدعوة على الكتابة والخطابة، والواقع الذي لا شك فيه أنه فكر ثم قدر ثم دبر، ولكن الوحدة كانت من الشتات بحيث لا تلتئم، والاستبداد كان من الثبات بحيث لا ينهزم. |
|