شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
رحلات الأوروبيين إلى نجد وشبه الجزيرة العربية
تمهيد:
قام قسم التاريخ بكلية الآداب جامعة الرياض بالدعوة لإقامة ندوة لدراسات تاريخ الجزيرة العربية كل سنتين، وتعقد بمدينة الرياض، وقرر القسم أن تكون أول حلقة ((مصادر تاريخ الجزيرة العربية)) خلال الفترة من 23 - 28 إبريل 1977م.
وقد دعيت للمشاركة في هذه الحلقة باعتبار مجلة الدارة مجلة متخصصة تعنى بتراث وفكر المملكة العربية السعودية والجزيرة العربية والعالم الإسلامي.
تناولت الندوة مجموعها ستة مواضيع، وكان بحثي عن ((رحلات الأوروبيين إلى نجد وشبه الجزيرة العربية)) يدخل ضمن البند الثالث وهو ((الجزيرة العربية في كتب الرحالة الغربيين)).
وقد عقدت الحلقة بمقر جامعة الرياض، وشارك فيها أكثر من ثمانين عالماً وأستاذاً متخصصاً في تاريخ الجزيرة العربية من بينهم لفيف من المستشرقين من كل أنحاء العالم. حيث تجاوبوا مع الدعوة التي وجهت لهم.. وكأنها تلبية لنداء التاريخ.. من أعماق التاريخ ليتحدثوا عن مصادر التاريخ في أرض التاريخ.
وقدموا جميعاً بحوثاً جيدة تم طبعها وتوزيعها تعميماً لفائدتها العلمية.
وفيما يلي نص البحث الذي ألقيته بالندوة عن رحلات الأوروبيين إلى نجد وشبه الجزيرة العربية.
مقدمة:
جزيرة العرب العريقة في التاريخ أم الإنسان الحضاري هي المعلوم في كل ثبت وبكل الإثبات، وهي المجهول فيما بعد. كانت في علم الإنسان وضعت طابعها على الدنيا كلها، بحضارة قوم عاد وثمود والأنباط وإمبراطورية ذي القرنين المصعب بن الحارث ثم جاءت الرسالة المحمدية بالقرآن الكريم، وبالفتح المبين، والفتح العظيم. تهدي الإنسان إلى الخير.. تشرع لهذا الإنسان شريعة القرآن صالحة لكل زمان ومكان. لا تضيق بإصلاح وترفض كل فساد حتى إذا عرفت بالرسالة والخلافة وحتى إذا أعطت من بينها الأباطرة في إمبراطورية العباسيين في بغداد والدولة العظيمة في الأندلس.. أشرقت بكل ذلك على أوروبا شمس المعرفة تأخذها أوروبا من الأستاذ والكتاب بينما الأصل الأصيل الممد من جزيرة العرب قد ساهم في أن تكون هذه الجزيرة مجهولة أبناؤها أمويون.. انصرفوا عنها.. وعباسيون أسرفوا عليها، فإذا أوروبا تأخذ علمها بينما هي تجهله كأنها لم تكن المصدر الأول الذي أمدها بالمعرفة، لكن رجالاً من الغرب أرادوا أن يعرفوا مصدر المعرفة في هذه الجزيرة.. حجازها ونجدها ويمنها.. فأرسلوا أنفسهم باحثين عن معرفة لهم جديدة عن تعريف لهذه الأرض كانوا به حريصين على أن يعرفوا وكانوا به أكثر حرصاً على أن نعرف.. فقد عشنا جهلاً لهذه الجزيرة حتى أن الذين كتبوا الأمهات عن الأماكن قد أخذنا منهم العلم بالمكان ولم نأخذ منهم العلم بالإمكان، ولأن قدسنا المكانة بالمعرفة للحرم.. القبلة والمسجد.. في دار الهجرة، فإنا قد جهلنا أن نذوق ما مكن لهذه الأرض من الأصالة تبقى راسخة رغم كوارث الغزو لها كوارث الطبيعة عليها، وشظف الصحراء فيها، والرجعة إلى البداوة.. وكل هذا أعطاني فكرة عن موضوع كمحاضرة أشرح فيها جهد المستشرقين.. أرفض هذه التسمية فأسميهم المستعربين، وقد نتحايل على القول والرفض فنسميهم الرحالة.
أضع بعض التوضيح عنهم في ملامح كدليل.. لعلّي أجد من هو أكثر علماً مني أو تعمقاً.. أن يعطي هذا الأمر حقه.. ولم يفتني أن هؤلاء الرحالة، مع قصدهم إلى المعرفة، كانوا رسلاً للسياسة، يعطون الإمبراطوريات المستعمرة كل التفاصيل، فالرحلات كانت ذات وجهين: رحلة للعلم هي التي بقيت ننتفع منها، ورحلة للسياسة انتفعوا بها زمناً طويلاً.. وكان من تمام المعرفة لنا عرفاننا لهذا الغرض ثم زال ما أعطوا للسياسة وبقي ما منحوه للعلم.
لا نجرحهم بما أخذوه منا للسياسة، ومن حق العلم أن نحترم النتيجة العلمية، فقد ذهب مفعول السياسة وبقي فهل العلم.
كانت شبه الجزيرة العربية مكاناً مجهولاً بالنسبة للأوروبيين حتى مطلع القرن التاسع عشر، تحيط بها الأساطير وأفكار العصور الوسطى.. ولم تكن هناك معلومات جغرافية إلا ما هو مستمد من كتب الجغرافيين والرحالة القدامى، وكان قد مضى عليهم أربعة قرون من الزمن.
ولذلك فإنه لما نشطت حركة الاكتشافات الجغرافية في أوروبا منذ القرن السادس عشر، أخذ عدد من الرحالة الأوروبيين يتطلع إلى ارتياد شبه الجزيرة لاكتشافها والكتابة عنها، ففي سنة 1759 فكر جماعة من الأوروبيين في إرسال بعثة علمية لاكتشاف شبه الجزيرة، ويبدو أن صاحب الفكرة كان هو ميكايليس جوتنجن الذي عرض الفكرة على فريدريك الخامس ملك الدانمرك. فجهزت سفينة حربية عليها خمسة أشخاص كل واحد منهم متخصص في فرع علمي معين.
ورحلت السفينة إلى اتجاه الشرق في 7 يناير 1761 وكانت تحمل الأشخاص الآتية أسماؤهم:
ـ بيتر فورسكال - طبيب سويدي وله معرفة متخصصة بالنبات.
ـ كرستيان شارلس كرامر - جراح وعالم بالحيوان.
ـ فريدريك كريستيان فون هاقن - عالم باللغات ومستشرق.
ـ وليم بورنفيد - فنان.
ـ كارستن نيبوهر - مهندس ورياضي.
ولقد شاء الله ألا يعود من هؤلاء الرجال الذين نزلوا إلى البر العربي في اليوم الأول من أكتوبر سنة 1762 إلا رجل واحد هو نيبوهر رغم أنه لم تكن هناك أيّ فاجعة. وقد كان رأى نيبوهر الذي بقي عن تحملهم المشاق في زيارة البلاد دون أن يحسبوا حساب الحرارة المحرقة.
وقد وصف لنا نيبوهر في كتابه الذي أخرجه بعنوان ((رحلات في بلاد العرب)) بعض مراحل رحلتهم وكيف استقبلهم الإمام في صنعاء باللطف ثم طريق عودتهم إلى المخا وسفرهم إلى الهند. وقد نشرت قصة هذه الرحلات باللغة الألمانية في سنة 1772 ونشرت باللغة الفرنسية في السنة التالية أتبعت بطبعة ثانية سنة 1779 ثم صدرت منها طبعة نهائية باللغة الألمانية سنة 1837.
وعلى الرغم من أنه كان من المقرر أن تمكث البعثة ثلاث سنوات في شبه الجزيرة فإن نيبوهر لم يمكث سوى اثني عشر شهراً ولم يزر إلا جزءاً صغيراً منها.
ولكن هذه الرحلة التي لم يشعر بها الناس في حينها زادت في المعلومات التي لدى الأوروبيين عن شبه الجزيرة زيادة عظيمة إن لم يكن في الكم ففي النوع.
فلقد كان هؤلاء الرحالة يلاحظون كل شيء يمرون عليه ويدونون ملاحظاتهم، وقد جمعوا معلومات شتى تنتقل بين نقل بعض النقوش إلى وصف الجمال وتجهيزها إلى الرياح الصحراوية إلى أسراب الجراد وعندما قرأ الأوروبيون كتاب نيبوهر اطلعوا منه على الكثير من شؤون العرب: أنسابهم وطبقاتهم والخلافات المذهبية القائمة بين الشيعة والسنة وهم لم يكونوا في ذلك الوقت يعرفون الكثير عنها وعرفوا كذلك بعض العادات مثل عادة الثأر للدم التي كانت السبب في كثير من النزاع بين العشائر وعادات المأكل والمسكن والاستقبال والتحية والزواج. كما عرفوا الكثير عن منتجات شبه الجزيرة من المعادن والحجارة والأشجار والنباتات والزراعة وغير ذلك.
وكان أهم من ذلك كله الخرائط التي رسمها للمناطق التي زارها.
ولا شك في أن نيبوهر قد عرف اليمن أكثر من غيرها، فقد أظهرها بمناطقها المزروعة والفقيرة ودساكرها وأسواقها وقلاعها وقراها الزراعية.
أما عن شبه الجزيرة فقد أعطى نيبوهر فكرة واضحة من المعلومات التي جمعها عن حضرموت وعشائر البدو المستقلة فيها ومدنها وبخورها وتجارتها. كما زار مسقط في عمان وتحدث عن الخليج العربي وعن المشيخات الصغيرة المنتشرة على ساحل الخليج وعن صيد اللؤلؤ في سواحله.
وتحدث كذلك عن الأحساء وعن الساحل الفارسي للخليج إلى غير ذلك من المعلومات التي أتيحت معرفتها لأول مرة عن طريق كتابه، ثم عاد مرة أخرى للحديث عن نجد فتحدث عن الدرعية وعن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
وأصبح كتاب نيبوهر هو المثل الذي اقتدت به الجمعية العلمية الفرنسية عندما عهد نابليون وهو في طريقه إلى مصر بتشكيل فرقة من العلماء لتصحبه في حملته.
ولقد كانت نتائج رحلة نيبوهر العلمية.. أن كل المجامع العلمية في أوروبا أخذت تشكل برامج أسئلتها بالنسبة للاكتشافات طبقاً لمجموعة المعلومات التي أوردها في كتابه، وبذلك يعتبر رائداً للتفكير العلمي عند الأوروبيين عندما أرادوا اكتشاف شبه الجزيرة، وعلى الرغم مما حققته رحلته فإن الأجزاء الأخرى من شبه الجزيرة العربية كانت لا تزال مجهولة وكان لا بد من ارتيادها للحصول على معلومات صحيحة عنها.
ولقد كانت رحلة الحج ودخول الأماكن المقدسة من أكثر الأمور استثارة لرغبة الأوروبيين في معرفتها ولكن دخول مكة والمدينة كان محظوراً على غير المسلمين ورغم أن رحالة آخر هو جيمس بروس قام برحلته البحرية إلى الحبشة ووصف بعض سواحل الحجاز وكذلك قام إيليس اروين في سنة 1777 باكتشاف طريق البحر الأحمر لحساب شركة الهند الشرقية فإن المعلومات التي أوردها كانت قليلة وقد جمعها من الاستقصاء وليس عن طريق المشاهدة.
ولكنه في سنة 1807 وصل إلى مكة شخص يسمي نفسه ((علي بك العباس)) ومعه مجموعة كبيرة من الخدم وآلات علمية كثيرة وكان يحيط نفسه بمظاهر السيادة ويبسط الخدم أمامه سجادة الصلاة ولم يدر في خلد أحد في ذلك الوقت أن هذا الحاج المسلم الشريف النسب سليل العباسيين الذي يتقن عدة لغات أوروبية منها الفرنسية والإيطالية والإسبانية هو نفسه الرحالة الإسباني دمينجو باديا ليبليش الذي كان قد رحل من قادس في إسبانيا سنة 1803 بعد أن استشار كثيراً من الشخصيات البارزة في باريس ولندن في اتجاه مراكش ومنها إلى الإسكندرية.
واعتقد بعض الباحثين فيما بعد أن علي بك كان جاسوساً للإمبراطور نابليون الثالث ولم يكن ذلك بالأمر المستبعد إذ إن نابليون الثالث كان يود معرفة شيء عن موقف مسلمي الشرق الأدنى من دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لأنه وإن خرج نابليون الأول من مصر فقد عاد نفوذ نابليون الثالث إلى الشرق بواسطة قناة السويس، ولكن المهم أن علي بك العباس هذا كان يحمل أجهزة علمية دقيقة جداً منها مقياس للرطوبة الجوية وآلات أخرى فلكية تمكنه من الحصول على معلومات علمية دقيقة عن مستوى البحر عند جدة وينبع، وتمكنه من تحديد مواقع المدن بالنسبة لخط الاستواء، كما تمكنه من الوصف الجيولوجي للجبال ووصف النباتات والحيوانات والحشرات (لم يحدد مدار السرطان في أبحاثه وكان المشهور أنه يمر بالمدينة).
ولقد قام علي بك العباس بنشر قصة رحلته للمرة الأولى في باريس سنة 1814 وفي لندن سنة 1816. وغادر دمشق سنة 1818 ليعود إلى مكة ثانية، ولكن المنية عاجلته وهو في الطريق.
ولقد أثير تساؤل شديد حول حقيقة اعتناقه للإسلام، فقد كان يؤدي الفرائض خلال رحلته، ويظهر التعظيم لكل الشعائر الإسلامية إلا أن بعض العبارات التي أوردها في كتابه أثارت الشك حول صحة عقيدته.
ومهما يكن من أمر إسلامه فإن الفضل يرجع إليه بعد الله في أنه قدم للغرب أول تقرير علمي دقيق مفصل عن الحج إلى مكة الذي رآه وعاش فيه كأحد المسلمين وكان وصفه للمسجد الحرام مطابقاً تماماً للواقع فقد وصف أبوابه ومصابيحه كما وصف بئر زمزم والسعي بين الصفا والمروة.
وكانت تلكم الأوصاف أول ما عرفه الأوروبيون بصورة مفصلة عن مناسك الحج.
ولقد كان لقصة رحلة علي بك فائدة أخرى هي أنه وصف للمرة الأولى عيشة أتباع الدعوة السلفية التي بدأها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ووصف دخول جيوش الدرعية إلى مكة للحج وعلى رأسهم الإمام سعود وأبو نقطة، ووصف جمالهم وأحمالهم وبيارقهم والعلم المنقوش عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وإذا كان الأوروبيون قد اهتموا بمعرفة كل شيء عن المدينتين المقدستين مكة والمدينة، فإن منطقة أخرى من شبه الجزيرة العربية أخذت تفرض على الأوروبيين الالتفات إليها في أوائل القرن التاسع عشر لا على رجال السياسة فحسب وإنما على أعضاء الجمعيات العلمية والأدبية.. تلك هي المنطقة المعروفة باسم ((البتراء)) ((سلع)) ((ومدائن صالح)) الحجر وقد وصل رحالتان إلى شواطئ سورية بالتتابع هما سيتزن في سنة 1802 وبور كهاردت في سنة 1810 بقصد الدخول إلى هذه المنطقة وكان سيتزن مستشاراً في إحدى الإمارات الألمانية الصغيرة التابعة آنئذٍ لقيصر روسيا ولكنه كان يحلم دائماً بأن يصير مكتشفاً فجد في تحصيل المعلومات وحصل على الثقافة اللازمة وتضلع في اللغة العربية ثم غادر ألمانيا في سنة 1802 متوجهاً إلى سوريا وفي سنة 1806 وجد دليلاً من البدو كان معتنقاً للنصرانية - وقد سبق أن عاش ثلاثين عاماً بين قبائل عنزة فسأله سيتزن عن أحوال البدو في المنطقة كلها. وكانت محادثاته مع ذلك البدوي مثمرة، حيث إنه عاد إلى القاهرة نشر كتاباً بعنوان ((بحث يصلح للتعرف على قبائل البدو العربية في سورية والبتراء)).
ولقد تجول سيتزن مع دليله في المنطقة الواقعة إلى ما وراء البحر الميت، وبلغ حدود شبه الجزيرة العربية، حيث كان يريد اكتشاف موقع مدينة البتراء القديمة إلا أنه على الرغم من قربه منها لم يتمكن من الاهتداء إليها.
ولكي نفهم الصعوبة التي تعترض الرحالة في هذه المنطقة في مثل ذلك الزمن لا بد لنا من أن ندرك طبيعة البدو الموجودين في تلك المناطق ومدى استطاعة الدليل الذي يصحب الرحالة التفاهم معهم.
وعاد سيتزن إلى مصر عن طريق سيناء ثم السويس وأعلن أنه اعتنق الإسلام وأنه يريد أن يتم دينه فاستطاع أن يرافق رحلة الحجاج وبلغ المدينة التي لم يصل إليها علي بك العباسي ثم رحل إلى اليمن وهناك مات مسموماً وضاعت معظم الدفاتر التي دوّنها والتي كانت تحتوي على تسجيلات لمشاهداته.
أما بوركهاردت فإنه غادر إنجلترا في مارس سنة 1809 متوجهاً إلى سورية لمحاولة اكتشاف شمال شبه الجزيرة وكان قد أعد نفسه لذلك بأن أخذ يدرب نفسه على حياة البدو كما درس القرآن وتفاسيره إلى درجة أنه لم يستطع إقناع الناس بأنه الشيخ إبراهيم المسلم فحسب بل بأنه أحد علماء المسلمين الأفذاذ وقضى بوركهاردت عامين على الحدود السورية العربية يجمع المعلومات وعلى غرار الكتاب الذي أصدره سيتزن أصدر بوركهاردت كتابه الذي سماه ((ملاحظات عن البدو والوهابيين)).
على أنه يجب أن نلاحظ أن بوركهاردت قد أوغل في البحث أبعد مما ذهب إليه سيتزن، فقد تمكن من أن يقدم صورة عن المجموعات القبلية والمميزات السياسية الخاصة بكل منها وعن حالتها الاقتصادية وتنظيمها الاجتماعي ومبادئها الأخلاقية وعاداتها.
ولقد زار بوركهاردت البتراء وإن كان لم يستطع أن يقدم معلومات علمية عنها لأن البدوي المرافق له شك في أمره عندما حاول استعمال أجهزته العلمية.
وإذا كان سيتزن وبوركهاردت قد اجتازا الحدود الشمالية لشبه الجزيرة، فإن المنطقة الداخلية إلى شمال جبلي شمر (آجا وسلمى) كانت لا تزال مجهولة لدى الأوروبيين.
وكان يستثير اهتمامهم بها عوامل شتى وإن كان أهم ما أشار إليه المؤرخون أنه مع مطلع القرن التاسع أخذ آل الرشيد يوطدون سلطانهم في تلك المنطقة..فكان هذا دافعاً لكثير من القوى على الاتصال بهم لمعرفة مدى قوتهم ونفوذهم وأدى ذلك إلى أن يبعث محمد علي بشاب فنلندي كان يدرس في القاهرة ليقوم برحلة عبر شمال الجزيرة.
فقد كان هذا الفنلندي ويدعى أغسطس والآن قد حصل على منحة للدراسة من جامعة هلسنكي، فقضى سبع سنوات متنقلاً ما بين الفرس والعراق وسورية واستقر أخيراً في مصر وعزم على اكتساب ثقافة عربية تمكنه من التنقل بحرية في شبه الجزيرة.
ويبدو أن محمد علي قد بعث به إما ليشتري له خيولاً من نجد أو ليستطلع أحوال جبل شمر.. وقد قام والان برحلتين إلى حائل عاصمة جبال شمر.. وقد استطاع أن يفعل ذلك نتيجة دراسة لعادات البدو وعقليتهم واكتساب القدرة على كسب ثقتهم وقد وصلت لنا كل هذه العادات.. فيما بعد وعلى الأخص ما وصفه من رسم ((الخوة)) وهي تلك الإتاوة التي تدفعها كل قرية أو مدينة لتقاوم هجمات البدو. كما وصف لنا علاقة التحالف بين القبائل وبعضها، كما لاحظ والان أنواعاً من العشائر البدوية بعضها يسرح في البادية مع قطعانه أثناء موسم الرعي في الربيع، وأثار دهشته أن أفراد عشيرة المعازة الذين يشغلون المنطقة الممتدة من معان حتى الحدود المصرية يجهلون دينهم الإسلامي أشد الجهل.. ولا يكاد واحد منهم يعرف شيئاً عن شعائر الإسلام.
وأوغل والان في شمال شبه الجزيرة بصحبة ثلاثة من قبائل الشرارات حتى وصل إلى وادي السرحان ثم دخل مدينة الجوف وكان وصف والان لهذه المدينة فريداً في نوعه إذ كان من الدقة بحيث وصف أحياءها ومنازلها.
ثم رحل والان من الجوف بصحبة البدو مخترقاً صحراء النفود حتى وصل إلى قرية ((جبة)) ثم وصل إلى حائل عاصمة جبلي شمر التي وصفها وصفاً مفصلاً كما وصف قصر عبد الله آل الرشيد.. وتبع والان رحالة إيطالي هو كارلو جوارماني.. ولقد كان لدى جوارماني الاستعداد الطيب لاختراق نجد نتيجة لصلاته الوطيدة مع البدو إذ كان قد أقام لسنين طويلة في القدس وهو يعمل كوكيل لشركات النقل البحرية الإمبراطورية الفرنسية وإنشاء علائق مع العشائر الرحل في تلك المناطق.
وقد استدعاه وزير الزراعة الفرنسي إلى باريس في سنة 1863 ليعهد إليه بشراء خيول للإصطبل الإمبراطوري. وقد بدأ جوارماني رحلته في 26 يناير سنة 1862 مرتدياً زي بدوي واخترق المناطق الشمالية من شبه الجزيرة حتى وصل إلى تيماء، وكان والان قد زارها من قبل، ثم دخل إلى منطقة حرة خيبر، ووصفها بعض الوصف.. وإن كان وصفه لهذه المنطقة أقل في مجموعه من بقية الأوصاف التي أوردها.. مما دعا بعض الباحثين الأوروبيين المتأخرين إلى الشك في صحة روايته عن زياراته لحرة خيبر، ولقد راع جوارماني أن يجد جميع سكان منطقة خيبر من السود حتى ظن أنه انتقل إلى السودان، وغادر جوارماني منطقة خيبر إلى منطقة يقطنها فخذ من عتيبة يعرف ((بالروقة)) فلحق بهم وسار معهم ولكنهم كانوا في حالة حرب مع الأمير عبد الله بن فيصل آل سعود وحضر جوارماني معركة وقعت بين قوات الأمير وأفراد هذه القبيلة.
ثم سار جورج حتى دخل مدينة ((عنيزة)) ووصف أسواقها والخيل فيها، ثم سار إلى بريدة ثم إلى حائل وأميرها طلال بن الرشيد، وهناك زار جوارماني على أنه المسؤول عن إصطبل فؤاد باشا التركي وأن اسمه هو خليل أنما.. فرحب به الأمير وأجلسه معه في مجلس القضاء ورأى كيف كان يقضي الأمير في القضايا بسرعة وكيف كان يفرض الأحكام والعقوبات الصارمة إذ كان يحكم بالقتل على القتلة وعلى الكذابين وشهود الزور بحرق لحاهم.
ولا شك في أن جوارماني كان أفضل من وصف الخيل العربية في هذه المنطقة، إذ إنه كان خبيراً بالخيول وكان يعرف عنها الشيء الكثير.
وكانت الخريطة التي رسمها لرحلته من أهم الخرائط التي استفاد منها من تبعه من الرحالة.
وإذا ضربنا صفحاً عن رحلته بالجريف وما أحاط بها من شكوك فإننا ننتقل إلى رحلة الليدي بلندت وزوجها ويلفريد اللذين اخترقا صحراء النفود ووصلا إلى حائل وأعطيا وصفاً كاملاً للمناطق التي مرا بها وتميزت كتابتهما بأنها أكثر إنسانية وأبعد في وصف بعض المواقف التي لم يكن لتتاح لغيرهما لأنه لأول مرة تخترق سيدة أوروبية مناطق البدو وكانت فرصتها فريدة أن تدخل إلى الحريم وتتعرف على أحوال النساء في مختلف المناطق التي زارتها وتعطي بذلك وصفاً فريداً ما كان ليتمكن القارئ الأوروبي من الاطلاع عليه لولا رحلتها.
تلك هي بعض اللمحات عن رحلات الرحالة الأوروبيين خلال فترة من الزمان.. كان الجهل يخيم فيها على كثير من بقاع شبه الجزيرة، ولم تكن الحضارة الحديثة بكل إمكاناتها قد تقدمت ليحدث الاتصال بين معطيات تلك الحضارة وبين القبائل الضاربة في الصحراء ولذلك فإن عالم هذه القبائل كان يختلف كلياً عن العالم الذي يعرفه الأوروبي، وكانت الرحلة لا شك بالنسبة إلى أي أوروبي مخيفة وكان على الرحالة الذي يخترق تلك الجهات أن يكون على دراية واسعة بأحوال أهلها وعاداتهم وأن تكون له القدرة الكافية للتعبير عن نفسه باللغة العربية وباللهجة البدوية حتى لا ينكشف أمره.
ولذلك رأينا أن معظم هؤلاء الرحالة قد ارتدى رداء الإسلام ظاهراً، وإن كان في باطنه لا يزال يضمر الولاء لدينه.. وتلك الخطة هي التي سيتبعها الأوروبيون دائماً تحقيقاً لمصالحهم.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2768  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 800 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور معراج نواب مرزا

المؤرخ والجغرافي والباحث التراثي المعروف.