شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الحج في الماضي والحاضر
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الأمين سيدنا محمد ابن عبد الله وعلى آله وصحبه وسلم.
أيها الإخوة المسلمون،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
الإخوة المسلمون نداء أدعوكم به، أتعمد أن أثير حوله ما يرغبكم فيه وما يبعدكم عن أي نداء آخر تدعون به كلما قام خطيب أو محاضر أو متحدث في ندوة. أو في راديو. أو على كرسي أستاذ.
تعودتم أن تسمعوا من يناديكم بغير هذا النداء.
آنساتي سيداتي سادتي.. تقليد للغرب، فهل أنتم في ندائكم الآنسات والسيدات قبل الرجال تسلكون مع المرأة مسلك الغرب أم هو مجرد التقليد في النداء فقط؟. احترام المرأة ليس في تقديمها على الرجل ولا في مساواتها بالرجل وإنما هو في إنصافها من الرجل وفي إنصاف الرجل منها.
ضرب من الغطرسة انساق إليه المضللون أو هو ضرب من الغطرسة ساقتنا إليه المقلدات.. حتى إذا سئمها العقاد - جاء يتغطرس على أسلوبه فلا ينادي إلا: أيها السادة أيها السيدات، حتى لقد حسب نفسه جريئاً في ذلك كل الجرأة. والواقع هو ليس بالجبان، إنه كان في ذلك جريئاً، لا على المجتمع، ولا على الذين فتنهم، ولكن الجرأة منه كانت من حسبانه أنه انتزع من المرأة تقديمها على الرجل.
أناديكم أيها الإخوة المسلمون بهذا النداء أتعمد أن أثير حوله ما يدعو إلى الانتباه إليه ليكون شعاراً من شعارات الدعوة إلى الإسلام.. من شعارات رابطة العالم الإسلامي.
أدعو إليه، لأنه الحق وأكرر ذلك كثناء على الرابطة حينما نجدها الداعية إليه.
وليس في كلمتي هذه خروجٌ عن المحاضرة، حدد موضوعها بعنوانها: ((الحج في الماضي والحاضر)). لأن في آداب الحج. الركن الخامس للإسلام، أن تتسم معاملاتنا بسمات الإسلام، ثم هو في منافعه التي نشهد أقوى ما يكون وأجدر ما ينبغي حينما يدعو إلى الإخوة الإسلامية ((إنما المؤمنون إخوة)) ((المسلم أخو المسلم)).
هذه الإخوة الإسلامية تبدو في مظهرها الرائع في وحدة المشاعر… في النفوس، في وحدة هذه المشاعر للحج، كأنما مشاعر الحج أمكنة في أزمنة هي قوة التمكين لمشاعر الناس، وكأنما شعائر الحج هي قوة الإعلان والثبات لشعارات الحجيج. فما هو الحج؟.
أيها الإخوة المسلمون..
كلكم تعرفون ما هو الحج، الركن الخامس في الإسلام، وكلكم تعرفون طريقة أدائه ومشاعر تأديته وشعائر حرمته. فلست إلى هذا كله أتطرق، فمنكم أتعلم.. ليس ما أقوله درساً أو محاضرة، وإنما هو الحوار والمذاكرة.
الحج فيما أحس - وأعني به بناء هذا البيت - الكعبة - المسجد الحرام، أعني أن هذا البيت رفع القواعد منه إبراهيم باليد القوية منه، بقوة الوحي، واليد المطواعة من إسماعيل، بصدق الطاعة أطاع يعاون في البناء، وأطاع يقدم الفداء، يرى أبوه في المنام أنه يذبحه فيرتفع بإسماعيل حينما يرضخ للذبح إلى قمة شامخة هي إحدى الذرى التي كانت من الأسس القوية في بناء البيت.. فالكعبة ليست هذه الأحجار الكريمة، ولكنها هذه الكرامة بالعبادة.. بالتوحيد.. بالمناسك.. بالرحمة.. بالإخوة.. بالزحف للهداية.. بالعمل لوحدة الكلمة وتوحيد الجماعة.
أيها الإخوة المسلمون..
أي مكان هذا.. صحراء.. جرداء، أبوكم إبراهيم سماه وادي غير ذي زرع فما الذي رغبه فيه؟ سؤال سخيف.. من الذي رغبه فيه؟. سؤال في الصميم. كان لا يرغب فيه أحد، فإذا هو بهذا البيت مهوى الأفئدة رغبة كل واحد.
كان إبراهيم يتلفت في كل حركة فلا يلتفت إلا ليحطم صنماً حطم الفكرة لعبادة الله، حطم الصورة لعبادة الكوكب.. حينما حطم الأصنام تتناثر أمام الجبارين.. كل جبروتهم أن أوقدوا النار ليحرقوه، ولكن جبروت الله عليهم من رحمة الله له جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم. برداً عرفناه، سلاماً رأيناه ولكن.. ألا نلتمس في هذا السلام على إبراهيم سلاماً أكبر.. سلاماً أجمع وأشمل؟
نعم.. كان السلام على إبراهيم هو السلام بإبراهيم.. حينما جعل هذا السلام عليه ومنه في هذه الحنيفية ملته هو سماكم المسلمين. يعني المستسلمين لله المسالمين للحكمة ناشري السلام.
إن هذا السلام الأكبر كان الإرهاص له والبشارة به أول ما كان في بناء هذا البيت لا يتعبد فيه الفرد وحده وإنما تعبدت به الأمة التي حوله، لتعيش في سلامه حتى لو شذت عن إسلامه.. أعني إسلام إبراهيم. أما من يشذ عن الإسلام اليوم فلا يقرب المسجد الحرام، من ذلك العام عام حجة الوداع الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً (المائدة: 3).
كان المتحنفون والشاذون والمشركون يتعبدون حول البيت يعيشون في السلام الذي دعا وأسس، والسلام من البيت لم يكن في داخله فحسب بل كان في هذه الأشهر الحرم تنشر السلام في الجزيرة كلها.
ثلاثة أشهر متتالية فيها فسحة الحج وانفساح العودة ينتشر فيها السلام وشهر في نصف العام رجب قريش يستجم فيه العرب من أهوال الفتن إلى هناء السلام.
أيها الإخوة المسلمون:
الحج سنّة إبراهيم ودعوته لأنه رفع القواعد من البيت فأوجب حجه على بنيه. الحج إلى البيت الحرام كان جامعة للعرب كما هو مصدر السلام لهم يحجون إليه. وكان أغلب أتباعه من ولده إسماعيل. هؤلاء العدنانيون في حجازهم ونجدهم.
هو سنّة إبراهيم ولكنه اليوم فريضة جاء بها محمد. السنّة لإبراهيم والفريضة بالبلاغ المحمدي كلها بأمر الله. غير أنا يسعدنا أن نجد من المشابهة أو المفارقة ما يشعرنا بكرامة هذا البيت أكثر وأكثر.
إبراهيم بناه، بأمر الله.. إبراهيم سنّ حجّه على بنيه.. التابعين ملته. فحجه المخالفون ملته لأنهم بنوه، لم يتعصبوا لملته لأن التضليل أعماهم، وتعصبوا لبنوته لبنائه لأن الفخار أسماهم.
أسماهم فخراً بهذا البيت وأسماهم بالسمات طبعها في نفوسهم علماً عليهم لأنهم سدنة هذا البيت.. والسدانة وما إليها لم تكن لقريش وحدها بل كانت لإخوتهم جميعاً. هم كانوا المباشرين لها، والإخوة الآخرون في المدر والوبر كانوا مؤيدين لهم، الفاخرين بهم، التابعين لهم.
وجاء محمد عليه الصلاة والسلام.. عربياً عدنانياً.. قرشياً.. هاشمياً.. رسولاً نبياً. فأقر بهذا الإسلام كل القيمة لهذا البيت كما كانت له من قبل، لم يبدل مما يعليَ شأنه أستغفر الله بل زاد.
بل زاد حينما وسع رقعة الحرم، لم يقف في المشعر الحرام كما كانت تظن قريش لينتهي الحد بالمزدلفة، بل امتد بالحد ولو ليوم واحد حينما جعل عرفات موقفاً حرماً في يوم الحج. بل زاد حينما لم يلغ المشعر الحرام، وصل إليه حط رجله فيه كأنما جمع بينهما، حدد من موقف عرفات وبين المشعر الحرام بل زاد حينما قال: ((الحج عرفه)) لا أحسبه - وأرجو أن يصدق ظني - قد أراد فيما أراد أن يحدد قيمة الأداء للحج كما يعلمنا الفقهاء وإنما أسأل الله أن يحسن ظني حينما أقول: إنه أراد أيضاً المعنى الاجتماعي بهذا التكريم لعرفات حدد للفقه أداء الحج، وحدد للمجتمع قيمة المكان.
أهذا كلما زاده محمد يرفع به القيمة لمكة؟ لا. لا تنسوا تقلّب وجهه في السماء يفتش عن القبلة قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ (البقرة: 144).
بل زاد جعلها القبلة. إن هو إلا وحي يوحى كرَّمه الله بذلك حينما كرَّم الله أحب المواطن إليه.
أيها الإخوة المسلمون:
كانوا في الجاهلية يعظمون حرمات هذا البيت. وإني لأستحي أن أقول: إنهم كانوا في بعض الحالات أكثر تعظيماً منا له. ولا أريد أن أزيد، فالأمر واضح لا غبار عليه.
كانوا يطعمون الحجاج.. يفتحون بيوتهم فلا تغلق في وجه أحد.. العلية منهم يسقون الحاج من حفيرة عبد المطلب زمة هاجر.. غوث إسماعيل.. برة.. البركة.. زمزم..
قالوا في تفسيرهم للآية الكريمة ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (المدثر: 11): إنها نزلت في الوليد بن المغيرة ذلك الذي فكر وقدر فَقُتِلَ كيف قدر أنه أبو الرضى المرضي سيف الله أبو سليمان خالد بن الوليد.
نزلت فيه سماه ربنا الوحيد وكانت تسميه قريش العدل لماذا؟ لأنه كان يطعم الحجاج عاماً وتطعمه قريش عاماً. ولأنه كان يكسو الكعبة عاماً وكانت قريش تكسوها عاماً.
هو الوحيد في ذلك لأنه العدل يعدل قريشاً كلها. لم ينفعه ذلك لأنه لم ينتفع بالإسلام.
أيها الإخوة المسلمون:
ذهب الإبراهيميون. ذهب الجاهليون. متحنفون ومبصرون ومشركون. وسطع نور الإسلام فأعز الله مكة ودعم به الحج وجعل البيت الحرام قبلة. هو.. المثابة والأمن لكل الناس.
المثابة والأمن لمن هم فيه، لمستقبليه. إنه حق واضح لنا جميعاً. ولكن لماذا لا يتضح لنا معنى الناس، المضمون الأشمل والأعم؟!
أريد أن أعبر فلا أطيق لأني أخشى أن لا أطاق. لماذا لا يكون كل الناس، كل الناس، كل الإنسان في كل الدنيا. المعنى الجهير الذي أطيق الجهر به يكمن في هذه القبلة، في هذا الإسلام، وفيه النجاة والأمن لكل الناس. ولست إلى هذا أهدف، فهذا واضح يطاق، وإنما الذي أهدف إليه وأرجو أن تطيقوه، هو في مادة الأرض.. في تكوينها أستكنهه من هذا الأثر. أنتم تعرفونه.
لقد دحيت الأرض من مكان البيت حتى قال بعضهم إن الكعبة مركز الأرض بل مركز الكون. الأمن من قيمة البيت، من مكانه المكين. بهذا المعنى بما أفهم تأتي المثابة.. أعني الحياة.. الامتداد.. الأمن من قيمة البيت من مكانه المكين لأنه ((البرتول)) المركزي الذي تجمعت ودارت حوله كل الإلكترونات.
ليس هذا تجديفاً ولا خطرفة ولكنه الإيمان بقيمة هذا الأمن والمثابة للناس.
أيها الإخوة المسلمون:
حج النبي وحج الخلفاء، وكل هذا معروف. لا بالقراءة، ولا بالتعلم. وإنما هو بالتعبد. فحجكم الذي تؤدون حينما تؤدونه.. على سنّة من حج النبي وسنن من حج من الخلفاء، فماذا جرى بعد هؤلاء؟ لعلّ هذا فيه من الطرف ما نذكر به لنتعظ.
وتولى معاوية وحج بالناس عدة سنين يحافظ على سنة وتخلف في السنة الخامسة والأربعين فحج بالناس مروان بن الحكم.. ولا أدري في أي سنة حج المغيرة بن شعبة نيابة عنه.. وقد كان الناس في مكة أجمعوا أمرهم بحسب رؤيتهم للهلال فحددوا اليوم التاسع وفي الناس عبد الله بن عمر فلم يشعروا إلا والمغيرة بن شعبة قد انحدر إليهم من الطائف يحج باسم معاوية فيجعل يوم التروية اليوم الثامن هو اليوم التاسع.. ويحج الناس معه لا يختلفون عليه. رغم أن الثابت لديهم غير ما ثبت لديه.
كان ذلك أمر الإمام وكانت تلك طاعة الأمة.. ولو شاؤوا لجادلوه بما ثبت لديهم.. ولكن الطاعة فيهم كانت هي الحجة عليهم.
وحج بالناس عبد الله بن الزبير عندما استقل عن الأمويين ثماني حجج كان معه فيها أهل الحجاز واليمن والعراق وخراسان. حتى إذا غلب على أمره حينما قتله الحجاج أيام عبد الملك، وفي هذه السنين النكدة أهدرت كرامة البيت فلم يطف من حج من الحجاج بالبيت، منعوا عنه.. حاربوا ابن الزبير، احترقت الكعبة في سنة 64هـ، تركها ابن الزبير على حالها يشنع على غزاته، فلما مات يزيد جمع الناس ابن الزبير وفيهم عبد الله بن عباس وقال ما معناه: أرأيتم ما حدث للكعبة. فهل أرمم أم أعيد بناءها على قواعد إبراهيم؟
كان مراده أن يعيد بناءها على قواعد إبراهيم أخذا بحديث خالته عائشة ((لولا أن قومك حديثو عهد بالإسلام لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم)).
كان مراده ذلك فقام إليه ابن عباس يقول له: ((دع بيتاً أسلم عليه الناس وأحجاراً آمن عليها الناس)). كلام تقي ورأي صادق نصح به ابن العباس. ((الحديث في مسلم)). ولا أدري لماذا لم يحتج به مالك بن أنس على حفيد ابن عباس هارون الرشيد حينما أراد أن يصنع بالكعبة ما صنع ابن الزبير. لعلّه لم يسمعه. أو لم يتذكره أو لعلّ الرواة أسقطوه. فإن إجابة مالك كانت كإجابة ابن عباس: ((لا تجعل البيت ألعوبة بين الملوك يا أمير المؤمنين)).
ولم يسمع ابن الزبير رأي ابن عباس فبناها على قواعد إبراهيم.. اجتهاد لأن يصيب أجره من الله، ولكنه وضع لم يبقه الله. فهدها عبد الملك وردّها على قواعد قريش كما هي الآن. أحسب أن ذلك - وأرجو أن يصدقني ظني - هو الصواب وإلا لم يبقه الله.
إن هذه الكعبة القبلة ركيزة الذكر قبلة الصلاة. مثابة الناس للحج فلها حكم الذكر المحفوظ يحفظها الله. إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (الحجر: 9) وإن الذكر ليحفظ بحفظ هذا البيت، بحفظ هذه القبلة. لأن الصلاة هي حفظ الذكر.
وحج عبد الملك بن مروان في خلافته حجتين..
وكذلك حج الوليد بن عبد الملك فعمّر وأصلح. طرقاً وآباراً ومساجد.
وحج سليمان.. وحج هشام بن عبد الملك.. ولم يحج من بعد هشام أحد من بني أمية وتولى بنو العباس وحج أبو جعفر المنصور.. فجمع المتناقضات، قسا على أبناء عمومته وخضع للعلم والعلماء.. وحج المهدي فلما قدم مكة نزع الكسوة عن الكعبة التي كانت عليها لأن السدنة أخبروه أنهم يخافون على الكعبة أن تهدم لكثرة ما عليها من الكساوى.. كسوة فوق كسوة. لقد وجدوا عليها كسوة هشام بن عبد الملك من الديباج الثخين الثمين وكانت الكسوة لا تنزع، يضعون الجديد على سابقه.
كان الجاهليون يكسونها بالأنطاع وكساها النبي بالثياب اليمانية وكساها عمر بالقباطي يعني القماش المصنوع بأيدي الأقباط.. أما معاوية فقد كساها كسوتين القباطي والديباج، الديباج يوم عاشوراء والقباطي آخر رمضان.
والمهدي أول خليفة حمل إليه الثلج إلى مكة وأصلح وعمّر، فهو في العباسيين كالوليد في الأمويين.
وحج هارون الرشيد، وكان يغزو سنة ويحج سنة فجمع تسع حجج.. ولم يحج بعد الرشيد خليفة عباسي من خلفاء بغداد.
أما العباسيون في مصر - على كثرتهم - فلم يحج منهم إلا الحاكم بأمر الله العباسي ثاني الخلفاء العباسيين بالقاهرة وهو غير الحاكم بأمر الله الفاطمي.
ولم يعرف من حج ماشياً من الخلفاء والملوك المسلمين إلا هارون الرشيد.. كانت تساق النجائب بين يديه.
أما من المسيحيين الملوك.. فقد حج هرقل بن هرقل بن أنطونيوس من حمص إلى بيت المقدس ماشياً.. ووافاه كتاب رسول الله في رحلته هذه يدعوه إلى الإسلام. وهناك رواية تذكر أن زبيدة حجت ماشية أيضاً.
وما دمنا بذكر هارون الرشيد أجدني مسوقاً لأن أحدثكم بحديث فيه عظمة وفيه عبرة..
قال الجاحظ أبو نعيم الأصبهاني في كتابه ((حلبة الأولياء)) بالسند إلى الفضل بن الربيع، قال: حج أمير المؤمنين لو أرسلت إلي لأتيتك، فقال ويحك قد حاك في نفسي شيء فانظر إلى رجل أسأله، فقلت: ها هنا سفيان ابن عيينه، فقال: امضِ بنا إليه، فأتيناه فقرعت الباب فقال من ذا؟ قلت أجب أمير المؤمنين فخرج مسرعاً فقال يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي لأتيتك، فقال له: خذ لما جئناك له رحمك الله فحدثه ساعة ثم قال له: عليك دين، قال نعم قال أبا عباس اقضِ دينه.
فلما خرجنا قال ما أغنى عني صاحبك! انظر لي رجلاً أسأله. قلت: ها هنا عبد الرازق بن همام، قال امضِ بنا إليه، فأتيناه فقرعت الباب فقال من هذا؟ قلت: أجب أمير المؤمنين، فخرج مسرعاً فقال: يا أمير المؤمنين، لو أرسلت إلي لأتيتك، فقال: خذ لما جئناك له، فحادثه ساعة ثم قال له: عليك دين؟ قال: نعم، قال: أبا عباس اقضِ دينه.
فلما خرجنا قال ما أغنى عليَّ صاحبك شيئاً. انظر لي رجلاً أسأله، قلت: ها هنا الفضيل بن عياض. قال: امضِ بنا إليه، فأتيناه فإذا هو قائم يصلي يتلو آية من القرآن يرددها فقال: اقرع الباب، فقرعت الباب فقال من هذا؟ قلت: أجب أمير المؤمنينز قال ما لي ولأمير المؤمنين. فقلت: سبحان الله أما عليك طاعة؟ أليس قد روي عن النبي صلَّى الله عليه وسلم أنه قال: ليس للمؤمن أن يذل نفسه؟ فنزل ففتح الباب ثم ارتقى إلى الغرفة فأطفأ السراج ثم التجأ إلى زاوية من زوايا البيت فدخلنا فجعلنا نجول عليه بأيدينا فسبقت كف هارون قبلي إليه فقال: يا لها من كف ما ألينها إن نجت غداً من عذاب الله عزّ وجلّ. فقلت في نفسي ليكلّمَنّه الليلة بكلام من قلب تقي، فقال له: خذ لما جئناك له رحمك الله فقال: إن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبد الله ومحمد بن كعب القرظي ورجاء بن حيوة فقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء فأشيروا علي فعد الخلافة بلاءً وعددتها أنت وأصحابك نعمة، فقال له سالم بن عبد الله: إن أردت النجاة من عذاب الله فَصُمِ الدنيا وليكن إفطارك الموت. وقال له محمد بن كعب: إن أردت النجاة من عذاب الله فليكن كبير المسلمين عندك أباً، وأوسطهم عندك أخاً، وأصغرهم عندك ولداً، فوقّر أباك وأكرم أخاك وتحنّن على ولدك. وقال له رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة من عذاب الله تعالى فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك واكره لهم ما تكره لنفسك ثم مت إذا شئت. وإني أقول لك بأني أخاف عليك أشد الخوف يوماً تزل فيه الأقدام، فهل معك رحمك الله مثل هذا أو من يشير عليك بمثل هذا؟
فبكى هارون بكاءً شديداً حتى غشي عليه، فقلت له ارفق بأمير المؤمنين، فقال: يا ابن الربيع تقتله أنت وأصحابك وأرفق به أنا؟
ثم أفاق هارون فقال له زدني رحمك الله، فقال: يا أمير المؤمنين بلغني أن عاملاً لعمر بن عبد العزيز شكا إليه فكتب إليه عمر: يا ابن أخي أذكرك طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد وإياك أن ينصرف بك من نعمة الله إلى عذاب الله فيكون آخر العهد وانقطاع الرجاء. فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر بن عبد العزيز، فقال له: ما أقدمك؟ فقال: خلعت بكتابك لا أعود إلى ولاية حتى ألقى الله.
فبكى هارون بكاءً شديداً ثم قال له: زدني رحمك الله، فقال: يا أمير المؤمنين إن العباس عم المصطفى صلَّى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله امرني على إمارة فقال له النبي صلَّى الله عليه وسلم إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة، فإن استطعت أن لا تكون أميراً فافعل.
فبكى هارون بكاءً شديداً وقال زدني رحمك الله، فقال: يا حسن الوجه أنت الذي يسألك الله عزّ وجلّ عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من لنار فإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك. كان النبي صلَّى الله عليه وسلم قال: من أصبح لهم غاشا لم يرح رائحة الجنة.
فبكى هارون وقال له: عليك دين؟ قال: نعم دين لربي لم يحاسبني عليه، فالويل لي إن سألني، والويل إن ناقشني، والويل لي إن لم ألهم حجتي. قال: إنما أعني دين العبادة، قال: إن ربي عزّ وجلّ لم يأمرني بهذا وإنما أمرني أن أصدق وعده وأطيع أمره، فقال: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ.. مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ.. إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (الذاريات: 58).
فقال له: هذه ألف دينار خذها فانفقها في عيالك وتقوَّ بها على عبادتك، فقال: سبحان الله، أنا أدلك على طريق النجاة وأنت تكافئني بمثل هذا، سلمك الله ووفقك.
ثم صمت الفضيل فلم يكلمنا فخرجنا من عنده فلما صرنا على الباب قال هارون: أبا عباس إذا دللتني على رجل فدلني على مثل هذا سيد المسلمين. فدخلت عليه امرأة من نسبائه فقالت: يا هذا، قد ترى ما نحن فيه من ضيق فلو قبلت هذا المال فتفرِّجنا به، فقال لها: مثلي ومثلكم كمثل قوم كان لهم بعير يأكلون من كسبه فلما كبر نحروه فأكلوا لحمه. فلما سمع هارون هذا الكلام قال: ندخل فعسى أن يقبل المال. فلما علم الفضيل خرج فجلس في السطح على باب الغرفة فجاء هارون فجلس إلى جنبه فجعل يكلمه فلا يجيب، فبينما نحن كذلك إذ خرجت جارية سوداء فقالت: يا هذا قد آذيت الشيخ منذ الليلة فانصرف رحمك الله، قال: فانصرفنا.
أيها الإخوة المسلمون:
أما الخلفاء في الأندلس والفاطميون في المغرب ومصر فلم يحج منهم أحد فلماذا؟!
الأمويون في الأندلس والفاطميون في المغرب كانوا منقطعين وبعيدين لا يجدون الطريق، فلهم عذرهم كأنما هم لا يستطيعون إلى الحج سبيلاً.
كل المشكلة في الفاطميين الذين كانوا يشرفون على الأرض المقدسة كانت لهم السيطرة على الحجاز.. ما هو السبب الذي منعهم عن الحج؟ هل مذهبهم الباطني؟! أغلب الظن أنه ذلك.. وقد كان في بدء الحماسة له.. فبعض هؤلاء لا يحج إلى الآن. أما بعض الذين انشقوا عنه ومالوا إلى الاعتدال فهم يحجون.
وليتهم إذ تركوا الحج لم يسخروا منه.. أتعرفون بركة الحاج في مصر، في القاهرة؟! لقد اتخذ المستنصر أبو تميم من هذه البركة مسرحاً للخزايا والرزايا كأنما يُشْهِد الحاجين على مدى سخريته.
كان يركب النجب ومعه النساء والحشم إلى جب عميره، وكان يتنزه فيه ويعلن أنه خارج إلى الحج على سبيل اللعب والمجانة يحمل معه الخمر ويشربها ويسقيها من معه حتى لقد أنشد أمامه الشريف العقيلي مرة يوم عرفة هذه الأبيات الفاجرة الكافرة:
قم فانحر الراح يوم النحر بالماء
ولا تُضَحِّ ضحى إلا بصهباء
وادرك حجيج الندامى قبل نفرهمو
إلى منى قصفهم مع كل هيفاء
وعد إلى مكة الروحاء مبتكرا
فطف بها حول ركن العود والناي
هكذا كانوا يصفون بالحج سخرية من تصرفهم في أنفسهم بينما هم يغدقون على الحجيج النفقات. لا غرابة، فالفاطميون قد جمعوا المتناقضات.
أما المماليك ومن إليهم فقد حج كثير منهم يضيق المقام عن ذكرهم ولهم مواقف محمودة في حماية الحجيج وغير ذلك. ومن يطالع ابن جبير و ابن بطوطة أو المقريزي يجد الطيب السار. ويجد المكفهر المسيء، أما داهية الدواهي فهي فيما جرى من القرامطة.
أيها الإخوة المسلمون:
وافى مكة عدو الله أبو طاهر القرمطي في 7 ذي الحجة سنة 219هـ بجيشه الجرار وأعمل سيفه في الطائفين والمصلين وفي مكة وفي شعابها وقتل هو وجيشه ما يربو على ثلاثين ألفاً.
وفي الكامل أنه دفن كثيراً منهم في بئر زمزم وفي المسجد الحرام بغير غسل ولا تكفين ولا صلاة ونهبوا أموال الحجيج وأهل مكة.
وركض أبو طاهر وهو سكران شاهر سيفه راكب فرسه ودخل المطاف فبالت فرسه وراثت وطلع إلى باب الكعبة وهو يقول:
أنا باللَّه وباللَّه أنا
يخلق الخلق وأفنيهم أنا
وقد أقام بمكة أحد عشر يوماً وفي 14 ذي الحجة قلع الحجر من مكانه وذهب به إلى بلاد هجر وبقي موضعه خالياً يضع الناس فيه أيديهم للتبرك، وفي يوم النحر سنة 339هـ وافى بالحجر سنبر ابن الحس القرمطي وقد شد بالفضة من شقوق حدثت فيه بعد قلعه ووضعه بيده في مكانه وشده الصانع بجص أحضره معه سنبر وقال:
أخذناه بقدرة الله ورددناه بمشيئة الله وكان وضع الحجر قبل حضور الناس من منى فكانت مدة بقائه بيد القرامطة 22 سنة إلا أربعة أيام.
وقد بذل مدبر الخلافة ببغداد للقرامطة خمسين ألف دينار ليردوا الحجر إلى موضعه فأبوا وقالوا أخذناه بأمر ولا نرده إلا بأمر. وكان مما فعلوا أن قلعوا باب الكعبة وأخذوا كسوته.
ومن القرامطة علي بن الفضل القرمطي ظهر بصنعاء اليمن سنة 293هـ وارتكب المحظورات وأحل لأصحابه شرب الخمر ونكاح البنات وسائر المحرمات، وكان عنوان كتابه:
من باسط الأرض وداحيها ومزلزل الجبال ومرسيها علي بن الفضل إلى عبده فلان، وكان يؤذن في مجلسه: أشهد أن علي بن الفضل رسول الله، وكان ينشد على المنبر بصنعاء:
خذي الدف يا هذه واضربي
وغني هذا ذيك ثم اطربي
تولى نبي بني هاشم
وهذا نبي بني يعرب
أحل البنات مع الأمهات
ومن فضله زاد حل الصبي
وقد حط عنا فروض الصلاة
وحط الصيام ولم يتعب
إذا الناس صلوا فلا تنهضي
وإن أمسكوا فكلي واشربي
ولا تطلبي السعي عند الصفا
ولا زورة القبر في يثرب
ولا تمنعي نفسك الناكحين
من الأقربين أو الأجنبي
فلم ذا حللت لهذا الغريب
وصرت محرمة للأب
أليس الفراش لمن ربه
وأسقاه في الزمن المجدب
وما الخمر إلا كماء السماء
حلال فقدست من مذهب
وهي قصيدة طويلة حلل فيها سائر المحرمات لعنه الله وقد هلك مفصوداً مسموماً سنة 304هـ ومدة محنته وكفره 19 سنة وقد قويت شوكة القرامطة وسلطانهم وظلمهم فنهبوا قوافل الحجاج وقتلوا الأطفال والنساء ونهبوا وزنوا وفسقوا وعصوا أمر ربهم.
أيها الإخوة المسلمون:
لقد عمدنا إلى ذكر القرامطة لأن بعض العرب كاتبين وخطباء قد جعلوا من القرامطة أناساً صالحين فمجدوا ثورتهم لأنها ثورة الصعاليك لأنها ثورة الشعب. فلئن كانت ثورة القرامطة ضلالاً فإن فيما يصنعه هؤلاء من تمجيدها كل التضليل. وتعمدنا ذكر المثالب كما ذكرنا المناقب. المناقب لا تكفي، إن فيها الاقتداء ولكن المثالب فيها العبرة. آفة التاريخ والمؤرخين. احفر وادفن وجامل وتستر مع أن الحق يقضي أن نقولها صريحة في بيان المثالب والمناقب.
والماضي القريب، كان تباعداً، ونهباً وشقة وسلباً، وإتاوات اختلف في جواز الحج معها وبها بعضهم أجاز إعطاءها، وبعضهم أسقط الحج حين تكون.
أما الحاضر فتكلموا عنه أنتم.. أمن، سلام، عمار، رعاية، مواصلات، حدب، حياء، وقار، نعمة، كل النعم في هذه الوحدة في الكيان الكبير المملكة العربية السعودية، في هذا الأمن في هذا الخير، كل ذلك صفة منه أرجوكم الدعاء له، رحمه الله هو عبد العزيز بن عبد الرحمن، أرجوكم الدعاء له بالرحمة شكراً لله منكم ثم شكراً له ليكون بعد الدعاء لابنه فيصل يكمل البناء ويدعم الأمن ويسير بدعوة الإسلام إمام الله والسلام.
أيها الإخوة المسلمون:
إن الحج دعوة جامعة من هذا الإسلام. وإنه عمل كالدعوة من يَمَنِها عن طريق بحرينها، من تهامتها عن طريق البحر يتجه للدين، عمل لا يكفي فيها القول..
والسلام..
إن القول الصريح هو في الحمد لهذه النعمة التي أنتم فيها.. نعمة الأمن والتطلع إلى الخير والدعوة إلى التجمع والوفاق فاللَّهم أهدنا سواء السبيل والسلام.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1070  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 793 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.