شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
العرب وجزيرتهم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين سيدنا محمد بن عبد الله، راعي الغنم، معلم البدو، معلم الإنسانية.. هاديها بقرآن وسنّة، بلسان عربي مبين.. حمله هؤلاء البدو الذين تعلموا من محمد صلَّى الله عليه وسلم.
سامعيّ الكرام.. سادة.. أساتذة، طلاباً، رجالاً واعين.. قبل أن أتكلم عن موضوع المحاضرة أريد أن أرسم لها شكلاً بمقدمة عن المركز الثقافي.
المركز الثقافي.. سواء كان تحت سماء في هذا العراء لا يسئمنا حره.. في أسد أو سنبلة.. ولا يتعبنا برده.. في جدي أو دلو وسواء كان في قاعة مهندمة مكندشة أو مكيفة على الأرائك تسمعون.. سواء كان هذا أو ذاك فإنه ينبغي أن يكون مع هذه الحلية والزركشة والصون، ينبغي أن يكون فيه جوهر ليصبح اسماً على مسماه ثقافة.. وعيا.. هدفاً.. تقدماً.. تلقى فيه المحاضرات. تعقد فيه الندوات ليكون دار ندوة. فقد كان عند أجدادكم من قريش البدو دار ندوة، كانوا حضراً في ظاهر ما يدعون.. في واقع ما يتصرفون بينهم وبين من يسكن الصحراء، ولكنهم في نظري الأكاسرة والقياصرة والنجاشي والأذواء لم يكونوا إلا بدواً.. تعقد في هذا المركز الندوات، يكون فيها الحوار هادفاً إلى خير.. لا يعدل عن حق، يريد الحق. يقهر به الباطل. ينير طريقاً. ليصل إلى هدف.
سادتي.. ليس الرجل الأول في هذا المركز هو المحاضر.. أو وزير المعارف.. أو أي ضيف شرف. أو مدير التعليم.. الرجل الأول فيه كل سامع منكم.. كل سامع يسأل حيناً.. يعترض حيناً آخر. ينكر.. يناقش، يستزيد، فلا قيمة لمحاضرة، لحديث، لندوة، لا يكون السامع هو صاحب الكلمة الأولى فيها. إن امتلكها المحاضر بحق الإعداد والإلقاء، وإن امتلكها المركز بحق التهيئة والتقديم فإن السامع هو مالكها بحق الانتفاع.. هذا لا أغالي حينما أسمع منكم أنه مبدأ.. نسير عليه.. والأكبر من كل ذلك، أن تكون بيننا وبينكم الثقة لا تأتي من الإعجاب والإعزاز، وإنما ينبغي أن تأتي من الحب، الحب ينير الطريق. لا ليعطل عمل العقل ولكن ليجعل من أسلوب العقل أسلوباً رقيقاً، لأنه الرفيق في زمالة الكلمة مع إذن السامع.
سادتي، الكلمة عن البدو، عن البادية والعلم لا أريدها أن تقتصر على ما هو واقع الآن من انتشار التعليم فيهم. ولا أريدها أماني أو اقتراحات عما نريده جميعاً لهم.
أريد أيها السادة أن أتوسع في شرح نعرف منه هذا القبيل من الأمة العربية، عمر جزيرة العرب، في حجازها، ونجدها، وتهائمها، فمن هم العرب؟ هل نختصر الكلام فنقول التعريف السائر هم البائدة.. العاربة.. المستعربة؟ إن هذا التعريف لا يكفي لأنه يعرب عن نهاية التكوين للأمة العربية. أما البداية التي تثبت عراقة هؤلاء البدو، رسخت أقدامهم في أغوار التاريخ البعيد، فينبغي أن نستعير مقتبسين من الأستاذ العملاق، عالم الكتاب، وكاتب العلماء، عباس محمود العقاد. رحمه الله ننقله من كتابه ((أثر العرب في الحضارة الأوروبية)).. ننقل فاتحة الكتاب بعنوانه ونصه - من هم العرب؟ -
هم أمة أقدم من اسمها الذي تعرف به اليوم.. لأنها على أرجح الأقوال أرومة الجنس السامي الذي تفرع منه الكلدانيون والآشوريون والكنعانيون والعبرانيون، وسائر الأمم السامية التي سكنت بين النهرين وفلسطين وما يحيط بفلسطين من بادية وحاضرة، وقد تتصل بها الأمة الحبشية بصلة النسب القديم مع اختلاط بين الساميين والحاميين.
فهذه الأمم كلها تتكلم بفرع من فروع لغة واحدة هي أصل اللغات السامية، ويدل على تلك اللغة اشتراك فروعها في بنية الفعل الثلاثي الذي انفردت به بين لغات العالم بأسره.. وتشابه الضمائر والمفردات وكثير من الجذور والمشتقات، فضلاً عن التشابه في ملامح الوجوه. وخصائص الأجسام قبل أن يكثر التزواج بينها وبين جيرانها من الأمم الآسيوية أو الإفريقية.
وإذا كان لهذه الأمم جميعاً أصل واحد.. فأرجح الأقوال وأدناها إلى التصور أن يرجع هذا الأصل إلى الجزيرة العربية لأسباب كثيرة.
منها أن التحول من معيشة الرعاة إلى معيشة الحرث والزرع والإقامة في المدن طور من أطوار التاريخ، وليس من أطواره المعهودة أن يتحول الناس إلى معيشة الرعاة الرحل في بوادي الصحراء بعد الإقامة في الحواضر والبقاع المزروعة.
ومنها أن الجزيرة العربية - في عزلتها المعروفة - أشبه المواقع بالمحافظة على أصل قديم، وهي كذلك أشبه المواقع أن تضيق فيها موارد الغذاء على سكانها فيهجرونها إلى أودية الأنهار القريبة.
ومنها أن اتجاه الهجرة من ناحية البحرين وناحية الحجاز متواتر في الأزمنة التاريخية القريبة والبعيدة، وأقربها ما حدث بعد الإسلام في وقت واحد، من زحف العرب على العراق وزحفهم على الشام في عهد الخليفة الصديق. وليس مديناً ما يمنع أن يكون التاريخ الحديث دليلاً على التاريخ القديم، ولا سيما إذا خلا التاريخ كل الخلو من رواية يقينية أو ظنية تومئ إلى هجرة النهرين وسكان الأودية إلى الجزيرة العربية في زمن بعيد أو قريب. فإن السمريين سكان ما بين النهرين الأقدمين كانوا هنالك قبل عشرة آلاف سنة، ولم يصل إلينا قط خبر عن هجرتهم إلى مكان في الجزيرة العربية، كائناً ما كان موقعه من تلك البلاد، بل ثبت على التحقيق أن الساميين هم الذين هجروا مواطنهم إلى ما بين النهرين حيث قامت العواصم التي تسمى بالأسماء السامية كمدينة بابل ((باب الله)) أو ((باب أيل)). أما الرأي الآخر الذي يرجح أن الأمم السامية نشأت في بقعة من الأرض غير الجزيرة العربية فأشهر القائلين به هو الأستاذ ((جويدي الكبير)) العالم الإيطالي المعروف في القاهرة، وأقوى الحجج التي يستند إليها مستمدة من مضاهاة اللغات السامية وكثرة أسماء النبت والأمواه في لهجاتها الأولى، وعنده أن اشتراك اللغات السامية في هذه المفردات مما يدل على أرومة نشأت في بلاد مخصبة كثيرة الزروع والأنهار ولم تنشأ في صحراء العرب، وما شابهها من البقاع.
وهذا الرأي ضعيف لا يقوم بالحجة الناهضة ولا تؤيده حالة الجزيرة العربية قبل الكشوف الحديثة بزمن طويل، فضلاً عن حالة الجزيرة التي تدل عليها تلك الكشوف في طبقات الأرض وعوارض الجو وعلم الأجناس.
فالمروج الفيحاء، والبقاع المخصبة لم تكن مجهولة قط في جنوب الجزيرة، ولا في جوانبها الشرقية الشمالية عند البحرين ووادي اليمامة، وهي البقاع التي مر بها المهاجرون من قديم الزمن تارة من اليمن إلى البحرين بداءة إلى ما وراءها من المشارف الشمالية، ولم تزل بقاع اليمامة إلى ما بعد الإسلام مشهورة بالمراعي الواسعة والعيون الثرارة والأمطار الغزيرة والمروج المعشبة التي تخلفت مما هو أخصب منها وأعمر بالإنسان والحيوان في أقدم الأزمان، وقد لاحظ الرحالة الألماني ((شوينفرت)) أن القمح والشعير والجاموس والمعز والضأن والماشية وجدت في حالتها الآبدة في اليمن وبلاد العرب القديمة قبل أن تستأنس في مصر والعراق.
وتبين من الكشوف العلمية في العهد الأخير أن الجزيرة العربية تعرضت لأدوار الجفاف وطوارئ الزلازل منذ عصور موغلة في القدم فكان القفر فيها يجور على الخصب في أدوار طويلة بعد أدوار أخرى على التدريج، قبل أن تجور الصحراء على معظمها في عصور التاريخ.
فحالة الجزيرة العربية كافية لتفسير التشابه بين لغات الساميين في ألفاظ الخصب والثمرات والأمواه ولكن الرأي الآخر - رأي الأستاذ جويدي - لا يفسر لنا الفرض القائل بهجرة العرب ممثلاً مما بين النهرين، أو من الشام، إلى قفار الصحراء.. وهو فرض لا دليل عليه من الروايات القديمة ولا من الأحوال المرجحة على حسب التقدير المعقول ولا من السوابق المألوفة كما رأينا الأمثلة جلّها من التاريخ الحديث. وعلى هذا يصح أن نعتبر أن سلالة العرب الناشئين في جزيرتهم الأولى قد سكنت أواسط العالم المعمور منذ خمسة آلاف سنة على أقل تقدير. وأن كل ما استفاده الأوروبيون من هذه البقاع في هذه العصور، هو تراث عربي، أو تراث انتشر في العالم بعد امتزاج العرب بأبناء تلك البلاد..
وليس هذا التراث بقليل.. لأنه يشتمل على كل أصل عريق، عند الأوروبيين، ف-ي شؤون العقل والروح وأسباب العمارة والحضارة وهي (1) العقائد السماوية، و (2) آداب الحياة والسلوك و (3) فنون التدوين والتعليم و (4) صناعات السلم والحرب وتبادل الخبرات والثمرات.
انتهى كلام العقاد، وليس هذا حشواً مني أن أنقله، وإنما هو التعريف بهذا البدوي أريد له العلم، فلئن كان العرق العربي قد انتشر في العصور السحيقة من هذه الجزيرة، من جنوبها ووسطها، شرقاً إلى شمال، ويتجه غرباً إلى شمال فإن هذا البدوي بإسلامه، بلغته، قد انتشر فاتحاً في أول الأمر، ناشراً للإسلام، وقد انتشر ثانياً بهجرة عربية، عربت شمال إفريقيا كله، ورسخت العروبة في مصر. ليرجع دعاة الفرعونية إلى أصل عربي حتى بفرعونيتهم.
هذا البدوي هو العربي، في أعراقه حضارة، في دمائه علم، في قلبه عقيدة، لم يعش يوماً واحداً دون عقيدة.. صابئياً عابد كوكب إبراهيمياً حنيفياً، مشركاً عابد صنم، مسلماً موحداً بالله.. لم يتقبل هذا كله، الضال والهادي إلا بقلب حضاري رغم هذه البداوة فيه تكلموا معه الآن، لتتعلموا منه اللغة، ليست المقررات فحسب، وإنما الأسلوب، الأسلوب الفصيح، الراقص، المهندم.
الجزيرة العربية، مهد العرب، لم تكن في الماضي السحيق كما لمح إليه العقاد صحراء جدباء، فهم كنسل سام عاشوا في الجزيرة العصر المطير، فلا يعني وجود النهر في العراق أو النهير في الشام أنهم نشأوا هناك، لأن في لغتهم لغة الزراع، لقد نشأوا في أرض كانت ممرعة، مزهرة، سموه الأسماء المائة، لو لم يعرفوه، لو لم يعاشروه، لما سموه، لما وصفوه.
ليزر واحد منكم ((عشة)) في جيزان فإنه سيجفل حينما يدخل الحوش، فيه البقرة، فيه رائحة الروث، ولكنه حينما يدخل العشة يجدها نظيفة يجدها مدوكره، فيها حلية، أخذت شكل ديكور، طار معلّق، عود، صحن، صورة، هذه الجيزانية التي تعنى بالعشة، تضع فيها الزينة، لا شك أنها وإن تبدت اليوم فإن في قلبها حضارة..
لو شاهدتم ما يصنعون من زهر الفل لعجبتم من الذوق الحضاري، أساور، تيجان، عقود، وربى، إنها لجميلة تنبئ عن حضارة.
البداوة لديكم ظاهرة.. تشعرون بها من عدم الامتزاج بين المدينة والقرية، بين من يزعم أنه حضري وبين من هو بدوي، ولكنها في لبنان مثلاً مندمجة، فالقيمة للبناني أنه متحضر إلى حد بعيد وفي الوقت نفسه بدوي إلى حد بعيد. ومثله السوري تقريباً.. ومثله الجزائري، والمغربي، كل هؤلاء من أصل بدوي. من هنا، لا يشعر بدوي في غربة من حضري هناك. أما لدينا فالبدوي لا يزال يشعر ببعض الغربة إن خفت حدتها الآن بوحدة الكيان الكبير، بالرعاية الكاملة بالمواصلات السريعة، فإنها كانت من قبل حادة إلى درجة الانفصال.
وهنا، أرجو أن يقفل المايكرفون لئلا نسجل هذه الكلمة، ألم نكن نقول ((يا واد حجز)) ((يا واد بدو)) ((سيبوا هاذا شرقي)) ((يا باوليد)) ((يا باحضرم)) كنا نقولها ألفاظاً لا أدري بماذا أصفها، أما اليوم فقد انمحت.. كلنا إخوة.. كلنا أهل. سادتي.. ليس هؤلاء البدو الذين ترون جماعة من الناس يحسبون في البدائيين.. ليست البداوة لدينا تمثل البدائية.. البدو لدينا عندهم حضارة يمثلون جزءاً من شعب.. جزءاً من أمة، الأمة العربية، ذات الحضارة العريقة، فلنتفق أولاً على الحضارة، هل هي استعمال أم طبيعة؟ إن كانت هي الاستعمال، لهذا البهرج من أدوات المدينة، أو هذا الإنتاج له، والتعامل معه صناعة وبيعاً وشراء واستهلاكاً، فكلنا من حضري في المدينة أو بدوي في الصحراء كلنا شعب بدوي.. وإن كانت الحضارة استعداداً وطبيعة وفكراً وثقافة فليس هذا البدوي بالإنسان البدائي وإنما هو إنسان متحضر لديه الاستعداد لأن يتعلم، لقد نجحوا في المدارس، وفي الجامعات بصورة رائعة.. فأكثر العشرة الأوائل منهم، لقد نجح من نزح منهم إلى المدينة مهندس تلفونات، سائق دركتر- مهندس كهرباء، مهندس سيارات، وما إلى ذلك، أما الطبيعة طبيعته فليس المظهر الذي ترون من خشونة الملبس والمطعم إلا شيء عارض لعوامل أخرى كالجدب كالبعد كعدم الرعاية، أما وقد بدأ يزول كل ذلك حيث يجد البدوي ما يغنيه عن الكلأ، ما يقربه إلى المدينة، ما يحوطه بالرعاية.. فإنكم ترون الرقة وحسن السلوك، والفهم، والرعاة، يفسر ذلك موقف علي بن الجهم.
والفكر.. ما دليله؟ ما إنتاجه؟ أليس في هذا الشعر. في الكلمة الشاعرة.. من اللغة الشاعرة.. في المعرفة لأمته، فكر كل الفكر؟
والثقافة.. أنا معكم أن البدوي غير متعلم.. وأرجو أن تكونوا معي تعترفون بأنه المثقف.. البدوي.. والبدوية، كل منهما مثقف، يعرف ما حواليه، ومن حواليه، ينسج بيته الشعر، من الغزل، من خدمة الصوف، ينسج العباءات البيتية، والبيدي، ينسج المصانف، يدبغ الجلد، يصنع منه السعن، القربة، النرب، القلص، الحوض، الأحذية قد لا يعرف أن يطبب نفسه، ولكنه طبيب ماهر لماشيته، ثقف الخيل، ذلل الجمال، عسف الحمير، رعى الشياه، وأكثر من ذلك، لديه ثقافة زراعية ممتازة، يعرف أوان ما يزرع، وكيف يزرع، وماذا يزرع سواء كان ما يزرعه عثرياً أو مسقيًّا.. مارس الطب، بالكي، وبالعقاقير.. يعرف مطالع النجوم لعلاقة ذلك بأوقات الزرع، ما لم يعرفه العلماء كل الفرق أنه بعد عن المدينة، وتباعدت المدينة عنه.
سادتي.. لقد كان هذا البدوي مصدر العلم، علم اللغة كل أئمتنا الرواد جمعوا اللغة ألفاظاً تلقنوها عن البادية.. كان الإمام عمرو بن العلاء أحد الأئمة القراء السبعة شيخ الأئمة في البصرة، جالساً وبين يديه طلاب العلم فسأله أحدهم.. مم اشتق اسم الخيل؟ فقال: لا أدري.. انتظروا قليلاً.. وبينما هم ينتظرون طلع عليهم أعرابي من هؤلاء الذين يزحفون على العراق من نجد زحفوا في الأول فاتحين، هادين، بناة دولة، وتوالى زحفهم ناشري لغة، يصدرون العجمي فلولا الزحف من نجد على العراق لاستعجم عراقكم من زحف الشمال والشرق، للزحف الأول الفاتح قالوا، قبائل نجد صخار الإسلام وفي الزحف الثاني المعلم المعرب من هؤلاء البدو قالوا: نجد ولود والعراق داية.. بينما هم ينتظرون طلع عليهم الأعرابي، فاستوقفه الإمام يسأله مما اشتق اسم الخيل؟ ولم يقف الأعرابي، شمخ بأنفه، وقال لهم وهو يسير، من السير، ولم يفهم الطلاب فقال لهم عمرو بن العلاء، أفهمتم؟ قالوا ما فهمنا شيئاً، قال الإمام لقد اشتق اسم الخيل، من سيرها، من الخيلاء.. ألا ترونها تمشي العرضنة تيهاً وخيلاء.. هم بكل ذلك، بكل زحف، حملوا مشاعل العلم والمعرفة حيثما وجدوا من يلتقط العلم والمعرفة، وليست الثقافة أو العلم أو المعرفة أحمالاً وأكداساً، يكفي من المعرفة القليل ليكون منه الكثير حينما وجد الجامع لهذا القليل صيره كثيراً.
سادتي، لم يكن هذا مقصوراً على العصر الأول، أنه في هذه الأيام ولكن الذاهبين إلى البادية ليتعلموا اللغة لا يوجدون.. أنا الماثل أمامكم ما كنت أعرف ذلك قبل أن أصطدم به.
خذوا ألفاظاً تعلمتها من بعض البادية.
كنت بعد ظهيرة أجلس في ((مقعد)) في القرارة فإذا ببدوي هذلي يقف علينا ويقول، مسترفداً لنا، البدوي من كبر نفسه، لا يسمي هذا الاستعطاء تسولاً وإنما يسميه ((رفداً)) رقت مشاعره، فرقت ألفاظه، قال هذا البدوي وهو يسترفد، أو على حد تعبيركم ((يتسول)) ((ثوبي تهتر يا ولد)) وسرقتني كلمة ((تهتر)) فأنا المتعلم.. الأستاذ كما تسمعونني لا أعرف أن المهاترة هي ترديد الكلام، تشقيقه، وفيما لا ينفع. ذهب البدوي إلى حاله.. ورجعت إلى اللسان فإذا بي أجد ((تهتر)) في الأصل تعني ((تمزق)).. كان هذا البدوي أستاذي في هذه الكلمة.. هو مثقف بطبيعته، وأنا متعلم منه.
وبدوي من حضرموت، كان سائق سيارة عندي وصف شارع علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فقال.. ((هذا شارع نفيس)) وقلت أي نفاسة في هذا الشارع؟ لقد تبادر إلى فهمي أن النفيس بمعنى الغالي الثمين، النادر وسألته، ماذا تعني بكلمة نفيس، قال الواسع.. وعرفتها في الحال، كأنما هي الأصل النفيس يعني الواسع، حيث جاء منه، النفس، المتنفس، النفساء، النفس، وبدوي آخر من بدو حضرموت قلت له.. وهو سائق سيارتي أيضاً، لماذا لم تأكل البيض؟ قال إن البيض رث لا أستطيع أكله، وسألته ماذا يعني بالرث.. نحن المتعلمين نعرف أن الرث هو البالي، القديم، أما أنه الفاسد المتعفن فهذا شيء جديد علي.. أحسب أنه الأصل في كلمة ((رث)).
سادتي، من عجيب أمر هؤلاء أنهم قد أودع الله فيهم قوة صبروا فيها على كل المهلكات، ليمدوا الأمة العربية في جميع أقطارها بما ملأ هذه الأقطار.
إن الفتح الأول لم يرسخ العروبة في مصر، في ليبيا، في تونس، في الجزائر، إنما الذي رسخه وقضى على ما عداه هو زحف هذا البدوي جهنياً يشكل دولة في جنوب مصر وشمال السودان، هلالياً، سليمياً، يبتلع صعيد مصر ليكون عربياً، يهضم ليبيا لتكون العربية، يطحن الأعاجم والأعجمية في تونس، الجزائر ليجد الرديف قبله في المغرب، وفي موريتانيا، يتصافح معه، بيد عربية، بسماحة عربية، بلسان عربي مبين، يتوج بالإسلام.
ولقد أنصفنا هذا البربري الصنهاجي صاحب اللسان العربي، زعيم الإسلام في الجزائر عبد الحميد بن باديس يرحمه الله، قالها كلمة وهو سليل الملوك الذين سلب ملكهم بنو هلال قال بإنصاف يصف بني هلال.. لئن قيل إنهم خربوا، فقولوا لهم إنهم عربوا.. وي.. كان عمر بن الخطاب ينظر بعين الغيب، كأنه ينظر إلى انتشار أمته هذا الانتشار.. قالها وهو المحدث، قالها عبقري هذه الأمة، قالها في عام الرمادة، وقد أجدبت الأرض، وأمسكت السماء فجاء هؤلاء البدو إلى المدينة يلجأون إليه، لم يتركهم، عاشرهم، عاش معهم، لم يطعم في بيته طعام، ما أكل سمناً ولا زبدة، ما دسّ في قعر داره عيشاً ناعماً.. بل كان يأكل معهم زيتاً وخبز شعير، صبر عليهم، وصبر من أجلهم. كتب إلى ولاته يطلبهم المدد عيشاً لهؤلاء.. كتب إلى عمرو بن العاص وهو في مصر يقول له.. ((من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى عمر بن العاص يالكع بن لكع. لا تُبَالِ أن تعيش أنت ومن معك لأهلَك أنا ومن معي))، فكتب إليه عمرو بن العاص. ((لبيك ثم لبيك، هذه العير أولها عندك وآخرها عندي))، وأكل هؤلاء أكل قوم عمر، أمة محمد، قالها عمر وهو يستغيث.. ((اللَّهم لا تجعل هلاك أمة محمد على يدي))..
عجيب، هؤلاء البدو أمة محمد. آلاف وهم هذه الملايين، نعم كان عمر ينظر بعين الغيب، كان أولئك أمة محمد لأنهم آباؤهم اليوم، أعاشهم الله. أبقاهم الله. لتكون منهم الزحوف ولتكون منهم أمة محمد اليوم.
سادتي، هؤلاء البدو سكان الجزيرة ورثوا تراث حضارة من قديم، أنظروا إلى آثارها الآن إن لم تتضح فستحمل لكم الكشوف الأثرية غداً العجب العجيب وكما هم ورثة حضارة. روّاد حضارة، مؤسسو عمران، منظمو دول، أفلا ينبغي لنا أن نلتفت إليهم؟ إن هذه الوحدة في الكيان الكبير كله، لا أحسبها إلا إرهاصاً لعمل كبير تأتي به هذه الأمة من بدوها وحاضرتها، إذا ما تم الإعداد توجيهاً والاستعداد إرشاداً وتعليماً.
سادتي. إن الدولة.. في شخص كل وزارة، المعارف، الصحة، الزراعة، المواصلات، الشؤون الاجتماعية، تسير سيراً حثيثاً في تعليم الشعب، في تعليم البادية ولكن، ورغم انتشار هذه المدارس وتحديد المناهج، فإني أرجو من وزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة الصحة ووزارة المعارف أن يتفقوا على تنسيق العمل بينهم.
إن بعض هؤلاء يحتاج إلى كساء، ثوبين في الصيف، وجاكتة أو بالطو في الشتاء تصرف لكل تلميذ، رعاية لصحته. إغراء له ولأمثاله بالدوام على الدراسة، إن هذا لا يكلف كثيراً. وشيء من التمر أو العدس، كوب شربة عدس في الصباح يعطى لهذا الطالب يشربه ليتغذى به، عشر تمرات أو قطعة من العجوى إن لم يكن العدس، يأكلها هذا الطالب يتغذى بها. إن كوباً من العدس أو عشر تمرات عماد لمقاومة ضعف الغذاء، وضعه حافظ عفيفي يرحمه الله في كتابه ((على هامش السياسة)) كمخطط لتغذية أبناء الريف لمقاومة السل. كوب العدس. بضع تمرات. حفنة فول سوداني، الفول السوداني لا لزوم له عندنا، فالتمر متوافر وهو يغني عنه.
وشيء آخر ألفت إليه نظر وزارة المعارف، فإني أرجو التقليل من فخامة بناء المدارس في القرى.. إن بناء مدرسة فاخرة في قرية كل بيوتها من اللبن أو بيوت الشعر أمر يضر بالتلميذ، وأقل أضراره كراهيته لبيته حتى إذا كبر ترك قريته وطلب المدينة التي فيها هذا البيت الكبير. إن مدارس في رابغ بنيت حديثاً أحسن بكثير من بعض المدارس التي بنيت في مدن كبيرة. حبذا أن يكون البناء قوياً ونظيفاً لا بهرج فيه ولا زينة ولا غير ذلك. القصد منه عدم وجود الفوارق بين بيت الطالب ومدرسته، وأعني بالفوارق الفوارق الكبيرة!
سادتي. هناك نوع من التصرف الحضاري سبقت به الأمة العربية كل الأمم، وأعني به عملية الهضم، هضم كل من عايشهم وساكنهم، هضمت القحطانية العدنانية، وهضم العرب الموالي والحلفاء كل من ساكن قبيلة وعايشها صار منها. هذه العملية لا تأتي إلا لفكر حضاري ونفس متحضرة، الأمثلة على ذلك كثيرة. العرب سبقوا فيها الولايات المتحدة، الولايات المتحدة تهضم كل المهاجرين، والعرب هضموا كل المتعايشين معهم والمساكنين لهم.
ولأضرب لكم أمثلة:
سادتي. لقد دللت على هذا الهضم في حديثي عن السودان نشرته في جريدة البلاد أقتبس منه هذه الفقرات.
وهذه هي الفقرات المنشورة بعدد البلاد رقم 1975/الصادر بتاريخ 7 ربيع الثاني 1385هـ.
ولا ينبغي أن ننسى أنكم في السودان تتبعون تقاليد عربية ليست غريبة علينا حتى في هذا ((الجعل)) اتخذته قبيلة الجعليين تدخل كل عربي فيها (قد جعلناكم منا).
فليس هذا بدعاً جاءت به قبيلة في السودان، بل هو الأصل في الأمة العربية، هضم قحطانيها عدنانيها. فابتلع عدنانيها جرهمها. حتى صار السيد فيها لغة وقيمة وقيادة تحقق هذا في جاهلية جهلاء.
وبعد إسلام وبالإسلام (الولاء لمن اعتنق) (مولى القوم منهم) الدم. الدم. والهدم. الهدم. يشمل المولى والحليف والأصيل.
ولقد كان بلال جمحياً قبل أن يعتقه أبو بكر فصار تيمياً بعد أن أعتقه (سلمان منا أهل البيت) تفعل هذا العربية في كل حين. جعلت من أبي حنيفة والحسن البصري والبخاري الأئمة في إسلامها كالأئمة من أعراقها، وجعلت من سيبويه مهندس نحوها. قانون لغتها وجعلت من الجرجاني والزمخشري والتفتازاني المهندمين لبيانها. ومن الجاحظ وابن المقفع المقاييس للكاتب المبين، وجعلت من أبي نواس وبشار ومهيار وابن الرومي المزخرفين لشعرها، والزينة الحلوة في لغتها الشاعرة.. وجعلت وجعلت.. جعلت من شوقي أمير شعرائها.. وستجعل وستجعل. ما دام هذا القول قائماً فيها إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (الحجر: 9).
وستجعل ما دام هذا الأثر الكريم يروى عن النبي الكريم صلَّى الله عليه وسلم (ليست العربية بأم أحدكم ولا بأبيه.. كل من تكلم العربية فهو عربي).
سادتي.. إنا حينما نعنى بالبادية إنما نعمر أرضنا، نصون أنفسنا، فهم الأكثرية فينا، والمعول عليهم في بناء أمتنا. ولعلّكم تعرفون أكثر مني أن وحدة المشاعر كوحدة القبيلة، كوحدة الأرض، فيهم صنعت لنا الشيء الكثير، قد يشعر أي حضري أنه غريب في مدينة أخرى يذهب إليها. أما هذا البدوي فإنه لا يشعر بغربة حيث ما رحل في هذه الجزيرة، فلا الدوسري يشعر بغربة عند الجهني، ولا العجمي يشعر بغربة عند الحربي، ولا الغامدي يشعر بغربة عند الدوسري.
عجيب فيهم وحدة المشاعر.
عجيب فيهم احترام التعاون
عجيب فيهم عمق الصلات
ولأضرب لكم الأمثلة:
سادتي. لقد أطلت عليكم، ولكنها إطالة أرجو أن جعلتنا نزرع شجرة من الحب لكل فرد فينا في هذا الكيان الكبير، أقام بناءه عبد العزيز ويحرس قيامه خالد بن عبد العزيز ليكون منه وإليه عمل جديد.. بناء جديد.. خير وفير.. وإلى مستقبل أفضل، مبعثه التفاؤل يصنعه العمل.. يقيمه الإخلاص. يدعمه الحب تزينه الرحمة، يكلأ كل ذلك العلم. والسلام عليكم.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1326  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 788 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

البهاء زهير

[شاعر حجازي: 1995]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج