ثم أعطيت الكلمة لفضيلة المربي الأستاذ الفاضل عثمان الصالح المحتفى به فقال:
- حمداً لله, وصلاةً وسلاماً على رسول الله. أما بعد, فإن خير تحية هي تحية الإِسلام... فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
- قبل أن أبدأ كلمتي أحب أن أشير إلى أخي وصديقي, والرجل الفاضل الذي نحبه لله وفي الله, ثم للوطن.. الأستاذ عبد المقصود خوجه...
- أما هؤلاء الذين تحدثوا عني وذكروني بهذا الشرف العظيم, وأثنوا عليَّ هذا الثناء الواسع فأعتقد أنني لا أستحق كل ذلك. نعم هذا الاجتماع, كإخاء وكصداقة, وكرابطة وطنية وكرابطة اجتماعية وكرابطة دينية, أحييه وأسعى إليه. ومهما يكن الجمع كثيراً فإنه لا كثير على الأصحاب من بلد واحد ومن وطن واحد أن يجتمعوا, فهذا الاجتماع كله خير وكله بركة.
- أما أن الأدباء يجتمعون ويتحدثون عني, فأرى أن هذا شيء كثير جداً ولا أستحقه إطلاقاً, ومهما قيل فهم مشكورون عليه, لكنني أقل منه بكثير, بل أقل منه بدون استثناء.
- أما كلمتي التي سألقيها الآن, فقد حدثني أخـي عبد المقصود في الرياض قبل ثلاثة أيام أو أربعة أيام, وهذه الفرصة غير كافية لأن أعد كلمة واسعة أتحدث فيها أولاً عن التعليم, ثم أتحدث فيها عن الأحداث التي مرت, ثم أتحدث فيهـا أيضاً عن رجالاتنا في هذه البلد في هذه المملكة.. وأخص هذه المنطقة بالذات, فهي المنطقة الوحيدة التي غذانا أساتذتها وربونا تربية عظيمة, استطعنا بها أن نتذوق حلاوة التعليم, وأن نصل إلى ما نريده في حياتنا, وأن نكون شيئاً مذكوراً.
- فمن منكم ينسى السيد طاهر الدباغ, هذا رجل عظيم أبـى إلا أن يكون التعليم سائداً في المناطق كلها, وأبى إلا أن يتحدث مع الملك عبد العزيز بصراحته ورجولته ووطنيته, حتى استطاع في سنة 1356هـ أن يوجد هذه المدارس التي تسمى مدارس الملحقات, والتي أدت ثماراً ضخمة. لكن بماذا أدت ومن أي شيء أدت؟ لأنه اختار أساتذة أجلاء فضلاء في دينهم وفي علمهم وفي وطنيتهم وفي إخلاصهم. ولا أستطيع أن أعددهم, ولكنكم كلكم تعرفونهم. استطاع أن يرسل كل واحد إلى مدرسة من المدارس في نجد, حتى استطاع هؤلاء أن يقفزوا بالتعليم وأن يثبتوا فضيلة المعلم, وكيف يكون المعلم المؤمن.
- وقبل كلمتي أود أن أشير إلى هؤلاء الذين تحدثوا, ومع اعترافي بأن بلاغتي وبياني لن تصل إلى معلوماتهم, ولن تصل إلى بلاغتهم, ولكنني يجب أن أشكرهم, وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجزيهم عني خير الجزاء. أما كلمتي المتواضعة التي سأتحدث بها الآن, فهي مرتجلة ولم يمر الوقت الكافي عليها لكي أهذبها وأنقحها, وأجعلها كلمة تستحق القراءة. سأبدؤها أولاً بالحديث عن مضيفنا الأستاذ عبد المقصود خوجه الأديب وابن الأديب.
- أيها الإِخوة الكرام, أدباؤنا وإخواننا وأبناؤنا, ووجوهنا المشرقة في سماء الأدب, والخلق والمروءة والاعتزاز بالبلد.. أيها الإِخوة.. أجد الشرف عظيماً. أن يدعى معلم يحب العلم والمعلمين, وإنها سنة استنها ابن الأديب والأديب خوجه, أن يجمع بين العلم وحب المعلمين, وأن يمزج هؤلاء وهؤلاء في ميدان جميل, وهو ناديه الحبيب الذي لبى دعوته المحبون والمتأدبون من سائر المملكة. وإنني ألبي كأول معلم في أول مدرسة أنشئت في نجد عام 1356هـ.. في عهد الملك عبد العزيز... وبحزم وعزم من السيد طاهر الدباغ, الذي له الفكر الحي والرأي الجد.
- إنني لا أحمل شهادة عليا ولا متوسطة, ولكني تعلمت شيئاً يسيراً من المعلومات في خلال السنوات ما بين 1348هـ - 1353هـ, لدى أستاذ جليل وعالم فاضل ومرب قدير, هو صالح الناصر الصالح الذي درس في الزبير والعراق والكويت والبحرين, على يد عالم كبير هو محمد الشنقيطي, وكلنا نعرف الشناقطة.. علماء أجلاء في اللغة والدين, وذلك في الثلاثينات الهجرية. وأتى إلى عنيزة وعنيزة من المدن التي لها وعـي خـاص نحو هضـم التربية والتعليم, وأتى إلى عنيزة مسقط رأسه, ومقر أسرة أخواله, ولما كانت عنيزة ذات وعي وإدراك وتقدير للعلم, فقد استقبلته واحتضنته, وكنت ممن نال شرف الدراسة عليه. فقد كان طالب علم وشاعراً وخطاطاً, ثم شاء الله إلى أن أعود إلى مسقط رأسي في مدينة المجمعة من أعمال سدير المنطقة التابعة لمدينة الرياض.
- وقبل أن أسترسل في حديث ذكرياتي, أحـب أن أشكر الشيخ عبد الرحمن أبا الخيل, هذا الرجل كان نصيراً للمدرسة في عنيزة, وكان من أهل الثراء, له أيادٍ بيض, وله صلات كريمة وأعمال طيبة. وكيف لا يكون له كل ذلك وقد ربته أم فاضلة أديبة متعلمة شاعرة, وأرضعته حب الخير وبذل الإِحسان.
- نعود الآن إلى الذكريات:
- بعد عودتي إلى مسقط رأسي المجمعة التحقت في شعبان سنة 1356هـ بالمدرسة وبقيت بها حتى سنة 1359هـ, ثم قدمت إلى الرياض وعينت بضعة شهور لدى المحكمة الشرعية كاتب ضبط, لكن الأمير عبد الله بن عبد الرحمن شقيق الملك عبد العزيز التمس من الشيخ عبد الله بن زاحـم والشيخ محمد البواردي, الأول رئيس المحكمة, والثاني مساعده أن يتنازلا لسموه بأن أكون مديراً لمدرسة أولاده. فمكثت عنده من عام 1359هـ إلى عام 1363هـ, ثم سافرت إلى المنطقة الشرقية بعد أن استقلت من لدن الأمير عبد الله لأكون عند عمي الذي كان في الجبيل تاجراً, وطاب لي البقاء, إلا أن برقية في نفس العام أي في 1363هـ وصلت إليَّ من الأمير سعود بن عبد العزيز ولي العهد آنذاك تطلبني على عجل للذهاب إلـى الرياض, ولا أدري لماذا, وذلك فـي آخر عام 1363هـ وكانت المهمة استلام مدرسة الأنجال وبادرت منذ استلامي العمل بها على تنظيمها, وأن تسير على النسق الحديث والتدريس الذي يعتمد على المنهج والبرنامج. وألغينا الألواح الخشبية.
- ومن عام 1363هـ والمدرسة في تقدم وازدهار, تنحو نحو الدراسة الحديثة على أنظمة إدارة المعارف, ثم تطورت بما نختاره من المدرسين من مصر وسوريا والأردن واختياري الشخصي. ثم صار لها قسم ثان وهذا لم يشر إليه أحد مع أنه مهم جداً, وهو معهد البنات الذي كان أول معهد وجد بمدينة الرياض, والذي تطور هو الآخر من الروضة والابتدائي إلى الثانوي بدءاً من الروضة, وأضيف إلى ذلك مبرة الكريمات التي كانت تنفق عليها بنات جلالة الملك سعود رحمه الله.
- وبعد بضع سنوات من إنشاء الرئاسة العامة لتعليم البنات, وبأمر من جلالة الملك فيصل رحمه الله, كانت مدارسنا النسائية النواة الكبرى في مدينة الرياض, مؤسستين هما: معهد البنات بأقسامه من الروضة إلى الثانوية العامة كاملة التشكيل, ومبرة الكريمات من الروضة إلى الكفاءة المتوسطة. وسلمنا الشيخ ناصر الراشد الذي وجد نواة صالحة في مدينة الرياض, وصرحاً ثابتاً؛ رعته عناية الملك سعود وكريمات جلالته.
- أيها الإِخوان... العرب مشهورون بالسمر فيما نسميه الآن بالنادي والندوة, وبما كان يسمى في الماضي عكاظاً.
- وما ماثل ذلك من الأسماء والمسميات, وكنا في نجد حتى في العصر الذي خلا من الثقافة وانحسر فيه الأدب, قبل عهد الملك عبد العزيز, وقبل توحيده للمملكة العربية السعودية, وقبل تصحيحه أوضاع الجزيرة المتفتتة قيادياً واجتماعياً وقبلياً, لم نعدم في نجد السمر والبيت المفتوح في كل مدينة وقرية من لدن وجهائها وأعيانها, وفي حلقات السمر هذه يقرأ القارئ تفسير ابن كثير والبداية والنهاية, وبعض المطولات في العقيدة. ولكن ليس فيها مطارحة شعرية ولا أدبية ولا بحث عن اللغة, لعدم وجود مدارس ما عدا الكتاتيب الأولية المهتمة بتحفيظ القرآن. ولقد حضرت بقايا هذا العهد عند سفري إلى عنيزة عام 1348 هجرية لدى ذلك الأستاذ البطل في عزمه وحزمه وعلمه صالح الناصر الصالح, أستاذي وأستاذ معالي الشيخ عبد الرحمن أبي الخيل.
- واسمحوا لي أن أكون صريحاً في ذكر حقيقة غالية كان لها الأثر البالغ في نهضة العلم في هذه البلاد, لأننا يوم حظينا بانتشار التعليم ويوم وعى شباب بلدنا شيئاً من المعرفة, رأى موحد الجزيرة ومؤسس مجدها ومشيد علمها أن يرسخ العلم أكثر, وأن يعمد إلى طلائع المتعلمين من المدارس الابتدائية في نجد, إذ أمر باختيار الدارسين لينهلوا من مناهل العلم في منطقتنا الغربية مصدر اللغة والدين والأدب والثقافة, فأوجد دار التوحيد في الطائف التي كان خريجوها جيشاً علمياً في الدين واللغة في كليتي الشريعة واللغة في مكة المكرمة.
- وفي دار التوحيد وكليتي الشريعة من بلادنا المقدسة وربوعنا المطهرة, حظيت البلاد بفتية في كل أنحاء البلاد, كانوا رسل علم وتعليم وإدارة وقيادة, في التعليم والوزارات والمصالح الحكومية في القطاعين الخاص والعام. ومن هنا ومن هذه الربوع, وبفضل الله ثم بفضل الملك عبد العزيز كان لهذه الطلائع أثرها وتأثيرها في هذه النهضة التي يحمل رايتها خادم الحرمين الشريفين وزيراً وملكاً فهد بن العزيز.
- أيها الإِخوة إن نادي الأستاذ الوجيه عبد المقصود خوجه, أو ندوته أوسمرته التي استقطبت الأدباء والشعراء, هي امتداد لما ذكرت من عكاظ, إلا أنها من نوع اجتماعي وأدبي موفق, وهي نادرة ليس لها مثيل في عصرنا الحاضر, إلا ما كان من ندوة أستاذنا عبد العزيز الرفاعي, الذي ثابر عليها في مدينة الرياض درة الصحراء والواحة الخضراء.
- غير أن ندوة وسمرة نادي أديبنا خوجه ذات مدلول أوسع, اجتذبت الأدباء من الخارج والداخل, وكان لها رسل وبعثات يتولى أديبنا حفظه الله خوجه إرسالهم وتوجيههم وابتعاثهم في المشاركات الأدبية وكتابة البحوث, والاستطلاعات الاجتماعية والتاريخية والأدبية. وهذا ما لم يكن لغيره ولم يسلكه أحد من الإِخوة لذلك. لأن إمكاناته المادية وسخاءه بالمال فتح له المجال. ومن هنا جئنا إلى هنا وكلنا شوق لناديك, وإنني لأهيب بالكثير من أمثاله أن يحذوا هذا النوع من النوادي اهتماماً بالغاً, وأن نكون في حاضرنا كما كنا في ماضينا. وقريش, قريش الحجاز, قريش البلد هنا شعباً وشرفاً وتاريخاً ومكانةً. لا تنسى أبداً, وهذه الأرض المقدسة جديرة بأن تحمي ما اندثر, ولاسيما في عهد دولة أسست الجيش والاقتصاد والجامعات, وبنت المعلم وبنت العلم, وأوجدت المعلم وقضت على الأمية. وصرنا نرسل البعوث التعليمية للعالم شرقيه وغربيه في عهد خادم الحرمين الشريفين فهد بن عبد العزيز, أعزه الله ونصره, وأيد ملكه وحقق آماله من نصر الإِسلام وإعزاز المسلمين.
- أيها الأخ العزيز والفاضل النجيب, لا أرى مستحيلاً أن يكون ناديك واحداً من كثير من النوادي المماثلة في كل مدينة وقرية يتبادلون الزيارات, ويلتئمون في سائر المجالات, ويتناولون البحوث والمعلومات, ولكن أطالبك والله قد كرم عليك بكرم الخلق ووفرة المادة وسماحة النفس وبُعد النظر, أن يكون لك مجلة أو بعبارة أخرى نشرة توزع كل ليلة اثنين, تشتمل على ما يفيد الحضور من بحث وخبر وطرفة.
- وتتناول البحوث فيها الحديث عن تاريخ أمتنا وديننا وبيئتنا, وعن دولنا الإِسلامية وماضيها في أفريقيا والأندلس والشام والعراق واليمن وغيرها, وعن الجزيرة وعن قبائل العرب.
- قبل أن أختم كلمتي, هناك أبيات من الشعر لأحد أبناء عمومتي, تصلح لإِلقائها في بعض المناسبات وهذه المناسبة إحداها فأستغلها هنا وألقيها وهي وإن لم تكن شعراً صحيحاً فهي تحمل وداً صريحاً, والقصيدة هي:
مجالس أولينا من قديم
لها في العلم والآداب بهجه
تؤم من الأديب بلا توانٍ
ليشرح شاعر فيهن نهجه
يجيد النقد لكن دون جرح
ببرهانٍ يهوب به وحجه
ولن ينسى عكاظ الشعر يوماً
أديب الشعر شدَّ إليه سرجه
ومربدنا يصول به كبار
وليس بوعيهم خدش وفُرْجَه
سمعنا ابن المقفع فيه أثنى
بحكم فيه تبيان المحجة
على العرب الأماجد صاغ مدحاً
أشاد بهم بفعل أو بلهجه
لقد أحيته بغداد كروضٍ
نشم شذاه في الدنيا وأرجه
بدولتنا له نبع غزير
وفهدُ الخيرِ همَّمه وأجَّه
أبا المقصود خوجه في سبيل
كمثل أبيه للتثقيف وجه
بمجلسك الرحيب أضفت قوماً
نفديهم بأموال ومهجه
من العلماء والأدباء كل
أضاء لنا قنـادلــه وسـرجه
فجدة بيتكم واحات علم
بنادٍ نال في العلياء أوجه
أتينا من ربا نجد إليكم
بطائرة لنا في الليل دلجه
بوفدٍ في الصحافة فيه ذكر
له كلم كشهد النحل مجه
سعدنا فيه بالأدباء ألقوا
به درر المعاني يا بن خوجه
وأصبح معلماً ومنار فضل
رأينا في سماء المجد برجه
وتنحر للضيوف خراف نجدٍ
لها في الشعر تغريد وهزجه
تُكوَّم في الصياني كل حين
لها في سوق جدة ألف رجه
وفدنا نبتغي أدباً وعلماً نطارح
من بها قد بات حجه
ومن يخدش من الآداب ركناً
له من مجمع الآداب شجَّه
أبا المقصود ليس المال كيداً
[لمثرٍ] إنْ رأى في المال وهجه
ولكن الثراء المال حقاً
معالم [تبتنى] أنَّى توجَّه
لناديك الوجيه نؤم رحباً
نراه أجل ميدان وأوجه
أبوك له لدى الآداب ذكر
يغوص على المعاني كل لُجَّه
فكم من باحث يأتيه قصداً
ليعرض فيه فكرته ونضجه
به حسن الفقي كم فَضَّ بكراً
وشعراً من معان غير فَجَّه
لقد بلغ المدى ناديك حتى
سرى بين الورى من دون ضجه
يضيف من الكرام [قدوم] قوم
توالوا موجة من بعد موجة
ونحن هنا وفي بلد عزيز
يفوز [بزمر] لله حَجَّه
بها شهم لبيب أريحي
هو المقصود رب النيل [خوجه]
تصفيق
- وأخيراً إنها لفرصة أن نلتقي بكم, ومناسبة طيبة أن نسعد بإخوانكم وإخواننا في هذا السَمَر الحبيب اللطيف, وشكرا لصحفينا اللطيف حمد عبد الله القاضي, رئيس تحرير المجلة على تقديمه إلى صاحب النادي ونديمه, وشكراً للجميع على لطفهم, ونرجو أن نجتمع مرات ومرات إن شاء الله في كل مناسبة؛ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(( طلب الأستاذ حسين نجار ))
ثم طلب الأستاذ حسين نجار من المحتفى به الأديب الشيخ عثمان الصالح أن يذكر بعض الملح والطرائف التربوية.
- فاستجاب الشيخ عثمان وقال أعتقد إنه إحراج, ولكن القصة التي أدلى بها الأستاذ مصطفى عطار وأحسن صياغتها تعتبر طرفة تربوية. إنها درس عظيم لمن أراد أن يمس هذا الكيان الكبير, الذي أوجده عبد العزيز رحمه الله, وجاء نتيجة وحدته هذا التلاحم والتآلف والتراحم, وأصبح في مقدور كل مواطن أن ينتقل من بلد إلى آخر في أمان واطمئنان, وما علينا إلا أن نشكر الله على نعمه, ثم نشكر أولي الأمر على ما يقدمونه من خدمات سيذكرها لهم التاريخ بالمنِّ والعرفان.
- ومن الطرف التي يستحسن ذكرها, أنه في يوم من الأيام شكى كثير من الأساتذة عبث أحد الأطفال الصغار, وعدم انصياعه لأوامر أساتذته, وعدم اهتمامه بالدراسة, وأردنا أن نلقنه درساً في التربية منذ السنة الأولى من دخوله المدرسة, فطلبت من أحد الأساتذة أن يحضر الطالب ويوقفه ملصقاً ظهره بباب الغرفة, وقلت للأستاذ: أحضر وتداً ودقه في صدر الطالب حتى يخرق الباب من ظهره تخويفاً لذلك الطالب, فما كان منه إلاَّ أن صرخ وأخذ يصرخ ويصرخ ويستغيث, ويعلن أنه لن يعود لما بدر منه, وبالفعل أصبح أديباً إلى درجة لم نتصورها.
- ومن الطرائف التربوية أيضاً, أن طالباً في التوجيهية كان يحب الفكاهة, وكان يضحك الطلبة, وهذا يعتبر في عرف المدرسة أمراً غير مقبول. الشاهد أنه لم ينجح في الثانوية عدة سنوات, ويعتبر رسوبه في التوجيهية صعباً, خصوصاً أنه يهدف إلى أن يتعلم خارج المملكة, فأردت أن أعطيه درساً.
- ففي صباح يوم من الأيام والطلبة واقفون صفوفاً, طلبت إحضار ذلك الطالب, وألقيت عليه من كلمات العتاب والتأنيب الشيء الكثير, لكنني لم أجرح عرضه أو شخصه, وقد لمست آثار ذلك التأنيب بادياً على وجهه. عند انصراف الطلبة من المعهد ذلك اليوم حيث جاء إلى مكتبـي, وقال ما حملك على ما قلت؟ قلت له ألا تدري؟ قال لا والله لا أدري لماذا حملت عليّ هذه الحملة الشعواء, ووجهت إليَّ هذا الكلام القاسي؟ قلت: هل تدري ما بيني وبينك؟ قال: لا. قلت له: إذن ستعلمك الأيام ما خفي عليك فهمه الآن.
- ودارت الأيام, وحصل على الثانوية العامة, ثم درس المرحلة الجامعية بإنجلترا, وعندما كان يدرس هناك, كنت أستمع إلى برنامج إذاعي عنوانه: رسائل الطلبة إلى ذويهم أستمع إليه لأن, أحد أبنائي كان يدرس خارج المملكة, وكنت أترقب أن أسمع رسالة منه عبر ذلك البرنامج, وفجاءة قرع سمعي صوت ذلك الطالب وهو يبعث رسالته وكانت بدايتها:
- أهدي سلامي إلى والدي وأستاذي ووالدي وصاحب الفضل عليَّ الشيخ عثمان الصالح, ثم عرج إلى ذكر أبيه وإخوانه وأخواته. فقلت في نفسي يا سبحان الله هذا الذي وبخناه التوبيخ التربوي؟ أدرك الآن أنني كنت أسعى إلى إصلاحه, وإلى تقويمه, وإلى تنشئته النشأة الطيبة.
- وفي أحد الأيام قام بزيارة المعهد رئيس مجلس النواب التركي ومعه أربعة من الوزراء, وأشار الملك فيصل – الله يغفر له ويدخله واسع جناته – إشارة خفيفة ذات دلالة معروفة عندنا تعني أن تكرموهم, فقاموا بزيارة كل الفصول, وبعد ذلك قال رئيس النواب التركي: أود أن أسألك سؤالاً سريّاً بيني بينك, وكان المترجم بيني وبينه أحد موظفي السفارة التركية, وكان فصيحاً في اللغة العربية بقدر فصاحته في لغته التركية, قال: أرغب أن أرى أحد الأمراء فسألته: وما الذي تقصد بهذا السؤال؟ يجب أن تعلم أن الأمراء وغير الأمراء سواسية. والعلم كالهواء والماء, متاحان للجميع, والحياة للناس كافة, فقال لا زلت مصراً على سؤالي ورغبتي في رؤية الأمراء. فقلت له: رغم أن أمراءنا لهم الأمارة ولهم المكانة ولهم القيمة, لكن في المدرسة فإن الطلاب سواسية كأسنان المشط. قال لا زلت أكرر رغبتي برؤية أحد أبناء الأمراء, وأمام هذا الإِلحاح والإِصرار اخترت عدة فصول من المراحل الثلاث, الابتدائية والمتوسطة والثانوية, واخترت من طلابها بعض الأمراء, وأذكر أن من الذين تم اختيارهم سمو الأمير أحمد بن عبد العزيز.
- وقبل أن نبدأ الجولة على الفصول, تناول بعضهم السجائر وأخذوا يدخنون. فقلت لهم أرجوكم الامتناع عن الدخان, فهذه مدرسة تربوية, والدخان ليس محرماً, ولكن استخدامه محظور في المدرسة, ويحرم تعاطيه في المدرسة من قبل الأساتذة حتى لا تضر رائحته الطلاب, فاستجابوا وقالوا: هذا ما كنا نبغي.
- الشاهد أنهم سروا بذلك وراحو للملك فيصل رحمه الله وقالوا والله إننا رأينا ما أثلج الصدور ثم سافروا ووعدوا قبل سفرهم أن يبعثوا إلينا ببعض الكتب والمراجع عن تركيا, وانتظرنا وصول ما وعدوا به عدة أسابيع, وبعد شهر اتصلت السفارة التركية وأبلغتنا بوجود طرد لنا, فتوقعنا أن يكون الظرف الذي ننتظره بفارغ الصبر كتباً ومراجع تركية, ولكن بعد استلامنا له تبين أنه علب مملوءة بالحلوى التركية, فجمعت أساتذة المعهد وتقاسموها بينهم.
- هذا بعض ما جادت به الذاكرة, وإذا جمعتنا الظروف مرةً أخرى فسوف نسرد المزيد؛ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(( ختام الأمسية ))
ثم اختتم الأستاذ حسين نجار الأمسية بالكلمة التالية:
- لا يسعني إلا أن أشكر فضيلة الشيخ عثمان الصالح على ما أتاحه لنا جميعاً, سائلين الله طول البقاء ومزيداً من التوفيق, وأذكركم أن ضيف الاثنينية القادمة هو الشاعر الشاب عبد الرحمن العشماوي, فإلى أن نلتقي في الاثنينية القادمة أترككم في حفظ الله ورعايته.