الجمال |
ومشيت من سريري أتحامل على عصاي... أصل إلى عيادة الطبيب، ورأيتها تمسح البلاط، كأنها تعطره بشذاها. فالأناقة ليست في إغراء الجمال، وإنما في نداء الفتنة يصنعها الجمال في العاشق!. |
وحسبتني أمد يدي بتلقائية الطبع.. أرفع ثوبي عن البلاط، فارتدت اليد لا تجدني ألبس ثوباً، فقد كنت في بلد لا يلبس الثياب. |
ورأيتها كلها... بالنظرة الخاطفة، حتى إذا انتهيت لم أتصنع الاشفاق، وليس هناك معنى للشماتة. فالاشفاق لذة النذالة والشماتة نذالة اللذة! وابتعدت كأني لم أرها. وبعد يوم أرسلوها تذهب بي... أمشي وراءها في النفق. أصل إلى طبيب، ومشت (دليلة) فإذا بي أراها كلها حتى إذا أمالت جيدها على كتفها الأيسر، كأنها تصك أذنها اليسرى أن تسمع الصمت في النفق... لتسمع بأذنها اليمنى النطق الصامت... تجرني إليه، كأنما هي تمشي باثنين: جسدي ومشاعري، فالإغراء كثيراً ما ينقص به الجمال... أما عرض الفتنة من بعضها فرسالة الجمال إلى الذين يعشقون الجمال. |
حين أمالت جيدها كنت أراها الظبية العنود فإذا بي أراها: بعضها بعضها!. |
تلهمني أكون التابع في المشي، والمستعبد للجمال. كان كل بعضها على نسق ليس فيه إلا تنافر البعض للبعض، فلولا تنافر الجمال في الطبيعة... لما أصبح كل ما في الطبيعة قد طبع على الجمال. |
ماسحة البلاط... تخيلتها تلك العظامية التي تغجرت.. سرقوها طفلة، فغجروها تلعب بالعنز... وتخيلت إني ((أحدب نوتردام))!. |
كانت صاحبة العنز تعيش في طهر العفة لأن العنز اللعوب تعطيها بعض ما يقيتها. أما هذه - ماسحة البلاط - فلم تعط قوتاً إلا أن تمسح البلاط، ولعلها بذلك تفوقت على ((غادة الكاميليا))، فلئن قهروا جسدها بالشغل الشاق، فإنهم لم يصلوا بعد إلى أن يقهروا عفتها، أو أن يذلوا طهرها. أما غادة الكاميليا، فأجاعوها... حتى إذا قهرت العفة وأذلت الطهر ترامى الرجال حول قدميها.. منعوا عنها الرغيف، فإذا هم لا يمتنعون أن تكون السيدة عليهم... يبذلون الجواهر تحت قدميها. |
كل ذلك تخيلته، وكأنما الصمت المطبق بيننا - لا أعرف لغتها ولا تعرف لغتي - قد استحال إلى كلام جديد بابتسامة حلوة عذبة وجهتها إلى وجداني، فإذا بي أراها كلها، وأشبع من رؤيتي لها حين رأى الفؤاد بعضها بعضها، كما قال بشار: (إن الفؤاد يرى ما لا يرى النظر)!!. |
رأيتها كلها بالباصرة العشواء، وذقتها بعضها بعضها بالبصيرة الملهمة العاشقة. |
لقد تركتني أحب الغربة... حتى استحال الوطن إلى علاقة!. |
كم هي - في رقتها - قد أصبحت قاسية، والحي يصبح سيداً بالقسوة منه وعليه، وعبداً إذا ما تراخت حبال القسوة إلى لين، أو ملاينة!. |
إن الحب لا يعرف إلا أن يكون السلطة. يتوزعها سلطانان: الحبيب، والمحبوب، فالحب بلا سلطان فوضى شيوعية. |
لم تكن ظبية من ظباء الحمى، وإنما كانت ريماً غسلها الثلج، عاشت في أحضان (الألب) ولعلي بما يعجزني عن الإباحة أن أبوح بقطعة من ورق ورد كتبها الرافعي: |
ـ (أريدها لا تعرفني ولا أعرفها... لا من شيء إلا لأنها تعرفني وأعرفها.. تتكلم ساكنة، وأرد عليها بسكوتي. صمت ضائع كالعبث، ولكن له في القلبين عمل طويل. |
الفرح بالجمال لذة تقتل نفسها، ولا يمسك على الجمال روح النعمة خالدة في القلب إلا الحزن به: كيوم الغيم... ترى في سمائه قطعاً كأنها الهاربة من الليل، تختبىء الشمس فيها ثم تسطع من بعد سطوعاً يخيل إليك إنها ما توارت في خيمة الغنائم إلا لتنضو غلائلها الشفافة وتتعرى. يريد الجمال المعشوق أن يثبت فينا فيغيب عنا. إذ كان بذله يفنى منه على قدر ما يعطي، فسواء امتنع وعز مناله... كان جماله في نفسه بمعانيه، وجمالاً فينا بالمعاني التي هي فينا، وكان له من اجتماع الحالتين حالة جمال ثالث هي في ألم الرغبة المستمرة، أو ألم الغيظ المجنون، ومتى خلق لنا الجمال من قصر الزمن أو طول الزمن، ومن المتاع بالحسن العذاب بتمنيه... فقد ارتفع عن انسانيتنا وجاءنا من ناحية سره الإلهي)!!. |
وما أجدني بعد الرافعي إلا أن أتغنى بقصيدة الشريف الرضي أنشرها أذكر بها الذين لا يتذكرون ما عندهم من تراث: |
يا ظبية البان ترعى في خمائله |
ليهنك اليوم أن القلب مرعاك |
الماء عندك مبذول لشاربه |
وليس يرويك إلا مدمعي الباكي |
هبت لنا من رياح الغور رائحة |
بعد الرقاد عرفناها برياك |
ثم انثنينا إذا ما هزنا طرب |
على الرجال تعللنا بذكراك |
سهم أصاب وراميه بذي سلم |
من بالعراق، لقد أبعدت مرماك |
وعد لعينيك عندي ما وفيت به |
يا قرب ما كذبت عيني عيناك |
حكت لحاظك ما في الريم من ملح |
يوم اللقاء فكان الفضل للحاكي |
كأن طرفك يوم الجزع يخبرنا |
بما طوى عنك من أسماء قتلاك |
أنت النعيم لقلبي والعذاب له |
فما أمرك في قلبي وأحلاك |
عندي رسائل شوق لست أذكره |
لولا الرقيب لقد بلغتها فاك |
سقى (منى) وليالي (الخيف) ما شربت |
من الغمام وحياها وحياك |
إذ يلتقي كل ذي دين وما طله |
منا ويجتمع المشكو والشاكي |
لما غدا السرب يعطو بين أرحلنا |
ما كان فيه غريم القلب الاك |
هامت بك العين لم تتبع سواك هوى |
من أعلم العين إن القلب يهواك |
حتى دنا السرب ما أحييت من كمد |
قتلى هواك، ولا فاديت أسراك |
يا حبذا نفحة مرت بفيك لنا |
ونطفة غمست فيها ثناياك |
وحبذا وقفة، والركب مغتفل |
على ثرى وخدت فيه مطاياك |
لو كانت اللمة السوداء من عددي |
يوم الغميم، لما أفلت اشراكي |
|
* رأيتها تمشي... كأنما الأرض هي التي تمشي بها... لا تحس بوطأتها... ذلك أن جمالها قد صانه جلالها... كنت بجانبها مرات ثلاث، وهي نازلة على السلم... الدرجات تصعد إلى فوق... كما هي قد أعطتني الصعود وأنا تحت إلى فوق الفوق!!. |
فلئن كانت سرعة الضوء طول الزمن، فقد كان الومض من نورها أسرع بها إلى بها وبي إلى غموض النظرة إلى ما حولنا... لأنها مشغولة بأن تكون الوقار والجلال، وأنا مشغول بأن أكون المستعبد لهذا الوقار والجلال.... فعبودية الحب سيادة وسلطان، أما سلطان الحبيبة فإمبراطور يشعرك بأنه لك وحدك بينما هو يبسط سلطانه على كل الذين نظروا إليه!. |
رأيتها.. كاسية غير مبتذلة، امتلأت عيني منها... لا لأني أبصرتها، وإنما لأن فؤادي كان هو العين التي نظرت إليها!. |
فهل تصدق أن من يمشي على عكاز يتحسس الطريق... لا يمتلك إلا باصرة عشواء.. يشرق النور في عينيه، فيرى بعضها كلها؟!. |
بينما هي - وقد جلست للمرة الثانية وجلست جانبها مصادقة - ما تعمدتها بخطواتي الجارحة، وإنما كان العمد من نداء خفي أرسلته، فاستجاب له المنادي الخفي في جوانحي، وامتلأت نظراتي من جمالها، فإذا بنا كل منا جالس بجانب الآخرة للمرة الثالثة.. كأني لم أجد كرسياً إلا بجانبها لأن كل المقاعد قد امتلأت، واحتفظ كرسي بأن أكون فيه... كأنما الجماد شاركني حبها!. |
لم يكن الحب عن ترصد، أو عن عمد في أي وضع من الأوضاع، وإنما كان ولم يزل رهن المصادفة تصنع التوقيت والمكان والمواجهة. |
وهكذا... امتلأ فؤاد الشيخ بجلال الحب النظيف.... لهذه التهامية التي هبطت من السراة... تنشئتها تهامة بأسلوب الإعارة، فكل ما فيها: جمال السراة، وكل ما لها أن تكون تهامية السكن والبيئة والمعيشة. |
هذه التهامية ذكرتني بالبيتين من اليتيمة (لدوقلة المنبجي): |
أن تتهمي، فتهامة وطني |
أو تنجدي.. يكن الهوى نجد |
ضدان لما استجمعا حسنا |
والضد يظهر حسن الضد |
|
فقد وصفها بهذين الضدين: |
فالوجه مثل الصبح مبيض |
والشعر مثل الليل مسود |
|
ولعل الحجازي التهامي ((عروة بن أذينة)) قد رآها مرة ثانية بعيني حين قال: |
إن التي زعمت فؤادك ملها |
خلقت هواك كما خلقت هوى لها |
بيضاء باكرها النعيم فصاغها |
بلباقة... فأدقها، وأجلها!! |
حتى إذا قال بحسرة الواجد: |
ما كان أكثرها لنا... وأقلها)!! |
|
وبحسرة.. قلت هذه الصورة.. أصور بها حالاً... قلت: |
ـ عفة الشاب قهر السلوك، وتعفف الشيخ سلوك القهر!. |
ذلك أن الشاب يزهد في الاستجابة حين توافيه. أما الشيخ فتزهد به الاستجابة لأنها تجافيه!. |
ولكن هو الزمن هكذا... فانتحاره يأتي بصورة من اندحار الصور الجميلة، وحياة الزمن في لحظة واحدة تعطي صورة المفاجأة لكل الجمال... حتى لترى أنها أجمل من رأيت. تقهرك أن لا تقلب صفحات الماضي لتقارن بينها وبين من سبق.. ذلك أنها قد ألغت كل من سبق!!. |
كل جنايتها.. هي في هذا الجني (الثمرة) المعطر الذي إنساني الأنين على المحترقة. وأعطاني الحنين إلى من سبق، فإن كل من سبق قد تجسد فيها.. حتى المحترقة!! |
|