تعليم وأخلاقيات |
والشيء بالشيء يذكر.. |
دخلت السنة الأولى الابتدائية ألقي الحصة المقررة، كانت في المحفوظات، كما كنا نسميها أيام زمان. |
وسألني أحد التلامذة وعيناه تلمعان بالإشارة إلى زملائه كأنه يقول لهم: لقد كفيتم: أو يقول لي: إنه السؤال الجماعي قررنا أن نسألك عنه. |
وفتح صفحة من كتاب التجويد المقرر، يشير بإصبعه إلى هامشه.. فيه شرح لما فوق في العدد المتن. |
هكذا كان ما أشار إليه: |
آه.. عيني. على البخاري؟ فما معنى هذا يا أستاذ؟ |
وحسبته السؤال المجرد لا شيء قبله، ولا شيء بعده.. وأجبتهم. يعني انتهى نقلاً عن شرح الإمام العيني على الجامع الصحيح للبخاري. |
ورأيت العجب والفرحة على الوجوه. |
أي عجب في ذلك؟. |
قالوا سألنا أستاذ المادة صاحب الحصة فقال: |
آه يا عيني على البخاري. لم يعرف الإجابة مثلك.. وأبنت لهم مكان الأستاذ من اختصاصه. تعلمنا منه القرآن والتجويد وكأحسن ما يكون المعلم.. ولا يعيبه إن لم يعرف الرمز!. |
وقنعوا، وأنا منهم، وخرجت أقف مع أستاذي أقبل يديه.. وقبلوا يده معي كعادة لم نتركها حتى الأمس القريب. |
لم ينقصهم شيء: ولم يزدني شيئاً إلا أني لا زلت أعرف القدر لمن علمني حرفاً. الحكاية صحيحة. أحد التلامذة حينذاك السيد ياسين طه وهو يشهد بها.. والتلميذ السائل كان محمد مدني عاكف ولا أدري أين هو الآن. لعله في المنطقة الشرقية كما كان من زمن. |
* * * |
* يا عظمة.. يا عظمة.. يا فتح.. نحن على الطريق!!. كلمة صرخت بها وحدي حتى تلفت سائق السيارة.. يسأل: ماذا أصاب راكبها حتى يهتف بصوت جهير.. يا عظمة.. يا فتح؟!. |
كان المنظر الهاتف في نفسي، وهو المهتف لها بصوت عال هو منظر العديد من البنات بجلابيب سمراء ((رصاصية)) على وجوه سمر فوق أرض سمراء. هن صغيرات... بنات البدو الذين تحضروا حول أكناف الثغر ((جدة)) رأيتهن أقبلن أسراباً، في شارع الجامعة - وكنت عائداً منها بعد ظهر الأحد الماضي - ما كدت أراهن حتى لفني شيء في وجداني هتف بي لأهتف به، فالفرحة قالت، والأمل تكلم.. يا عظمة.. يا عظمة.. يا فتح. نحن إذن على الطريق. |
قال السائق: ليش؟ ليش؟. |
قلت: ألا ترى بنات عمك؟! ألا تراهن تلميذات؟ إني حين أرى أين هذا التراب، أو بنت هذه الأرض ((حضريات)) بعد التبدي، ويدرسان ويكدحان، يذهبان إلى الطبيب أشعر براحة وفرحة وتفاؤل.. |
أنا من جيل ذاق الحرمان والشظف، جاع إلى المعرفة، وتعب حتى استثار له ذهن.. سميتنا من قبل.. جيل التجربة. وسميتنا بعد جيل الحمد. فعلى أجيال تجد الشبع أن تبني لتشبع وتعمر وتشكر هي حتى تشكر من الذين بعدها. |
فلقد جمعنا فلما وجدنا الخبز حمدنا، ويشبع غيرنا من آكال ترف منعم فعليهم أن يصنعوا لنا الفرحة بهم إشراقاً لأمل هم صانعوه. |
قال طلعت باشا حرب لعبد الله السليمان الحمدان رحمهما الله... تعليقاً على كلام مني.. قلت لهما حين زارا دار الأيتام في المدينة المنورة: شوف يا معالي الوزير.. البدوي اللي تحببه من الجبل وتعلمه تبني به بناء أمتك. |
بناتنا في بيوت الشعر والأكواخ يتعلمن!!. |
يا عظمة.. يا فتح.. فنحن إذا على الطريق!!. |
* * * |
* ونزلت أستقبل زائري من الإخوان.. أجلس في بهاء الدين. وأقبل الصديق عارف برادة وبعد التحية والسلام. والحديث والكلام كعادة المسلمين والقادمين. قال عارف: عظم الله أجرك في عبد العزيز بري. لقد مات قبل أيام!. |
وضاع الحزن في غمرة الغرابة والعجب.. تنقضي أيام يموت فيها أبو أحمد. صديق قديم ولا أسمع عنه خبراً في بريد.. أو صحيفة!. أين أصدقاؤه المنتشرين في الصحف والمجالس والأسواق وترحمت عليه. أرجع إلى نفسي أسألها؟ ماذا يحزنك عليه؟ لقد مضت مدة من السنين لم يتم فيها لقاء!. ولكن هل تمحو الأيام ما رسخته الأيام؟ لا. ولا. فالذاكرون بالإحساس والمشاعر تثور في نفوسهم ذكريات حبب إليها كل شيء فيها. |
عبد العزيز بري من بيت عريق في المدينة المنورة. حتى إذا ما أرخ لها في دائرة معارف ذكر هذا البيت بيت البري بيت علم وقضاء وخير، أذكر أني قرأت في دائرة معارف فريد وجدي، أنهم أسرة مضى عليها في المدينة أكثر من ستمائة عام ولعل السخاوي قد ذكر آحاداً منهم. هو بعيد عني الآن لأرجع إليه. |
العراقة في العلم والأصل جعلت من عبد العزيز بري يحب العلم والعماء، فلقد رأيت له موقفاً كان الحديث منه موجهاً إلي في بيته في الربع!. قال اسمع: إن الشيخ محمود شوبل ذهب الآن وهو في كربة. فاذهب إلى أهله وقل لهم أن عبد العزيز بري يكفل لكم كل شيء تحتاجونه في غياب أبيكم. كلمة قالها أبو أحمد.. عرفتني مقدار الرجولة فيه. قالها شجاعاً لا يخشاها، ولربما لا يبخل بها. |
قالها ولم يكن صديقاً لمحمود شوبل. قالها بعض السامعين لها ممن للشيخ عليهم معروف وهم القادرون. |
يومها عرفت لعبد العزيز بري قدره. يرحمه الله أبا أحمد. فقد كان رجلاً فيه صلابة البدوي. ودماثة الحضري، وكرامة المزيج من اثنين. |
* * * |
* والحديث ذو شجون! |
والشجون هنا في كلمة.. نقطعها في كلمات، لتصل في واحدة، ولنفرق آحاد!. |
** الأخلاقيون غالباً ما يقعون - ومن أنفسهم - لعبة أو لقمة سائغة، أو مضغة في يد وحنك ولسان اللاأخلاقي، ثقة الأخلاق... وضعة الفسق!. |
** الأخلاقيون لا يصنعون صناعة.. أي لا يكونون جماعة، فالواحد لذاته بذاته اعتداد واعتماداً.. ليس لهم الشكل المتآمر أو المقامر والمغامر.. لا يتكتلون. ليسوا ((كالبيض الخسران يتدحرج على بعضه)). |
** الأخلاقي بعيد أن يدمر حبيبك، والنقيض يسعى بعد الحبيب لتدمير الغيبة نهشا لعرض، وانتهاز لغرض.. وابتزازاً لعرض. |
فالأخلاقي ليس حذراً بل هو ((مدب)) ولا هو المعد للدفاع والمقاومة فالحذر والتربص والتلصص والدفاع والمقاومة كلها أسلحة اللاأخلاقي... ذلك لا يدري، وهذا يدري! يدري ما فيه من نقائض، وانتهاز وابتزاز يسلح نفسه بـ ((الاكليشة الصفراء)) والانسداح الناعم. حتى الدمعة اللامعة، تفضح نفسها!. |
** الأخلاقي لا يخضع ((لشلة)) تلقنه. تحقنه بالآراء والأفكار! أما النقيض من المزمرة ((إياها)) يعني ((الشلة))
((إياهم)) فعنده ((غسيل مخ)) مصنوع فكر مسير بالكراهية. تعطي لها جرعات!. |
والكلمة تأخذ بمجامع القلب في التوقيت التي تعده لها التلقائية في ظاهر الأمر... أو التلبانية في مطلب الروح.. |
لا أدري كيف تحدث بالكلمة أستاذنا الشيخ صالح بن عثيمين؟! لم يكن هناك باعث عليها. وليس في نفس أحدنا طلب لها!!. |
ولكنها حينما أثرت بنفوسنا جاءت الإجابة على السؤال المستكن استخفي ولم يخف.. |
قفز الشيخ صالح بن عثيمين يتحدث عن الحسن البصري كأنما هو يرسم لي طريق هداية. |
قال: نقلوا عن الحسن البصري ربيب أم سلمة خريج بيت النبوة... المنشأ في وادي القرى. |
قال: لو لم يعظ الناس إلا معصوم... لما وعظهم إلا نبي... العنب يحمله الحمار وأنت تأكل العنب ولا تأكل الحمار. |
لقد فتح لي طريق هداية بهذه الكلمة لأفتح طريق العظة للسلبيين... يمنعهم العجز يقولون: وأنا مالي!! ولأهمس في أذن الطهريين يترفعون بالتعجيز.. يخدعون أنفسهم بأن الواحد منهم هو المبرأ الموفور. |
كل ما يعنيه الحسن البصري قد جاء في الأثر... الحكمة ضالة المؤمن... أينما وجدها التقطها. |
هي كالعنب على ظهر الحمار.. تأكل العنب ولا تأكل الحمار!!. |
والحمار يحمل أسفاراً. |
هو المعيب يحمل ما لا يفهم، وأنت لا تعاب حينما تقرأ السفر يحمله الحمار. |
|