ثقافة |
* وتختلف المقاييس كأنما هي وجهة نظر.. قد يغتفر ذلك لو كان ذوقاً أما أن يكون قانوناً أو عملاً فإن هذا يحتاج إلى دليل قد لا تصل فيه إلى التعادلية.. وإنما ينبغي ألا تصل فيه إلى إهدار القيم!. |
تسمع هذا يصدر حكمه.. فلان لا يصلح.. تسأله ما الدليل؟. إن تواضع: ((فيه أسباب!!)) وإذا أخذته العزة قال: ((هكذا خلقت أو نحن نرى ذلك)). |
والآخر يسألك: لماذا تختار هذه ((التكويعة))؟!. فلا يقنعه منك أن تقول ((لأستريح)) كل ما يريد املاءه عليك أن تجلس كما يشتهي!!. |
ليس الدفاع عن الرأي أن تكون مندفعاً إلى ذلك دون اقتناع.. إنك إن عملت تصبح بوقاً لا نافخاً. التقييم لكل شيء لا يصدر عن الهوى... إنما يصدر عن العدل والمقارنة... بالموازنة. بالحاجة الداعية... بالضرر الناجم... بالمنفعة. |
لم يصبح التقييم للأشياء فكراً أو مادة بلا فكر... بلا كيان... حينما يصبح اتعاظا تصبح القيم في سوق كسوق الرقيق. |
سألته مرة: ألم تقرأ نهج البلاغة؟ قال: لم أقرأه.. لأن شارحه ((ابن أبي الحديد)) يخيف... أخشى أن يدخل على شيء مما يذهب إليه. |
قلت له: النظرة العاجلة تعطيني أنك أهدرت قيمة المنهج بتقييم أنت تفرضه لتكون الصورة معبرة تقول ((أنت في كفة.. ونهج البلاغة في كفة)) مع أن القيمة لأي كتاب أكبر من قيمة أي قارىء بصرف النظر عما يذهب إليه ليأتي التقييم لهذه الآراء رفضاً أو متقبلاً من قيمة الفكر يرفض الباطل ويقتنع بالحق. |
أي القارئين يحترمهما الكاتب؟ هل يفرح بالقارىء. المناكف الذكي إلى بعيد.. والغبي إلى أبعد الذي ((يفلي)) ما تكتب تفلية. ليتسقط الهفوة، أو هو بعكس ما تريد إلى ما يريده هو من فهم ينحرف عن القصد منك للقصد منه. |
يسقط على الهفوات ولو بطريقة ((تقصيع)) القملات. أم هو الفرح بالقارىء الأمعة الذي يستطيب ما يقرأ لك حباً أو نصرة أو تعصباً. فلا يشعرك بشيء من العناد منه يثيره فيك كرد فعل؟. |
أنا شخصياً أفضل القارىء المناكف. يفلّي الكلمة. ينبش عن ما فيها ليذيع الهفوة. يمسك بالتلفون. يشكو. يسخر. يشتم. أنه بهذا معك. لك على صورة هو فيها ضدك، لأنه أصبح يريد مشاء يمشي على أسلاك التلفون. ينشر ما كتبت. يغري قارئاً آخر ليقرأ. لعله إن جاء معه أصبحا الداعيتين. وإن جاء ضده احتدم عراك بينهما لحسابك. |
هو بالمناكفة والرفض قد هضم ومثلّ ثم يفرِّع عنك الفروع كمشروع بناء جديد ذلك. الإيجاب من قارىء فيه الاعتزاز. والسلب من قارىء فيه الحوافز، تلك رصيد تصرف منه. وهذا رصيد تزيد به الوديعة من حسابك في بنك رأس ماله القارئون لك على الحالين سواء. بس هي واحدة تأخذها على الغبي إلا بعد هي أن يترك الكل الطيب. ويأخذ لفظة يحسبها عليك ويحاسبك بها. |
* * * |
* بين يديّ كتب أربعة!... أيها أقرأ؟ لا محالة من البداية بقراءة كاتب تعرفه، قرأت له من قبل فألفته، أو أنك لقيته فعرفته، فصنع حباً له في وجدانك. |
وبدأت أقرأ لكاتب عرفته وأحببته، حتى إذا استرحت إلى شيء من الفهم لما يريد.. أخذني الشره للمعرفة أن أفتح كتاباً ثانياً لكاتب لم أحرص على قراءة ما كتب ورأيته منثوراً. |
ولكن الرفض لكاتب من أجل مقال واحد، عمل المراهقين فكرياً. ذلك أن حينما بدأت أقرأ لهذا الذي رفضت، وجدتني أرتاح. أستفيد. أترك كتاب صاحبي. وأجلس إلى كتاب مرفوض. |
فأحكامنا العاجلة تقتل المعرفة بباطل الاستعجال. فمقادير الرجال ليست بهذه السهولة توزن تقبل أو ترفض. أن الصداقة عبء ثقيل، إذا ما كلفك الرضا عن كل ما يأتيه صديق. |
وإن مقادير الرجال لها صبر وخبرة وفحص وإدراك فلا تهدر برفض عاجل عن نزوة طافحة طار بها هو ((الغتبرة)) النفسية. فإن الغبار النفسي غتار لا يمضي بك إلى غيرك فأقصره بنفسك... فإنه إن مضى بك إلى أن تسدله على الآخرين كنت في الجائرين لتصبح من الحائرين. |
وألقيت هذا الكتاب، وأخذت الرابع، فإذا هو كله على نسق منسق، من أنثى بأسلوب فحل. كأنها تعرض أنوثتها كعاطفة بفكر ذكر!. |
وقد كنت من السابقين الذين قالوا: لا أدب نسوة. لا أدب رجال. كل الأدب!. إن هذه الكاتبة بأسلوبها الفحل أفرحتني. لأني وجدت الحرف الذكر على ريشته فواحة بعطر. بواحة عن فكر ريشتها وهي ترفرف بالحروف تسريحة. قد طلعت في نفسي وفرة على رأس فارس فوق صهوة الحصان الأشقر!!. |
قال لي: ما هذا الذي أراه كل ما أدخل عنك. وجدتك تقرأ؟. |
وقلت له: إنها صناعتي الآن.. أقرأ لأتعلم، ولأعلم.. ثم القراءة لذيذة، وحلوة ومفيدة.. وألذ منها أنها علاج الفراغ.. تطرد أحلام اليقظة.. لئلا يكون الجنون، فهي صمام الأمان للعقل قبل أن تكون نوراً للعقل.. واستقامة العاطفة.. أنها توضح الطريق كما أنها - والحق يقال - قد تلغي معالم طريق!. |
ـ وقال لي: طيب... أي شهادة تحمل؟. |
ـ وقلت له: قول ابتدائية.. أرفعها شوية إلى كفاءة.. بس لا تزيد، ما كان عندنا مدارس مثل المدارس عندكم، ولا جامعات ولا ابتعاث.. قسمة ونصيب!. |
ـ وقال: بس ابتدائية.. يعني أنا بعد سنة أصير زيك؟. |
ـ قلت: ليس المهم أن تكون بعد سنة مثلي، ولكن الأهم أن تكون بعد سنوات أحسن مني... بكالوريوس.. ماجستير، دكتوراه!. |
ـ وقال: ما كان أحسن لو ما أتعلمت؟. |
ـ قلت له: كان أحسن، ويا ليت.. بس أنت غلطان.. أنا ما زلت غير متعلم.. أنا قارىء فقط لا غير. أحترف الكتابة ((شغلانة))!. |
ـ وقال: لكن القراءة ما تعلم؟. |
ـ قلت: إنها سلاح ذو حدين.. فأحياناً تكون هي المجهلة للذين يقرأون الكتاب من الصفحة الأخيرة!. |
ولقيته مصادفة يسافر في الطيارة التي أصلها كراكب إلى الرياض.. وتحدثنا في أشياء تهمني، وأشياء عامة. تقتل الوقت حتى يؤذن لنا بالركوب. |
وفي اليوم الثاني، وبعد مغربه خرجت من القصر العامر لأركب ((التاكسي)) كان في انتظاري فعزم على أن أركب معه... وذهب سائق التاكسي مسرعاً وراضياً.. وركبت معه في سيارته ((المرسيدس)).. |
ـ فقال لي: أنت تكتب في عكاظ؟ إني أقرأ لكم جميعاً.. |
ـ قلت: شكراً، وهل تجدنا على طريق يرضيك؟. |
ـ قال: إني أشعر بأن ((عكاظ)) تتقدم في نسبة مضطردة، ففيها ما يطيب لي أن أقرأه. |
ـ قلت: وما السبب؟. |
ـ قال: إني أحس وألمس أن الكاتبين والقائمين عليها يقرأون، فهم يريدون المعرفة لديهم. |
ـ قلت: وهل تحترم القراءة إلى هذا الحد؟. |
ـ قال: ألم تسمع ما قالوا: أن كاتباً لا يقرأ يصبح بعد حين قارئاً لا يفهم؟. |
ـ قلت: وأن قارئاً لا يكتب أصبح هو الواقف على قارعة الطريق يسأل أين الاتجاه!. |
وتركته مودعاً، أو هو تركني مودعاً يسير إلى مكان يريح عند أهل وأخوة.. |
ـ وسألت نفسي: أهي حملتنا في الدعوة إلى القراءة قد وجدت رجالاً هم أشد حماسة منا؟. |
لقد وجدت الجواب عند محدثي الصديق الودود الفاهم الأخ عبد العزيز بابطين.. متعه الله بالكتاب يقرأه، ومتع أصدقاءه بالأخاء والوفاء. |
* * * |
* الصديق ((بدر كريم)) قد لا يعرف أحد أنه هو الدافع ((لكلمة ونص)). ولا أكتم سراً ذا ما قلت أن كثيراً من الحلقات الجادة كان يفضل عليها بعض الحلقات الشعبية. |
مسلك إذاعي تطور إلى مسلك شخصي انتهجه ساعة جد. وساعة حكاية.. الكل لا يخلو من مغزى، وليس المعنى في بطن الشاعر، وإنما هو في فهم الشاعرين كلهم أعرف الكثرة الكاثرة شاكرة معجبة!. ولقيته اليوم بعد خروجي من تسجيل الحلقات، فقال ضاحكاً: |
بعض الناس يقولون أن صاحب ((كلمة ونص)) قد أصفى. يعني انتهى.. لأنه يأتي ببعض الحكايات.. يتكلم عن الشارع.. عن الخيام، وقلت له: أليس من حظ الإذاعة أن يكون للكلمة مغزاها وهدفها؟... وهذا في الحكاية أعمق.. ومن ناحية أخرى ماذا يريد عجوز الأفراح المتبطل بقوله ((أصفى)). |
.. أنا لا أدعي الامتلاء فهذا ورم، ولا أملك من الثروة الصالحة لكلمة ونص الكمية التي لا تنفد غير أني في كل لحظة أملك أن أكون المليونير في الكلمة. |
ثراء.. ليس هو في، ولكنه مني.. من الكتاب.. من المكتبة.. لقد جهل هذا الأحمق أن المكتبة العربية غنية ممتعة.. مغنية.. فيها من الروافد ما يجعل المطالع لها يستحوذ على العدة، والاستعداد!.. |
هو لم ينتقدني، ولكنه انتقص المكتبة.. ذلك لأنه - في يقيني - عجوز أفراح لم يفتح كتاباً ليقرأ، ومالي لا أقول لعله أحد الذين ذاق لسعة من سياطي ((أكربجه)) لأنه يستاهل هذه الكربجة. |
هل يرفع رأسه ويقول: نحن هنا؟! |
|