أدب ولغة |
* تفتحت نفسي اليوم على أربع... كل واحدة منها شغلت حيزاً من وجداني.. كأنما هي تحقيق بعض آمالي، وليس هذا خدعة، ولا هو التخادع، وإنما هي النفس المغلقة بالمشأمة والكراهية. |
الأول: سمعت خطاب السيد إسماعيل الأزهري في حفلة التكريم غداء أقامه له مضيفه في السراة وتهامة سمو الأمير مشعل... كان خطاب الأزهري قلباً مفتوحاً، وفكراً غير مغلق.. يجيش العاطفة ويتحرر من القيود.. الشكران من سجايا الكرام، والسودان موطن الأكرمين، والصراحة من مزايا الرجال وإسماعيل الأزهري كان رجلاً حينما حيا الفيصل رائداً لدعوة التضامن الإسلامي، والتحية لدعوة هي أكثر من التأييد! |
الثانية: .. وسمعت قصيدة ((أحمد إبراهيم الغزاوي)) شاعرنا الفحل أثبت وجودنا في نصاعة البيان، وجزالة السبك... طبق المحز على المفصل، ونزع إلى أعراق هي الأصيلة في مكة، وهي النبيلة من مكة!... وفي الحقيقة - وكثيراً ما قلتها له - إني أعد الغزاوي رابع الأحمدين في جزالة اللفظ، وبراعة الصناعة.. هو رابع الأحمدين: أحمد المتنبي، أحمد المعري، أحمد شوقي، أحمد غزاوي.. أعده كذلك فاخراً به.. شاكراً له.. إنها طبيعة القلب المنفتح يُحب الثناء!. |
والثالثة: قفشة الأستاذ قنديل.. نشرتها عكاظ أمس يتندر عليّ، والصواب معي.. ينفي الأستاذية والتلمذة، وهو غرق فيها إلى أذنيه.. فرغم أنفه - بهذه بس! - لا أرغم الله معطسه.. هو أستاذي وأنا تلميذه.. تواضع الكبرياء.. لا اتضاع المتكبرين.. لم تكن هذه القفشة خلف أذني، ولا وراء ظهري.. كانت أمامي، وفي بيتي، وهو... |
* * * |
* الأستاذ الصديق ((عبد الله عبد الرحمن جفري)) أثار موضوعاً قيماً في الزاوية ((مع الفجر)).. يفتش عن اسم الأديب من بلادنا، أو كاتب أو عالم في الموسوعات المطبوعة حديثاً فلم يجد واحداً قد ترجم له منسوباً إلى هذا البلد. |
أنا معه في هذا الأشكال، ولست معه في وجود الألوف من أبناء هذا البلد.. |
الخليل بن أحمد واحد من الأزد... من السراة، وجابر بن حيان مثله... ذكرت اسم هذين لأساير العصر يمجد المخترعين، أو الذين قدموا لهذا الإنسان ما كشف له الطريق نحو العلوم والأئمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم قد ملأنا الدنيا بأسمائهم.. بعلوم، ولكنهم قد ضاعوا منا في هذه الأممية التي صنعوها.. كل واحد منهم لا ينسب إلى بلده الخاص، ولا إلى التربة التي نشأ فيها، وإنما إلى عالمه المسلم، وقومه العرب!. |
لقد صنعنا هذه الأممية، ونحن الفاخرون بها، ولكنها في عصر العنعنات والنعرات سلبتنا الغوالي.. ضريبة دفعناها، ولا نسأل عن الثمن... كل ما هنالك أن أكثر هذه الموسوعات مليئة بأسماء العلماء والأدباء من أبناء هذه الجزيرة العربية... فهل يقوم واحد بالتجريد.. يجرد هذه الموسوعات ولو بالنقل عنها... ينشر فيها أسماء الأبناء لهذا التراب..؟. |
أطمع أن يكون.. ولا تحسبوه دعوة لأقليمية، أو انتصاراً لنعرة، وإنما هو الإكبار لوطن!. |
فشكراً للسيد الكاتب.. أتاح لي هذه الفرصة. |
* * * |
* إن أعشى همدان كان مع خالد بن عتاب بن ورقاء الرياحي بالري ودسبّي، وكان الأعشى شاعر أهل اليمن بالكوفة وفارسهم، فلما قدم خالد من مغزاه خرج جواريه يتلقينه وفيهن أم ولد له كانت رفيعة القدر عنده، فجعل الناس يمرون عليها إلى أن جار بها الأعشى وهو على فرسه يميل يميناً ويساراً من النعاس، فقالت أم ولد خالد بن عتاب لجواريها: إن امرأة خالد لتفاخرني بأبيها وعمها وأخيها وهل يزيدون على أن يكونوا مثل هذا الشيخ المرتعش، وسمعها الأعشى فقال: من هذه؟ فقال له بعض الناس: هذه جارية خالد، فضحك وقال لها: إليك عني يالكعاء، ثم أنشأ يقول: |
وما يدريك ما فرس جرور |
وما يدريك ما حمل السلاح |
وما يدريك ما شيخ كبير |
عداء الدهر عن سنن المراح |
فأقسم لو ركبت الورد يوماً |
وليلته إلى وضح الصباح |
إذا لنظرت منك إلى مكان |
كسحق البرد أو أثر الجراح |
|
قال: فأصبحت الجارية فدخلت إلى خالد فشكت إليه الأعشى، فقالت: والله ما تكرم ولقد اجترأ عليك! فقال لها: وما ذاك؟ فأخبرته أنها مرت برجل في وجه الصبح، ووصفته له وأنه سبَّها، فقال: ذلك أعشى همدان، فأي شيء قال لك؟ فأنشدت الأبيات، فبعث إلى الأعشى، فلما دخل عليه قال له: ما تقول؟ هذه زعمت أنك هجرتها، فقال: أساءت سمعاً إنما قلت: |
مررت بنسوة متعطرات |
كضوء الصبح أو بيض الأداحي |
على شقر البغال قصدن قلبي |
بحسن الدل والحدق الملاح |
فقلت من الظباء فقلن سرب |
بدوا لك من ظباء بني رياح |
|
فقالت: لا والله، ما هكذا قال، وأعادت الأبيات، فقال له خالد: أما أنها لولا قد ولدت مني لوهبتها لك، ولكني أفتدي جنايتها بمثل ثمنها. فدفعه إليه وقال له: أقسمت عليك يا أبا المصبح ألا تعيد في هذا المعنى شيئاً بعد ما فرط منك. |
* * * |
* سألني أحدهم: ما رأيك فيما قاله الأستاذ طاهر زمخشري من أن قصيدة ((موقف وداع)) للأستاذ حمزة شحاته أروع وأبدع من قصيدة ((الأطلال)) لإبراهيم ناجي؟!. |
قلت لأحدهم هذا ردّ على سؤاله: الأطلال لوحة فنية تستغرق إمعان النظر لتسرق متعة النفس بعد أن أعطتها.. أما قصيدة حمزة شحاته فعدة لوحات تعطي لتملأ حتى إذا طاف سارق للوحة منها جاءت الصور الأخرى تملأ فراغاً.. وليس هو الفراغ في مكان الصورة... ولكنه الفراغ في الوجدان.. |
.. الأطلال فن التحفة.. أما هذه - أعني موقف وداع - فتحفة فن.. |
الأطلال صورت واقعاً.. أما هذه فتصوير لوقائع يجد الآملون فيها افراح النفس. ويجد المتشائمون فيها أتراح التعقل. |
الأطلال حياتها في صوت ((أم كلثوم)) أما هذه فصوت حياتها في آلامنا نحن.. من آمالنا نحن. |
هل أنا مع الزمخشري أو ضده؟!. |
حال ينقصه الذي ينغصه.. كما يتعشقه الزمخشري. قالها صاحبه نثراً.. ويرويها الزمخشري شعراً. |
هل يستقيم الغزل في كلمة ناعمة مهفهفة.. يرسلها صديق قد نيف على الستين... إلى صديق سيدخل عامه الستين بعد شهرين؟؟. |
الغزل لا يستقيم بين شيخ وشيخ.. ولكن التعبير كان غزلاً لو أغمض أحدهما عينيه ولم يقرأ. ولم يسمع العبارة.. إنها هدهدة لعواطفه.. دغدغة لأعصابه. |
لم يتقبلها غزلاً في جمال. ولا ثناء على كمال.. وإنما هو ارتاح لها. نام على فراش وثير. قال له: لقد أوحشتنا!!. والله مشتاقون. |
الألفاظ ليست إلا غزلاً. لو كانت من عمر الزهور ولكنها منه. وإليه. لم تكن إلا وثيقة يقرأ فيها شيئاً جديداً. أهو أشوق. والوحشة؟! أم لا هذه ولا تلك لأنها علامة خضراء كجواز مرور في طريق جديد لعلاقة جديدة. يرفعان بها أنقاضاً تراكمت على حب رجولي. وصداقة كان ينبغي أن تفرض لها الغدادة لئلا تضيع في السيادة، ولتبقى الآن عبرة!. |
العلامة الخضراء يشقان بها السلوك في سبيل أن تمايز أحدهما على الآخر بقيمة فينبغي أن يأخذ الآخر قيمة ما أعطى من حب. |
* * * |
* ولله أبوه جبران حينما قال: |
ما أظلم من يعطيك من يدك ليأخذك من قلبك. |
وأصبح الآن عطاء باللسان، ليكون تكافؤاً في الأخذ. وفي العطاء. |
* محاضرة أعلن في الصحف أنها تلقى في نادي الوحدة الرياضي بمكة فاتحة الموسم الثقافي فيه، وبعنوان ((الغزل في الحجاز)). |
وأحسب أن أستاذنا الدكتور فوزي البشبيشي قد أحكم صنعها في وجدانه العامر، وأحسن أداءها بلسانه الهادر من فم أشدق.. كأنه أحد الأشدقين فينا. |
على صهواتنا فصحاء لسن، وقوة جيادها خطباء شدق، لم يكتب لي أن أحضرها سامعاً لأتعلم.. حبسني عنها حابس الفيل لأسباب طرأت، فقهرت، ثم منعت، فحرمت. |
الغزل في الحجاز؟. |
هذا الغزل أن أعطى الحجاز مكاناً علياً في الفن والموسيقى والأدب فإنه يكاد يضيع المكان العلي في المجد لبلد صنع التاريخ للأمة العربية كلها.. فالأمة الإسلامية بأسرها. هم عمدوا إلى تاريخ الغزل ليرضي الراقصون والمترفون.. وأهملوا تاريخ التاريخ المجيد لهذا البلد المليء بالأماثل والأمثولة في الجهاد والفتح والهداية والإمامة. |
تعمدوا ذلك ليموت الطموح في وجدان الوارثين. أترفوهم فأفسدوهم فجاء العرجي بدلاً عن جده عثمان، وجاءنا ابن أبي ربيعة بدلاً عن ابن عمه خالد بن الوليد. |
الغزل هنا؟. |
عمرت به كتب أمهات، من أجلها كتاب أم اسمه الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني. فكلما طالعت صفحات منه. شعرت بالنخوة والعزة والطرب والنشوة لما صنع بلدي من هذا الفن الرفيع. |
* * * |
* كثيراً ما خدعت نفسي حين أنظر إلى كاتب فأرجح أنه لا يغضب من النقد.. ولكني فجعت بأكثر من واحد يكربه النقد حتى يصل إلى نسيان أنه ناقد.. وأنه له جولات في هذا النقد قد حمل بها على كثيرين.. |
ينسى ذلك ليغضب من أبناء المهنة كأنما هو يخرج نفسه منها ليكون سلطاناً في مركزه يسخر بالناقدين فمن حق القلم عليه ألا يكتب ليكون الواجب عليه أن يردع الأقلام لا تنال منه بنقد. أولاً ولا تنوشه بتحليل. |
خسارة أن يفقد الحرف قيمه عند كاتب الحرف؟!. |
والاشتقاق من الجامد.. أحسبه المعين الذي لا ينضب.. يمد اللغة بمفردات كثيرة.. ولا أعرف سبباً يدعو لأن نقول قد أجازه مجمع اللغة.. فلقد كان واقعاً جائزاً من قبل المجامع.. قبل المجمع في مربد البصرة.. وقبل المجمع في مربد الكوفة.. فلقد ورثنا الاشتقاق من الذهب والسيف والفضة والحجر الحديد.. وغيرها. هذا الاشتقاق منها. فذهبت. وحجرت. وخشبت. وكلست. وجصصت وحددت.. والسياف ورثناها من قديم ليس بقرار من مجمع.. وإنما هو ترف اللسان العربي يأتي حضارياً مرتفعاً من الناطق بالضاد من أهل البوادي الأميين فأعجب من بدوي في بيت شعر كأن هو مصدر لقاموس اللغة يدونها عمرو بن العلاء والأصمعي وابن السكيت. |
إن هذا الاشتقاق من الجامد يفتح لنا باباً واسعاً يثري هذه اللغة حينما نضعه أساساً للتعريب.. فهذا الأمير: شكيب أرسلان يشتق من الجامد الأعجمي (تلفون) فيكتب وهو أمير البيان (لقد تلفنت لفلان).. وفي المغرب العربي تونسياً جزائرياً مغربياً قد اشتقوا من الجامد الأعجمي (تلفزيون) فهم يقولون التلفاز فقلدتهم فيما كتبت من قبل فأقول (تلفازنا.. تلفنت له) فبهذين الاشتقاقين عربنا بالاشتقاق الكلمة الأعجمية.. ولقد استظرف بعض الكاتبين هذا الاشتقاق من الأرض حين كتبت الذين استأرضوا فقد اشتققت استأرض من الأرض.. ولست أرى عيباً في ذلك. |
والعربي في باديتنا تستلمح منه كثيراً من هذا الاشتقاق... سألت سائق سيارتي ولما يخلع من لسانه اللهجة البدوية وهو من عتيبة.. فقد وقف بي أمام سيارة فقلت له.. لمن هذه السيارة؟ قال: هي سيارتي.. قبل يومين (تكستها) اشتق هذه اللفظة من التاكسي.. فلقد عربنا مرغمين كلمة تاكسي أنها اليوم أفصح وأرق من كلمة (سيارة أجرة)... فسيارة أجرة ترجمة لا تعريب. |
وسائق دوسري أيام مؤتمر عكاظ كان يمسك شريط أغنية فسألته: ما هذا الشريط؟ قال: (الآن كسته) فاشتقه من الكاسيت لقد عربنا كاسيت بأنه شريط.. فلم يقل هذا البدوي العامي تعريفاً طويلاً: إنه شريط اشتريته وإنما قال كسته.. إن هذا الاشتقاق تعريب لا غبار عليه اختصر التعريف وحدد المعرفة. ولقد قرأت في المجلة العربية المغربية التي تصدر في المغرب (اللسان العربي) قول الأستاذ: عبد الخالق حامد.. تفضيله تعبير العامة على تعبير الخاصة فهو يستحسن هذا الاسم (طيارة). يراه أفصح.. يحدد الواقع. أحسن من لفظة (طائرة).. فالعامة تقول (طيارة) والخاصة يقولون طائرة.. وطيارة فيها التحديد والمطابق لواقعها.. ولقد حاول المتفصحون أن يعربوا اللفظة (بنك) بالمصرف فلم ينتشر تعريبهم وانتشرت كلمة (بنك) فأي عيب أن نأخذها كاملة وفيها حرفان ذلقيان من الحروف الذلقية (فرمن لب) يطوعان عروبتها وهما الباء والنون ثم كلمة بنك أعجمي ساكن الوسط يجعله ذلك غير ممنوع من الصرف ثلاثية ساكنة الوسط. ولعلي في هذا الرأي أرحب برأي العميد الأستاذ طه حسين يرحمه الله.. فقد كان يقول: إن اللغة العربية نملكها ولا تملكنا، ولو عرفنا أن اللغة الفصيحة الآن لم تكن هي اللغة القديمة.. لقد تصفحت بإشراقة اللسان وترف الحنان. والأساس الأول فصاحة القرآن.. ثم فصاحة العرب فيما ورثناه عنهم حين تقارب لهجاتهم يوم قربهم الحج. وقربتهم الأسواق. |
|