شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أيام وليال (45)
والعلاقة بين العربي قبل الإِسلام وبعد الإِسلام، تأصلت مع مجاوريه في عهد الأكاسرة والقياصرة، وفي عهد التجارة تعبر أرضه تجلب من الشرق تباع في الغرب، أو يمر به الراحلون أو هم الرحالة من الغرب وإلى الشرق.
لهذا لم يكن العربي يجهل ما حوله ومن حوله، ولا هو بالذي تجاهله من حوله، وصال وانفصال.. صداقة.. وعداوة.. حرب.. وسلام، كأنما كل ذلك عدّ العربي ليحمل عقيدة التوحيد.. وتوحيد الكلمة. ومن هنا كانت الهجرة إلى الحبشة، يستقبلهم النجاشي ملك الحبشة.. ومن هنا مرة أخرى قوله صلى الله عليه وسلم اتركوا الترك ما تركوكم.. وذروا الحبشة ما وذروكم .. ومن هنا مرة ثالثة قوله صلى الله عليه وسلم لو كان العلم معلقاً بالثريا لتناوله رجال من فارس .
ذكريات الرحلة إلى تركيا
والترك الذين عناهم هم تركستان شمال خراسان وبشرق خراسان، فلم يكن الأناضول أرض ترك، بل كانت أرض الأناضول حيثية في سالف الدهر.. رومانية في ذلك العصر، فالأمر الذي نشأت عليه واتصل بي كل ذلك، أعرفه ولا أنحرف عنه، فلم أذهب إلى الحبشة مع أن الانسياح فيها يشهدني أرضاً جميلة، ولم أذهب إلى فارس مع أن الذهاب إليها يزيد ثقافتي، ولكن رحلت إلى تركيا، أعني إلى الأناضول إلى أسطنبول، وما كنت المبغض لشعب الترك وإن رزأني المتعصبون بجهالة الفهم أو بفهم الجاهلية، أنيَّ أسب الترك، وهل يستطيع مسلم أن يسب محمداً الفاتح الذي أسقط إمبراطورية الروم التي لم تسقط بسيف الأمويين أو بسلطان العباسيين أو بهمة سيف الدولة، لكن هذا الاتهام صبه علي ما ذكرته في محاضرة ألقيتها في ((جماعة المحاضرات)) التي كنت أحد أعضائها، وقد كانت عن التعليم في المدينة المنورة، وذكرت أن فتح ثماني عشرة تحضيرية والمدرسة الإعدادية، ودار المعلمين استغلها الاتحاديون، يوم أسقطوا السلطان عبد الحميد عن عرشه ونصبوا السلطان محمد رشاد على عرشه فالاتحاديون بحماقة القومية الطورانية، أرادوا بهذه المدارس نشر التتريك، لقد كانوا أذكياء فكيف تسلط عليهم الغباء، فإذا العرب أعداء وإذا الترك أعداء، كلهم لم يحتجبوا في ظل الإِسلام وإنما هم اعتصبوا قوميين، ألقيت هذه المحاضرة تناولت الفكرة ولم أسب الشعب، فكتب بعضهم يثير السفير التركي في جدة يشكو إلى وزارة الخارجية يسأل وكيل إمارة المدينة عن الموضوع، فيكلف أميري حينذاك الأمير عبد الله السعد السديري يرحمه الله، يكلف أستاذي السيد أحمد صقر، وقد كان يسمع المحاضرة حين ألقيتها ليسألني بدافع التكليف عن هذه التهمة، ناولته المحاضرة قرأها، كتب تقريراً ينفي التهمة، لا يجاملني ولا يتحامل علي، فلم ينلني عقاب وإنما بعد ذلك نلت الثواب أدعى لزيارة تركيا بعد أن متعت بالسكينة في مكة المكرمة.
وأضحوكة، أقبل علي واحد من أواسط الناس في المدينة يقول لي: ((كيف تسب الأتراك؟ أنت ما تعرف أن جدتي أم أمي تركية)) قلت: لم أعرف هذا المانع العظيم، لكني أعرف حق السلطان على من هو في عنقه بيعه، يا ولد الحلال أنا ما سبيت وما حبيت.
وفي مكة المكرمة.. وفي المسعى أمام بيت في الخاسكية، قابلني صديقنا واسمه شفيق تركي أصبح مكياً يسكن محلة أجياد، التي كانت منازل مخزوم مس ترابها الطفل عمر بن الخطاب يوم ولدته أمه المخزومية كما مس الطفلين خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل والمسيب والد سيدي سعيد بن المسيب، كما كان من أنسالها عمر بن أبي ربيعة، قابلني يسألني: لماذا تسب الأتراك؟ فقد بلغته الإِشاعة، وتمهلت لا أجيب استأنيت قليلاً حين شاهدت، تلميذي وابن أستاذي الصديق علي مدرس، أبوه الشيخ سعيد المدرس، فأبوه كان أستاذي وأستاذ معلمي السيد أحمد صقر كما هو كان الأستاذ الأول لعبد الحميد بدوي باشا العلم في مصر، بل والعلم في عالم القوانين أحد الذين صاغوا ميثاق سان فرانسيسكو.
أقبل المدرس، سلم علينا، قلت يا علي مين أحسن؟ مصطفى كمال وإلا السلطان عبد الحميد؟ فتلسن على مصطفى كمال وترحم على عبد الحميد، فقلت لشفيق: أسمعت؟ فهل ما قاله علي وهو تركي تأخذه سباً للأتراك؟ قال لا، قلت وهكذا أنا، قل لمن أخبرك عني كلمة ((لا)).
ومنذ أصبحت أكتب طاب للسفارة التركية في جدة أن أتلقى دعوتها لزيارة تركيا الحديثة، فإذا الرفيق معي في هذه الرحلة الصديق شكيب الأموي ومعه أم بنيه السيدة المحترمة.
وصلنا إلى أنقرة عاصمة تركيا الجديدة، اتخذها مصطفى كمال حرزاً تصان به الدولة من عدوان بلقاني بلغاري، فهو حين انتصر على اليونان ما كان ذلك إلا الانتصار على تشرشل بالذات وعلى بريطانيا حينذاك، فمصطفى كمال حين انتصر لم ينقذ الإِمبراطورية العثمانية فقد انتهت، وإنما أنقذ شعبه دولة في الأناضول، ولكن انتصاره على بريطانيا جلب الانتصار لبريطانيا نفسها على نفسها، فمد مصطفى كمال يد الصداقة لها فإذا هي تصادقه، لم ينلها عقوق من تركيا يوم اشتعلت الحرب العامة الثانية، أقصى العلاقة بين تركيا وألمانيا وحدد العلاقة مع روسيا وجدد العلاقة بالحياد مع الحلفاء، إن لم يكن هو في يومها، فقد كانت سياسته هي في كل أيامها وقد أراد لتركيا أن تكون وحدها، كتب باللاتينية لئلا تكون الحروف العربية، وترجم الأذان لكن إسلام الشعب التركي مازال باقياً وقوياً، حتى هو نفسه لم يستطع تبديل اسمه، فما زال اسمه مصطفى كمال وإن أضاف إليه لقب أتاتورك، وكل أعوانه بقيت أسماؤهم عربية عصمت.. كاظم.. فتحي..، لم يستطيعوا تبديل أسمائهم لأن قلوب الأطفال فرضت سلطانها على الرجال، فأنقرة يعرفها العربي، أفليس أمرؤ القيس قد زارها وأصابته القروح كأنما هي عدوة مرض الزهري التي تسميه قبائلنا ((الشجر))، فذو القروح أمرؤ القيس، ذهب يستنجد القيصر ليأخذ بثأر أبيه ((آكل المرار)) حجر الملك على أسد، هو من كندة ما استكثرت عليه أسد أن يكون ملكها، ولكنهم قتلوه.
ولعلّ مصاهرته لتغلب يوم كانت وائل ببكرها وشيبانها وتغلبها المستعلية على العدنانية كلها فربيعة الفرس بوائل ومن إليها كانت على غير ما يشتهيه المناذرة وعلى غير ما يفرضه الأكاسرة.
إن معرفة أمرؤ القيس لأنقرة، ومعرفة العرب للأحباش ولمصر ولقبائل الشام وللروم وفارس، برهان على أنهم كانوا يعرفون ما هم عليه وما هم فيه، فالأمية لم يكتبوا الحرف، ولكنها لم تكن أمية الفكر.
وصلت إلى أنقرة واستقبلنا المضيف المترجم حتى إذا أخذتنا سكينة الراحة، كان جدول الزيارة يبدأ بعد أنقرة إلى مدينة ((قونية)) عاصمة السلاجقة عليها سمت القدم وبصمة العراقة، يحترمها الأتراك لأنها إحدى عواصمهم ولأن فيها ومنها جلال الدين رومي صاحب المثنوي كتاب ينسب إليه.. جزء من ثقافة الأتراك وركيزة من ركائز الطرقيين ((البكتاشيين))، تجولنا فيها وكانت الزيارة لشيخ مسلم اسمه أحمد صاحب مكتبة كبرى اقتناها واعتنى بها، ليس لديه رياش ولا أثاث.. رياشه وأثاثه وفخره في هذه المكتبة.. فيها مخطوطات وفيها ماسة لم تتبلور كأنها قطعة من الكلس، فهي لم تزل خامة.. كبيرة الحجم لو بلورها لأفاضت عليه ثمناً كثيراً.. سقف بيته أشبه ما يكون بسقف بيوتنا من اللبن، مسقفة بأعواد العرعر (العثم)، ترجموه في الموسوعة الميسرة (الأثم) أخذوه من لغة الفرنجة ينطقون العين همزة، كما فعل أمين سعيد في كتابه عن الثورة العربية، تجد فيها (أبار بن حصاني) التي تقابل الأبواء، كتبها (أبار بن حسان) كما كتب (الخنق) المضيق بين وعيرة وحرة قريظة حين ينجد المدينين، كتبها (الخانق).
واستقبلنا الشيخ أحمد وتركنا نزور المكتبة قالوا إن بعض الفرنجة دفعوا له ملايين الدولارات ليشتروا المكتبة الحافلة، بالمخطوطات والجوهرة فلم يبعها، وكان جالساً على الأرض، وقد شكا لنا أن عربياً زاره وصور مخطوطة طبعها في بلده العربي فلم يرسل لصاحبها الشيخ أحمد نسخة من المطبوع، حرم الشيخ لذة الإِحسان وحرمنا نحن العرب من ثناء الشيخ وكلفنا سوء ظن الشيخ.
ورجعنا نسير من أنقرة إلى العاصمة الثانية المسلمة، عاصمة العثمانيين الأولى (بورصة)، شاهدنا الحمامات الساخنة، رأينا آثار العراقة، فالمدن القديمة تبهرك عراقتها، أما المدن الجديدة فزهو نفسها بالازدهار في عين زائرها.. وصعدنا إلى الجبل في صندوق كهربائي (التلفريك) ساعتها خفت من أن يقطع السلك أو تنطفئ الكهرباء.. لقد خفت ولكن الله سلم، وفوق الجبل شاهدنا عظمة الخلق منّ بها الخالق على من خلق وما خلق (وإن من شيء إلا يسبح بحمده)..
وانتهت زيارتنا إلى (بورصة) ووصلنا إلى المدينة التي هي مجال فخر كعاصمة من عواصم الإِسلام، كأنما دمشق والفسطاط وبغداد وأصفهان وتونس وفاس وقرطبة، قلت (للآستانة) قسطنطينية أسطنبول.. أهلاً وسهلاً.. ومرحباً، فبك قد سقطت إمبراطورية الروم، وما زال فيك قبر أبي أيوب الأنصاري ذلك الصحابي الجليل الذي لم يأنف يسير إلى الجهاد ولو كان أميره يزيد بن معاوية بن أبي سفيان.
وتجولنا نشاهد مسجد السلطان أحمد وفيه العجيبة لو قلت.. لو نطقت في أي ناحية الكلمة (الله أكبر) لسمعت صداها يملأ أروقة المسجد ومحرابه ومنبره، كأن تاج محل العجيبة في الهند مثل مسجد السلطان أحمد في تلك الظاهرة تسمع الصدى كأقوى من المكبرات الصوتية (الميكروفون)..
وزرنا (آيا صوفيا) كان كنيسة سميت باسم القديسة صوفيا، فأصبح مسجداً رفع الصليب منه ودوى في جنباته صوت الأذان وآيات القرآن.. بناء فخم من أثر حضاري، وكأنما الكاثوليك في أسبانيا أحالوا مساجدنا إلى كنائس يثأرون لآيا صوفيا، فإذا الأندلس تبكي مساجدها كما بكى آخر ملوك (بنو الأحمر) أبو عبد الله يوم قالت له أمه:
أبكي مثل النساء ملكاً مضاعاً
لم تحافظ عليه مثل الرجال
وبعدها زرنا عجيبة الشعب التركي كيف حافظ على الآثار، لقد جاعوا وقاتلوا اليونانيين حفاة، فلم يبيعوا ما ادخروه في دار آثارهم (طوب قوباي) زرنا هذه الدار ذكروا لنا أن هذا المصحف مصحف عثمان بن عفان وأن هذا السيف هو ذو الفقار وأن هذه بردة نسبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أما ذات الثمن الكثير.. الكثير! فهي الجوهرة (الماسة) التي اسمها الكوكب الدري، كانت معلقة في الحجرة النبوية، أمسك بها فخري باشا وأرسلها مصونة تحفظ في (طوب قوباي) إنها ماسة كبيرة، قيمة الجوهر وقيمة المكان الذي كانت فيه، لو أن مصطفى كمال حينما جاع باعها للأمريكان لأنعل جنوده الحفاة وكسى جنوده العراة.
وزرنا القصور ومشينا على جسر البسفور الذي وصفه شوقي يعلن قدمه وخرابه:
أمير المؤمنين رأيت جسراً
أمرُّ على الصراط ولا عليه
وتناولنا العشاء في مطعم وفي ناد ليلي وسمعنا الأذان وقد كان بجانب نادي مسجد صغير، فقال لنا المترجم وهو ضابط طيار.. سمعتم الأذان؟ لقد تناول العشاء يوماً أتاتورك، يعني مصطفى كمال وحين سمع الأذان أصدر أمره بهدم المنارة والمسجد، ولكن المسجد بقي والمنارة بقيت بقاء الشعب التركي على إسلامه، كأن الآستانة ما زالت عاصمة التاريخ المسلم في الأناضول، وذهبنا نقف أمام قبر الصحابي الجليل خالد بن زيد أبي أيوب الأنصاري، لم ندخله وإنما نطقنا بالترضية عنه وكان معنا الأستاذ (صالح أوزقان) عضو الرابطة الإِسلامية يمثل الشعب التركي فقال: أنا هناك.
وانتهت الزيارة يستقبلنا رئيس الوزراء سليمان دمرال ووزير العدل كلاهما قال: لقد حفظنا عهدنا للإِسلام فما رضينا أن نمكن اليهود من فلسطين، وحين رحلنا بحرب الغرب علينا تمكن اليهود من فلسطين، قلت: ليس هم العرب وإنما هو وعد بلفور وإنما هو ما تعرف أكثر مني، لماذا عندكم سفير لإسرائيل، قال: تلك ضرورة ولو رجعتم إلينا ورجعنا إليكم لأمكن ألا يكون، هذه قصورنا مفتوحة وهذه صادراتنا لا تمنع عنكم، واصلونا نصلكم، لقد كنا في ضيق فلم نفرط بشبر من أرضنا والآن قد يتسع الضيق إذا اتسعت قلوبكم لنا ولو بالسياحة عندنا، ومضت سنون وجاءت هذه الأيام فإذا نحن العرب نقترب وإذا هم الترك لا يبتعدون.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :889  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 725 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.