طيبة.. رحلة في الزمان والمكان (44) |
والذكريات ليست إلا جغرفة للأرض، أرض المدينة كما أنها مشاهد تاريخية، ليس منها أن تكون مذكرات شخصية، فلن أقحم نفسي متحدثاً عن شخصي وإنما هو الحديث عن المدينة المنورة في عهد الدولة العثمانية العهد الحميدي والعهد الرشادي ثم عهد الأشراف ثم العهد لهذا الكيان الكبير المملكة العربية السعودية، فالذكريات تاريخ من التاريخ عن الأحوال والاتصال والانفصال والرجال وكيف ابتليت بمن حولها وكيف طاب لبعض أهلها أن يعيشوا الفصام بلا خصام ما أشد قربهم لبعض حين لا تكون المادة جراية أو صدقة وما أقوى فصامه حين تكون المادة أحباباً يتقاربون وبالعنعنات كثيراً ما يتباعدون.. أكتب هذه الذكريات فيها
((
الأنا
))
وإنما كلها الـ
((
نحن
))
.
|
سرقتني بيروت! |
الرحلة إلى لبنان.. |
وصلت إلى بيروت لأرحل من المطار أعود إلى جدة، ولكن رائحة الثرى والأرز والصفصاف والوجوه العربية واللغة العربية في الأرض العربية، دعتني كلها لأن أنزل إلى بيروت أقيم أياماً..، في طوكيو كنت عجلاً أصل إلى جدة، ولكن بيروت سرقتني أن أبقى فيها، كأنما أنا وصلت إلى جدة، لهذا سميت بيروت بهذا الاسم (السروق)، فأي مدينة تسرق الإِنسان يقيم فيها ولا يعجل إلى بلده إلا وهي السروق.. إلا وهي الحبيبة..، ولكن أهلها اليوم سرقوها حين استرقوها، كأنما عاشقها قد عشق هلاكها، فعلى أي شيء يتقاتلون؟!.. لبنان الجنة على الأرض يصبح أهلها مجانين.. ماذا جرى؟ بعض المسلمين يقتلون إخوانهم المسلمين، ألم يكن من العقل أن تضم قوة الفلسطينيين إلى قوة الشيعة إلى قوة السنة إلى قوة الدروز، ليكونوا الأقوياء يفرضون المصالحة مع طائفة أخرى لبنانية مثلهم، وإن كانوا غير مسلمين؟! |
إن السبب هو الحرمان من فهم القرآن، فأحمد الشدياق واليازيجيون والآباء اليسوعيون، ذاقوا البيان.. أشرق في قلوبهم بيان القرآن، فإذا هم العرب للعرب.. وإذا أحمد الشدياق تأخذه بلاغة القرآن وبيان اللغة الشاعرة إلى أن يسلم.. يرفع من قدر العروبة بما ارتفع به من قدر الإِسلام..، أي شيطان نبغ في لبنان؟.. أحال لبانة أخنوخ إلى لبنات شيطانية.. حصرت الفلسطينيين يموتون جوعاً يأكلون الكلاب والقطط والفئران ليباح لهم أكل الموتى من الفلسطينيين. |
إنه ظلم القربى: |
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة |
على المرء من وقع الحسام المهند |
|
إنه ظلم المشاعر.. إنها نزعة شيطان في يده أن يكف القاتلين. |
إن اليهود يحتلون أرضاً من لبنان، فلا يتوحد اللبنانيون، كأنما بعضهم يتصافى مع اليهود ويتجافى مع العرب.. إنها كارثة ليست على لبنان، وإنما هي على الذين يكترثون بها.. بل على الذي يعيش المأساة يحسبها ملهاة. |
وطرفة عن الشدياق أحمد فارس، فقد أراد بعض القساوسة أن يهذبوا ترجمة الإنجيل، لا تبقى بأسلوب اليهود، فدعوا أحمد فارس الشدياق إلى لندن يترجم الإنجيل إلى العربية، فترجم بعض مقاطع من الإنجيل فإذا هي بيانية باللغة الفصحى، وإذا هو الله حافظ الذكر جل جلاله يصرف القساوسة عن ترجمة الشدياق قالوا: إنها ترجمة بأسلوب القرآن أي بيانية.. يقرأها مسيحي فيعشق البيان لا يجده إلا في القرآن. وأرجعوا الشدياق إلى لبنان ولم يترجم الإنجيل باللغة الفصحى، أي بأسلوبها البياني، ورجع شدياق ليكون برهاناً على أن المثل لم يكن إلا صدقاً (أبت اللغة العربية إلا أن تنتصر) فما أكثر بعض النصارى يعدون من أصحاب البيان يكتبون باللغة الشاعرة مشاعرهم، إذا ما قرأ غيرهم من العرب لم يجدوا أنفسهم البعيدين عن بشارة الخوري وعن شبلي الملاط والشاعر القروي ورشيد سليمان وأنطوان الجميل وداود بركات ومن إليهم، فأي شيطان نبغ في لبنان يتجسد في صورة بشر اسمه سعيد عقل.. يكتب بالفصحى.. يتحدث بالفصحى.. ولكنه يقتل بيانه بهذا التباين، بين موهبته كاتباً عربياً وبين عقده طفلاً، نشوئه عدواً لبيانه وإنسانه. |
وانتهت الرحلة، سجلتُ بعض ما كان وليس في الإِمكان أن يكون غير الذي كان، غير أن في الإِمكان أن أكتب بعض ما يعرف من هذا التكوين الطائفي في لبنان.. إن الشام كلها منذ أن كانت دمشق عاصمة الإمبراطورية الأموية، أخذت القومية تستأسد، يثبت لها كيان كلهم قوم واحد، ولعلّي لا أتجاوز الصواب أن عرب الشام من أسلم ومن لم يسلم كانوا عيبة واحدة، فلم تكثر العياب ولم تتبعثر الحقائب، حتى إن الظن وبعضه إثم، يأخذني إلى القول بأن العربي في عهد القومية وإن كان نصرانياً لم تطلق عليه كلمة الذمي، ولم تفرض عليه جزية. |
ومن هنا أضع التقسيم لنصارى العرب على ثلاث صور، في أول الأمر كان أمر الإِسلام ألا تقبل الجزية من عربي، لا تفرض عليه وترفض منه، لأنه إما أن يسلم لتنتظم الوحدة في ظل كلمة التوحيد، ولتكون الأمة واحدة، فاختلاف العقائد تتبعثر بها الأمة، بل إن اختلاف المذاهب في ظل العقيدة بعثرة الأمة، وباسم العقيدة، وإما أن يخضع للسيف أعني أن العربي إما أن يسلم وإما أن يقتل، وأسلم العرب جميعاً في تهامة والسراة ونجد، بينما عرب الشام وعرب آخرون في مصر وما إليها كان لهم شأن آخر، امتد بالخطوة الأولى حين أخذت الجزية من نصارى العرب وهم قلة من (لخم) في الحيرة ومن تغلب ومن إليها في الطرف الشمالي الشرقي في الجزيرة. |
فالصورة الثانية هي في ضرب الجزية على (لخم وتغلب) فإذا هم أصبحوا شاميين حملتهم عقيدتهم إلى أن يكونوا في حرز قبائل الشام غسان.. وكلب وبهراء. |
لتأتي المرحلة الثالثة وهي كأنها الامتياز لهم لا تؤخذ منهم جزية، وشغل العباسيون عن الشام كما أشغلوا جزيرة العرب، لا يتعقبون غير المسلمين وقد انصب عقابهم على الكثرة من المسلمين العرب، لأنهم تشيعوا لغيرهم، ليكون التمذهب هو السيد الذي حكم العرب وحكم به سلطان العباسيين العرب. |
ومن هذا كله قويت شوكة التمذهب في الشام ضد العباسيين كما قويت شوكة المسيحيين في لبنان، ولكن هؤلاء النصارى في لبنان كانوا عرباً.. عرباً ولا جدال في ذلك، أعني أن عروبتهم احتمت بالإِسلام وقليلاً ما تحاملت على المسلمين. وجاء عصر العثمانيين فإذا هم يبتعدون عن العرب كما يبتعد العرب عنهم.. هوناً مّا.. هوناً مّا إذا ضعف الرجل المريض أصدر أوامره لا يجند إلا المسلمين، فلا يجند النصارى ابتعاداً عنهم كما أنه يمارس الإِذلال لهم، فإذا رجال مسلمون في لبنان يتنصرون في طليعتهم بشير الشهابي يفر من التجنيد وليحفظ إمارته وقد تنصر غيره..، تلك سياسة الضعفاء وهروب المستضعفين، وأخذ لبنان بهذا الموقف يتعاطف مع فرنسا ومع غيرها، فإذا نحن اليوم نتجرع الغصص من الذين كانوا قوميين ومن الذين لم يعرفوا حكم الإِسلام في رعاية الذميين، غير أن لبنان مازال في نفوس العرب وفي قلب المسلمين هو الذي نهض فأنهض، فالجرائد الكبرى في غير لبنان كانت لبنانية والمجلات الكبرى في غير لبنان كانت لبنانية، فلبنان الشامي كان العربي ولكن العروبة اليوم لسان بلا قلب.. قلب تمذهب ولسان كاد يذهب. |
|