شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
طيبة.. رحلة في الزمان والمكان (43)
والذكريات ليست إلا جغرفة للأرض، أرض المدينة كما أنها مشاهد تاريخية، ليس منها أن تكون مذكرات شخصية، فلن أقحم نفسي متحدثاً عن شخصي وإنما هو الحديث عن المدينة المنورة في عهد الدولة العثمانية العهد الحميدي والعهد الرشادي ثم عهد الأشراف ثم العهد لهذا الكيان الكبير المملكة العربية السعودية، فالذكريات تاريخ من التاريخ عن الأحوال والاتصال والانفصال والرجال وكيف ابتليت بمن حولها وكيف طاب لبعض أهلها أن يعيشوا الفصام بلا خصام ما أشد قربهم لبعض حين لا تكون المادة جراية أو صدقة وما أقوى فصامه حين تكون المادة أحباباً يتقاربون وبالعنعنات كثيراً ما يتباعدون.. أكتب هذه الذكريات فيها (( الأنا )) وإنما كلها الـ (( نحن )) .
اليابان كسرت قاعدة الذهب..
اليابان
وما أدري ماذا أقول هل ارتحلت من الغرب إلى الشرق، أي من هونولولو إلى طوكيو؟ أم أنا راحل من الشرق إلى الغرب.. ليل هونولولو نهار طوكيو ، وليل طوكيو نهار هونولولو فهل اليابان هي الشرق أم الخط 180 طولاً نهاية الغرب بداية الشرق أو العكس؟ هو الله سبحانه وتعالى ((يكور الليل على النهار)) فليس هناك شرق لا يكون غرباً، وليس هناك غرب لا يكون شرقاً.
ولا أدري، مرة أخرى، كيف أقبل، بل وكيف يقبل ما نعلمه الآن عن هذه المشارق والمغارب، إن أي خط طول هو على أي رقم هو شرق لخط طول بعده، وهو غرب لخط طول قبله، كيف يقبل من متحدث يقول ((وليس هناك نهار على الأرض يخالف النهار الذي أنت فيه)) هل هو قال ذلك عن علم جاهل أو عن مجاملة تحترف العلم ليرضى عنه بعض من يظن أنهم يعتقدون قوله.. نحن على خط عرض (40 مثلاً شرق خط الصفر ((جرينتش)) الذي تعارف عليه الناس الآن، بينما العرب فيما سبق كان خط الصفر لديهم هو ما يحمل رقم ((10)) الآن تقريباً الذي حددوا موقعه على جزائر ((الخالدات)) أي جزر الكناري غرب المغرب الأقصى، كما أن الفرنسيين وفيما سبق جعلوا الخط المار على باريس هو خط الصفر مبدأ الخطوط الطول، إذا كنا على الخط الأربعين وطوكيو على الخط ((140)) فالبعد بيننا وبين طوكيو ((100)) درجة أي ((400)) دقيقة أي ست ساعات وأربعون دقيقة، تشرق الشمس على طوكيو وبعد تلك الساعات تشرق علينا، وإذا كنا مرة أخرى على الخط ((40)) شرق ومدينة نيويورك على الخط 74 غرب فالبعد بيننا وبينها هو 114 درجة أي 456 دقيقة، فحين تشرق الشمس علينا تكون نيويورك غارقة في الليل لا تشرق عليها الشمس إلا بعد سبع ساعات وست وثلاثين دقيقة.
فكيف صح لهذا المتحدث أن يجعل النهار في طوكيو وفي جدة وفي نيويورك نهاراً واحداً؟ ألم يعلم وأحسبه الفقيه أن نصاً في فقه الإِسلام من الصدر الأول حدد هذه الحقيقة، فالنص هو ((إذا مات اثنان متوارثان في وقت واحد فالغربي يرث الشرقي، فلو أن أباً مات وقت الغروب في الجبيل ومات ابنه في ينبع في وقت المغرب أيضاً، فإن الابن في ينبع يرث الأب في الجبيل، ولهذا نسمع الإذاعة أو التلفاز حين يعلن عن مغرب الرياض مثلاً يرشدنا إلى فروق التوقيت فالنص الفقهي يرث الغربي الشرقي إذا ماتا في وقت واحد برهان أضعه أمام هذا المتحدث ليعرف أن القرآن علمنا عن المشارق والمغارب فلو لم تختلف هذه المشارق والمغارب لما كان النص بهذا الجمع.
وتلفنت من هونولولو إلى سفارتنا في طوكيو أطلب موظفاً عرفت اسمه من سفارتنا في واشنطن، ولقد نسيت الاسم وما زلت أحفظ نسبته إلى بيت البتاوي، كأنه من ولد أحد أعيان مشايخ الجاوة بل وأعيان مكة محمد علي بتاوي يرحمه الله، تلفنت إليه أطلب عونه يستقبلني في المطار، وما أسرع وفي تلك الأيام قربى الاتصال، وركبت الطائرة، وكأني سأطوف حول الأرض لأني وصلت إلى هونولولو من جدة الشرق إلى هونولولو الشرق أو الغرب، ورحلت من هونولولو الغرب شرقاً أو الشرق غرباً إلى طوكيو الشرق بالنسبة إلينا واستقبلني البتاوي وأحسن إلي أحسن الله إليه، ولم أكد أستريح في الفندق حتى ذهبت للسفارة وقد كان السفير يومها الأستاذ، الصديق أحمد خليل عبد الجبار، فقد تعودت ألا أصل إلى بلد إلا وأزور السفارة أو القنصلية بدافع الاحترام وبوازع ما تدعو إليه الحاجة، لأن السفارة هي البيت السعودي فإنها الموضوع والشكل إذ تمثل المملكة فإنها المعين والسند لكل عربي سعودي.
إن اليابان أو طوكيو بالذات ليس فيها من يتلكأ في الطريق لا يتسكع إنسان، ليس في إنسانها فضول حتى إني قلت لو أن أحد المارة صدمته سيارة وسقط على الأرض لا يلتفت إليه أحد، لا شأن لهم به ذلك شأن الإِسعاف، كأنه لا وقت لديهم للفضول، أعادوا بناء.
اليابان دولة اقتصادية، فاقتصادها من بناء الصناعة يقف أمام اقتصاد الدول الصناعية الكبرى، حتى الولايات المتحدة وعظمتها الاقتصادية لا تنكر، تفاوض اليابان بشأن نظم الصادرات والواردات الفندق نظيف والرعاية شاملة لم أذهب عن طوكيو ولم أقم إلا ثلاثة أيام حرصت أن ألتقي بالشيخ ((عمر ميتا)) المسلم الياباني والداعية إلى الإِسلام في اليابان، تشرفت بزيارته تحدثت إليه أكبر جهوده، فرح بي لأني من أبناء القبلة من الأرض التي سطع عليها نور الإِسلام، وتعلمت منه هذه المعلومة، قال: ((إن في منشوريا شمال الصين وعاصمتها ((موكدن)) يوجد فيها خمسة وثلاثون مليون مسلم، كلهم على مذهب مالك)) خبر لم أعرفه وشدني إلى أن أبحث مفكراً كيف أصبح هؤلاء المنشوريون على مذهب مالك؟ فلو أن الإِسلام وصلهم عن طريق كاشغر ((تركستان الشرقية)) أو عن طريق بكين وما إليها لكانوا على مذهب أبي حنيفة، غير أني وأحسبني على صواب إن لم أجد من يخطئني أعتقد بالراجح من الظن أن المبشر بالإِسلام الداعية إليه قد وصلهم إما من إندونيسيا أو من المغرب رأساً، فالإِسلام أول ما انتشر في أندونيسيا كان الدعاة مغاربة فإذا المسلمون فيها على مذهب مالك، فالأندونيسيون أول الأمر كانوا مالكيين، غير أن تواتر الكثرة من حضرموت واليمن قد نشروا مذهب الشافعي، ويعني ذلك أن المنشوريين تلقوا مذهب مالك من دعاة أندونيسيين أول الأمر أو مغاربة، وما أدري هل بينهم وبين الرابطة الإِسلامية في مكة اتصال أم هو لم يتم بعد؟
ومن الطرافة أن نذكر انتشار المذهبين مالك وأبي حنيفة، فأقول مذهب مالك أقدم انتشاراً في المغرب والأندلس، ومذهب أبي حنيفة أوسع انتشاراً في المشرق سواء عن طريق بغداد أو عن طريق الترك في التركستان شرقية وغربية أو من الأناضول..
ولا بد من كلمة عن اليابان وليس ذلك عن الإمبراطورية الاقتصادية فحسب وإنما ذلك عن الإمبراطورية العسكرية أو هو عن الماضي والحاضر والمستقبل.
إن اليابان سكرت بخمرة النصر على إمبراطورية القيصر في روسيا فإذا الجنرالات أباطرة على الإمبراطورية، وتعاظمت صناعة اليابان فإذا هي التي تضطر بريطانيا تخرج عن قاعدة الذهب، فصادرات اليابان من الصناعة وخصوصاً النسيج، صدرته بالثمن الرخيص، فإذا النسيج في مانشستر يترنح، يصاب المصدر من الأقمشة بنكسة حتى بعض التجار في شرقنا قد تأثروا بهذه النكسة، فإذا عبد الغني الأدلبي في جدة وصادق الخوجه يصفيان أعمالهما، كأنما هو، وتلك خاطرة لا بد أن أذكرها وأعني التصفية لهؤلاء في جدة، كانت ضربة الحظ لحسين العويني ونجيب صالحة وإبراهيم شاكر، فالعويني جلس مكلفاً من الأدلبي لتصفية البيت التجاري ولسبب ما أصبح هو صاحب حظوة، عميلاً للحكومة، أي المملكة العربية السعودية، ويحظى معه إبراهيم شاكر، ويأتي دور نجيب صالحة فإذا هم أصحاب الثروة الواسعة حتى إن العويني بما منحته المملكة أصبح رئيس الوزراء في لبنان، ليكون نجيب صالحة الدرزي، وزيراً في وزارة العويني. أما إبراهيم شاكر فهو ابن البلد يتلبنن حيناً ويسكن المدينة يتوفاه الله فيها.
اليابان دعت، الملك جورج الخامس يدعو رئيس وزرائه مستر رامزي ماكدونالد رئيس حزب العمال رئيساً للوزارة في المرة الثانية لحزب العمال في أواسط الثلاثينيات الميلادية، جرى الحوار بين الإمبراطور ورئيس وزرائه عن أزمة الصادرات، فعرض رئيس الوزراء الاستقالة لكن الملك جورج قال له: لا بد أن تقود السفينة إلى النجاة، فقال ماكدونالد حين خرج يلتمس الحل ((خير للطالب ألا يكون الأول في فرقته)) وخرجت بريطانيا من الأزمة بالخروج عن قاعدة الذهب ليباع النسيج بقيمة تزاحم سعر اليابان.
فهذا التفوق بالنصر على روسيا والانتصار في الصناعة أصاب الجنرالات أن يغزوا الصين، وما أدركوا أن الصين أرض واسعة وبشر كثيرون لا تنال بالسهولة، لقد أخطأ الجنرالات وجاء الخطأ الأكبر يدخلون الولايات المتحدة ميدان الحرب العامة الثانية، إن بريطانيا وفرنسا، لحقتهم الهزيمة من هتلر كما لحقت الهزيمة بلجيكا وهولندا والشعوب الأسكندنافية، يستصرخون كلهم المستر روزفلت لينصرهم كما نصرهم في الحرب العالمية الأولى، ولكن شعب الولايات المتحدة مازال يفكر مازال يحمل الضغينة على بريطانيا ((لويد جورج)) وعلى فرنسا ((كليمنصو)) فهما بعد النصر سخرا من رئيس الولايات المتحدة ((ويلسون)) أسقطوا المبادئ الأربعة عشر لأنهم حين ملكوا النصر لم يستجيبوا للتخلي عن الاستعمار، ومن تلك السخرية كلمة ((لويد جورج)) حين خرج من قصر فرساي وكان مجتمعاً مع ((كليمنصو)) فرنسا و ((ويلسون)) أمريكا، سأله الصحفيون ماذا هناك؟ قال: لقد تركت في القاعة رجلين أحدهما يريد أن يكون نابليون ((كليمنصو)) والآخر يريد أن يكون المسيح ((ويلسون))، لقد تأخر دخول الولايات المتحدة الحرب، ولكن حماقة الجنرالات في اليابان دعت الشعب الأمريكي أن يدخل الحرب وذلك حين هاجمت طائرات اليابان السفن الأمريكية في الهاواي. ((بيرل هاربور)) اعتدى اليابانيون على أمريكا، يعني أن الحرب وصلت إليهم، فدخلوها بالقوة العارمة، احتلوا الكثير من الشرق الأقصى يهزمون اليابانيين، وطلبوا الانتصار عاجلاً يحرقون هيروشيما ونجازاكي بالقنبلة الذرية فإذا الشعب الياباني يستفيق يسقط الجنرالات يخضع للسلم، ويومها قلنا إن اليابان جلبت النصر لأوروبا حين دخلت أمريكا الحرب.
إن هزيمة اليابان في هذه الحرب كانت سبب النصر في الحرب الاقتصادية اليوم، فمن مزايا اليابان أنها لا تجتر الماضي تقف أمام هيروشيما ونجازاكي لا تتحرك إلى الحاضر والمستقبل، تناست كل الماضي بينها وبين الولايات المتحدة وسالمت لتصنع الحاضر والمستقبل، فإذا هي تتفوق اليوم، الأحقاد لم تمت ولكنهم أناموها، أمريكا مدت يدها للسلم عزلت الجنرال الأبيض قائدها المنتصر ((ماك آرثر)) لأنها لا تريد البطل يطغى، وإنما تريد السلم مع اليابان.
وهكذا تناسى الماضي والعمل للحاضر والمستقبل تفوق في السياسة، فمثلاً كم هي العداوة التقليدية بين ألمانيا وفرنسا؟ فقد ذاقت فرنسا أكثر من هزيمة، ولكن الفرنسيين والألمان وضعوا الماضي يصندقونه حقداً دفيناً وعملوا للمستقبل، بينما قومنا العرب مشكلتهم الكبرى أنهم يعيشون الماضي بأحقاده ولا يعترفون بالواقع، فما زالوا في مواقف الهزيمة من اليهود وأمام الذين مع اليهود.
لو أدرك العرب الحاضر لعملوا للمستقبل وليبق الماضي حقداً دفيناً قد يجود التاريخ بالانتقام له إذا ما تفوق العرب في حاضرهم لمستقبلهم.
ورجعت أركب الطائرة لمدة تسع عشرة ساعة، لأن الطائرة لم تواصل السير، نزلنا في هونج كونج فكلكتا فدلهي فطهران فبيروت.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :864  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 723 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء السابع - الكشاف الصحفي لحفلات التكريم: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج