شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
طيبة.. رحلة في الزمان والمكان (42)
والذكريات ليست إلا جغرفة للأرض، أرض المدينة كما أنها مشاهد تاريخية، ليس منها أن تكون مذكرات شخصية، فلن أقحم نفسي متحدثاً عن شخصي وإنما هو الحديث عن المدينة المنورة في عهد الدولة العثمانية العهد الحميدي والعهد الرشادي ثم عهد الأشراف ثم العهد لهذا الكيان الكبير المملكة العربية السعودية، فالذكريات تاريخ من التاريخ عن الأحوال والاتصال والانفصال والرجال وكيف ابتليت بمن حولها وكيف طاب لبعض أهلها أن يعيشوا الفصام بلا خصام ما أشد قربهم لبعض حين لا تكون المادة جراية أو صدقة وما أقوى فصامه حين تكون المادة أحباباً يتقاربون وبالعنعنات كثيراً ما يتباعدون.. أكتب هذه الذكريات فيها (( الأنا )) وإنما كلها الـ (( نحن )) .
في هونولولو.. أكلت نبت الربان!
وغادرت دالاس وتكساس ولعلّي كنت شديد الرغبة في أن تطول أيامي في ريف دالاس. فالقرية في الولايات المتحدة حلوة، والريف له جلوة، كأنما هم وإن عاشوا في المدينة وإن كبرت المدينة، أشد احتفالاً بالريف لأن ما ينتج في الريف ما هو إلا الذي أعطى الولايات المتحدة القوة والتفوق.
إن القمح والأرز والذرة من قبل ومن بعد وإلى اليوم هو السلاح جالب الفلاح فاليوم أقوى ما تسلحت به الولايات المتحدة هو نمو اقتصادها وكثرة قمحها ووفرة أرزها تتفوق بكل ذلك على الاتحاد السوفياتي فقنابل النواة والصواريخ لم يعد كل منها جالب التطويع للاتحاد السوفياتي فالتطويع له هو التفوق الاقتصادي بل هو التفوق الزراعي، فالاتحاد السوفياتي يشتد إلحاحه لتخفيض الأسلحة المدمرة ليس لأنه غير متفوق به، ولكن لأنها تكلفه الكثير الذي أثقل كاهله وأفقر خزانته كل ما يريده الاتحاد السوفياتي هو الاتفاق على طريق الوفاق، لعلّه يستفيق يتوفر لديه مال وإنتاج فالحالة إذاً تعني أن الحرب الباردة بين الإمبراطوريتين لم تكن بالسلاح المدمر، وإنما بالقمح المعمر، والأرز المعمر.
وهكذا لا ندري ما أصاب أرض الأنهار في إفريقيا وفي الهند بالذات من قصور أسقط الزرع وأقل الضرع. إن أستراليا ليست الأرض الممرعة كأرض الهند والسودان ومصر وكأرض أندونيسيا. ولكن الإِنسان الأسترالي هو الممرع يشقى يتصبب العرق ليكون العرق على صورة أخرى مرقاً عليه الثريد وليس هو ثريد الأرغفة وإنما هو ثريد المال المكتسب من تصدير القمح، يزرعه الأسترالي. رغم تقلب الأجواء، ورغم بعد المسافة.. يقترب بها الإنسان يطوي مسافة البعد إلى القربى من النجاح.
ووصلت ألف رحلتي لفاً.. أشاهد ((سد هوفر)) ونيفادا ولاس فيجاس ((مدينة القمار)) فرأيت كما هو من قبل الشعب يستقبل الزائر كأنه يرحب به ليكون مهاجراً، يستقبلون المهاجرين لأن شعب الولايات المتحدة لم يكن إلا من المهاجرين الذين هجروا ضيم الأرض إلى رخاء الأرض فهم من بناة الهجرة يرحبون بالمهاجر، وليست الولايات المتحدة قبل جزيرة العرب استقبلت المهاجرين يستوطنون ليكونوا من شعب الجزيرة فمصر والسودان كما جزيرة العرب.. عمرها المهاجرون، ولعلّي أذكر الطرفة المليحة في الخبر عن رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عن الولاء والحلف والجوار فقد قاد رسول الله جيش العسرة يصل إلى تبوك ليعلم قيصر الروم في الشام أو ملوك الشام من أولاد جفنة أن محمداً لديه جيش يصل إلى مشارف الشام، لأن أولاد جفنة الغسانيين ومعهم برهاء وكلب، وعليهم سلطان القيصر قد أنعلوا خيولهم. كأنما هم يريدون حرباً على الإِسلام خوفاً على نصرانيتهم ومر وهو في المسيرة المباركة فإذا هو صلى الله عليه وسلم يسأل: ما بال الثط الطوال حلفاء أسلم أو قال غفار: ((وما بال القصار الجعاد حلفاء غفار)) أو قال أسلم فالثط الطوال هم ((الزط)) نطقها أفصح الناس يستبدل الزاي بالثاء، وهم من شرق الجزيرة لعلّهم من البلوجستان أو من السند ومن لف لفهم، أما القصار الجعاد فهم أفارقة من شرق إفريقيا أعني الأحباش ومن لف لفهم، كما أن بعض من كان من هؤلاء الزط يسمى ((بالجلابخة)) حلفاء تميم، فلم يكن كل هؤلاء أرقاء مع أن في وسع العرب استرقاقهم، وإنما كانوا الحلفاء، والعرب حين استرقوا، ((العبدي)) أكرموهم فالرقيق الذي استرق أو استعبد بالشراء أو بالأسر، أطلقوا عليه ((المولى)) لتكون كلمة المولى من الأضداد فالمولى هو السيد والمولى هو العبد، والشاهد في هذه ((مولاك.. يا مولاي صاحب حاجتي)).. ويطلقون على النساء من هؤلاء ((الفتاة)) أو الجارية وإن أطلقوا التعريف بالأمة والشاهد في هذا.. القرآن وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً (النور: 33) فقد كانوا يبيحون أن ينال البغي جارية ممن أرخصها للبغاء، فأدبهم القرآن الكريم ألا يجبروا الفتاة إن لم تكن راغبة فيه، وقد نسخت هذه الآية بتحريم الزنا قاطبة، وإن كان بعض الناس في إقليم من أقاليم الناس لا يرى نسخها، يستكثرون من الفتيات ليكثر عبيدهم، ما أعظم الإِسلام في ذلك كله احترم الولاء ولم يسقط الحلف ((مولى القوم منهم.. حليف القوم منهم)) لكنه كره أن يتزوج الحر رقيقة فهي ملك سيدها كما أن ولدها من الحر هو تابع لها يلحقه الرق ليكون ابن الحر عبداً، أراد أن الحرية ينبغي أن تكون كاملة لا تسترقها الشهوات.. عظيم هذا الإِسلام.
ولعلّي استطردت في ذلك لأثبت أن العرب استقبلوا المهاجرين قبل أن تكتشف أمريكا.. بدافع المقارنة وبوازع التوسع فيما يستطيع الكاتب أن يتوسع فيه بأسلوب المقارنة ليقطع دابر المفارقة.
طويت رحلتي طياً حتى وصلت إلى لوس أنجلوس وأول مصادفة أدهشتني أن أرى المضيفة التي كانت في الطائرة ((بان أمريكان)) كنت فيها من لندن إلى نيويورك كانت جميلة الخلق.. جميلة الخلق، تترفع عمن يستجلبها بالحديث وتتواضع أمامي حيث لا أعرف الحديث فما من طلب أريد وبالإشارة أعبر إلا فهمت وإلا أجابت، ولم يأخذني جمالها وإنما أخذني رفقها وحنانها فقصرت الرحلة لا تكون سبع ساعات وليتها طالت سبعين ساعة.
وفي الطائرة إلى لوس أنجلوس رأيتها وليست المضيفة وإنما هي المرتحلة.. ارتحلت عن وظيفتها لتصل إلى أهلها، ورأتني ومن عجيب أن عرفتني.. غريب أخرس، فأنطقتني بالتحية، رؤية الطائرة أصبحت من رؤى أحلام اليقظة، نسيتها يوم كنت لا أحلم وما زلت أذكرها وأنا الطفل العجوز، حنت علي ((حنو المرضعات على الفطيم)) وأبى من أملي عليه إلا أن يعرف من أين جاءت الكلمة ((حنو المرضعات.. فأنشدت لأعلمه هذه الأبيات من شعر الأندلس:
وقانا لفحة الرمضاء واد
سقاه مضاعف الغيث العميم
نزلنا دوحه فحنا علينا
حنو المرضعات على الفطيم
تروع حصاه حالية العذارى
فتلمس جانب العقد النظيم
وما أعجبتني لوس أنجلوس مدينة كبيرة كأنها هي كل كاليفورنيا وعلم صديقنا د. صالح أمبا وقد كانت بيني وبينه مودة فدعاني للعشاء فإذا إخوة من الطلاب أكثرهم من أكابرنا وفيهم الكبير ((الكبير من أكابرنا، وإذا محمود نصيف يرحمه الله يشارك في صنع الطعام حتى ((البريك)) وجرى الحوار ساخناً أول الأمر فتمهلت ثم أخذت أطرح قالب الثلج على الساخن من الحوار أبشر بالأمل القريب تنمية وعمراناً، فإذا الذين كانوا هناك هم الذين كلفوا بالتكوين هنا، كل ما كانوا ينشدون أصبح بهم نشيد التفوق اليوم، كلفوا فإذا هم يتشرفون بهذا التكليف كأنما حوارهم هناك وفيه شيء من الحيرة أصبح اليوم هو الذي أسقط الحيرة إلى ما نحن فيه الآن ولله الحمد.
وصلت سان فرانسيسكو، وخفتها لأني لا أخاف الزحام وإنما لا أحبه، حتى في الحب لم أتزاحم على حبيب لأني أكره العراك ولا أمارس المصارعة.. سلم لمن سالمني بل وسلم لمن حاربني.
ومن سان فرانسيسكو إلى تلك الأرض المليحة ((هاواي)) ((هونولولو)) تلك المغولية الشرقية التي بقيت لا يمسها جنون التأمرك، وصلت إلى هونولولو وكأنما هي ((هناءة اللؤلؤ)) نهارها سرمدي صبحها كظهرها وضحاها كعصرها، قلت للصديق السيد ياسين طه مرة وقد أزمع الرحيل إلى أمريكا، إذا وصلت هونولولو فانظر إلى الماء تره بلون أبيض يتشكل بلون إنائه لو رسب في كأس أخضر لرأيته أبيض وحين عاد قال: لقد صدقت لون الماء في هونولولو أبيض.
وفي هذه الأرض المغولية والبركانية أكلت من نبت الربان الأستاكوزة فما أكثرها هناك، لأول مرة أذوقها ولأول مرة أحاسب أنفسنا عن هذه الأستاكوزة إنها على ساحلنا الشمالي في البحر الأحمر حول الوجه وضباء حتى العقبة كثيرة، لا يصيدونها ولا يأكلونها حتى قالوا إن يونانياً أرسل باخرته على ساحلنا الشمالي لا يصيد الأستاكوزة وإنما يشتريها تحمل بالأكياس ببضع ريالات وقد أعد في باخرته أحواضاً يخرج الأستاكوزة تعيش في الأحواض حتى إذا اكتفى رحل فباعها لمن يعرفها يشترونها فكسب نصف مليون جنيه يوم كان الجنيه الأسترليني جنيهاً، قيمته تزيد على قيمة الجنيه الذهب بقرشين ونصف، ولكن اليوم أصبحنا يصيد قومنا الأستاكوزة تباع عند شلاح بالريالات الكثر.
واسترحت في الهاواي، وكأنما هي أصبحت هواي، ومنها إلى طوكيو، وسألت نفسي لماذا نسيت في هذا الاستطراد ((كلورادو)) فقبل لوس أنجلوس أي قبل كاليفورنيا وصلت إلى كلورادو وأعجبتني دانفر كما أعجبتني ((بفلو)) وقبل أن أرى ما أعجبني في الهاواي، وأخذني المترجم أصعد إلى الجبل فإذا هي ريح تكاد تطرحني على الأرض لأنحدر إلى هوة تماسكت أنا والمترجم كل منا يثقل الآخر لئلا يسقط، ابتعدنا إلى وسط الجبل فأخذ المترجم آلة التصوير يلتقط لي صوراً، وإذا شاب أمريكي يقول: أنت يأخذ لك صوراً تحلم بأنك ملك، قلت: لست أحلم وإنما لتعلم أني من شعب أبو الملوك.. أبو الإمبراطوريات فلا حاجة إلى الأحلام، إنما أنتم تتحدثون عن جون كنيدي بأنه يريد أن يكون ملكاً تنافسون بريطانيا لديهم ملك وأنتم بلا ملك، نسيت ذلك الأمريكي الذي يكلم الملك جورج الخامس وهو في سيارته يقول للملك أنت مثلي يا مستر كنج فلقد تصور أن الملك على صورة أخرى غير صورة الإِنسان.
ونزلنا إلى المدينة وتناولنا العشاء في مطعم صيني، احتملنا طعام الإندونيسيين بلا ملح ومن السهل معالجة ذلك وعز علي أن أحتمل طعام الصيني وكله سكر، أكلت استحليت أول الأمر حتى إذا انتهيت.. غاشت علي نفسي فأسرعت أقول للمترجم.. هيا إلى السوبر ماركت، فاشتريت زبدية لبن حامض ورأس بصل وراس ثوم ورغيف عيش، وضعتهم في لفافة أحجز ذلك عن الفندق فأنا في حاجة إلى الخروج من سكر الصين إلى اللبن الحامض وزخم البصل والثوم لأطرد الغاشية من ذلك السكر.
وإلى طوكيو بعد في حلقة قادمة أذيلها بخاتمة الرحلات إلى تركيا.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :947  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 722 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج