شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
طيبة.. رحلة في الزمان والمكان (40)
والذكريات ليست إلا جغرفة للأرض، أرض المدينة كما أنها مشاهد تاريخية، ليس منها أن تكون مذكرات شخصية، فلن أقحم نفسي متحدثاً عن شخصي وإنما هو الحديث عن المدينة المنورة في عهد الدولة العثمانية العهد الحميدي والعهد الرشادي ثم عهد الأشراف ثم العهد لهذا الكيان الكبير المملكة العربية السعودية، فالذكريات تاريخ من التاريخ عن الأحوال والاتصال والانفصال والرجال وكيف ابتليت بمن حولها وكيف طاب لبعض أهلها أن يعيشوا الفصام بلا خصام ما أشد قربهم لبعض حين لا تكون المادة جراية أو صدقة وما أقوى فصامه حين تكون المادة أحباباً يتقاربون وبالعنعنات كثيراً ما يتباعدون.. أكتب هذه الذكريات فيها (( الأنا )) وإنما كلها الـ (( نحن )).
رحلتي في بلاد العم سام
كنيدي قال لا.. فاغتاله اليهود..
رحلتي إلى الولايات المتحدة:
ورحلت إلى الولايات المتحدة، ولم أكن غادرت بلدي من قبل إلا إلى مصر والهند، إلى مصر أكثر من مرة والهند قبل الولايات المتحدة ثم رحلة أخرى بعدها، كنت على اتصال بصديقنا عيسى خليل الصباغ الذي كان سفيراً بلا سفارة، يثق به الذين تعاملوا معه كما وثق به حينذاك سفير الولايات المتحدة (باركر هارت)، وهذا السفير فيما عرفته منه وعنه كان من الذين يحبون للولايات المتحدة أن تكون صديقة مصادقة للعرب حتى إنه تعلم العربية بلغة الخطاب، ولعلّه أقصي عن مكانه في وزارة الخارجية بعد من غطرسة اليهود، فقد كانوا حرباً عليه كما كانوا الحرب على عضو الكونجرس السياسي البارع (فول برايت) وعلى كثير غيرهما من الذين لن يتصهينوا فلم يصهينوا. يسكتون عن نصح الإِدارة الأمريكية، لأنهم يلتزمون بالولاء الواحد والإِخلاص لإمبراطوريتهم.
فما زال رجال الولايات المتحدة من أجناس شتى، تأمركوا يخلصون لوطنهم الجديد، ولربما مشرقي تأمرك لم يكن مثل بولندي أو ألماني أو إيرلندي تأمرك فالمال في يد اليهود يصنع الميل لهم، ولكن بعض الأمريكان لم يستأجرهم اليهود.
ورحلت أصل إلى لبنان (لبانة أخنوخ) الجنة وارفة الظلال لا تكاد تطأ أرضها إلا ويفوح عبير الصفصاف والأرز والتفاح، لتلتفت وراءك تذكر الفينيقين الكنعانيين القحطانيين الذين ملكت سفنهم البحر الأبيض والذين بقيادة (هاني بال) (هانئ البال) القرطاجي فينيقياً، عربياً، احتل روما، فإذا النهر يطلقون عليه اسم (طبرية) أي نهر التيبر، وهكذا العربي يحمل الاسم العزيز عليه يسمي به نهراً أو مدينة أو جبلاً أو أرضاً كاملة باسم المسمى الحبيب إليه.
ومكثت في بيروت التي تقادم عليها العهد فظلت فتاة بارزة النهد؟ جنة أصابتها جُنة، بجنون أبنائها الذين اختلفوا طوائف وائتلفت كل طائفة مع من يستقطبها لتدمر لبنان، فلو ائتلف مرة أخرى لما كان جيش ماروني عميلاً لإسرائيل ولما كانت طائفة تطوف حول وثق حسبته قد صنع بيد الطهر، فإذا هو قد صنع بسلاح القهر.
وتلفنت من بيروت إلى سفارة المملكة العربية السعودية في روما المحطة الأولى التي أنزل فيها أركب منها إلى المحطة الثانية في ألمانيا الغربية، وما أشد قلق بيسمرك، أعني تاريخه، وما أشد دموع هندن بورغ، أعني عسكريته، حين يسمعان أن ألمانيا قد انشطرت شطرين، شرقي وتبلشفوا بالقهر، وغربي يتأمرك ليزول القهر، كما ظنوا، تلفنت إلى سفارتنا في روما أسأل عن الابن الصديق السيد ماجد البرزنجي لأستقبله في المطار حين يستقبلني يشتد به أزري أفرح برؤية واحد من وطني ولم أجده، حل في مكانه ابن صديق هو الذي أجاب وهو الذي استجاب واسمه عبد العزيز بن ناصر بن عبد الله العقيل، هو ابن المدينة ولدها فلم تلده عنيزة، حتى أبوه لم تلده عنيزة بل ولدته المدينة، والمدنيون قد يتباعدون داخل مدينتهم ولكن ما أشد ألفتهم ورعايتهم حين يتلاقون خارج المدينة، ولو لم يبتعدوا إلا قيد مرحلة، واستقبلني عبد العزيز بن ناصر العقيل، وتعمد أن يكون نزولي في الفندق (جراند أوتيل) لأن فطنته وذوقه جعلني أنزل هناك لأن الأمير فيصل بن عبد العزيز. وقد وصل من أمريكا كان قد نزل في هذا الفندق، وبعد وقت قصير تشرفت بزيارة الأمير فيصل بن عبد العزيز تغمده الله برحمته، سألني: ماذا لديك؟ ماذا هناك؟ قلت: كل ما هناك وكل من هناك ينتظرون وصولك فالأمل معقود عليك، وكان ذلك الوقت والحرب في اليمن شديدة الوطأة، وقد كانت المملكة العربية السعودية فيها ولها لئلا، تكون بها، وسأل أكثر من سؤال، ولعلّه استحسن الإجابة (وما كل ما يعلم يقال)، شعرت بسكينة آمنة حين وجدتني في كنف الرعاية منه أميراً وملكاً.
ووصلت هامبورج أقصدها عمداً لأرى ولدي فريد زيدان الذي هو الآن دكتور فريد محمد حسين زيدان الأستاذ في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، والمكلف بما يشرف به الرجال، وقد كان في مدينة (لنابورج) يتعلم اللغة الألمانية، فقضى دراسته في الكهرباء في مدينة (كارلسرو) فركبت السيارة من هامبورج إلى لنابورج تمتد يدي إلى سائق السيارة بشيء يمتصه فامتنع يشير بأنه لا يتلهى عن القيادة فالطريق زحام، وكان طول الرحلة أكثر من مئة كيل، حتى إذا ابتعدنا خلا الطريق من البشر، أخرج سيجارة يمتصها، أكبرت ذلك منه وتذكرت أن سائق سيارتي في جدة وهو من بلحارث من أشرافها، وكان زوجاً لابنة خالي علي بن رميضان الرميح، يسكن في ناحية من بيتي في الكندرة، تذكرت أن أطفالي ركبوا معه، ومعه ابنته الطفلة يسوق السيارة ويميل بعد لحظة وأخرى يلتفت إلى ابنته يقبلها كان الفرق كبيراً بين السائق الألماني لا يشرب السيجارة في الزحام كل همه قيادة السيارة، وبين السائق العربي يقبل ابنته وهو يقود السيارة، وما دام الشيء بالشيء يذكر، وكما تقضي به الذكريات، فقد رأيت وأنا نازل من الهدى سيارة نازلة مثلي، بعض أسرته في الخلف وزوجه بجانبه، أمسكت (اللي) تناوله زوجها سائق السيارة المنحدرة من الهدى يمتص الجراك، ألم يصبر حتى ينتهي من مهمته؟! ذلك لم يمتص السيجارة وهذا يمتص الجراك.
وفي الشارع العام في جدة، وأمام بيت سالم بن محفوظ رأيت سائق سيارة شاباً أخرج المشط يسوق السيارة وينظر في المرآة يسرح شعر رأسه وهو يسوق في شارع ما أكثر زحامه.
هكذا الفرق بين من يحترم المسؤولية وبين من يحترف الترف ولا يحترم المسؤولية.. وعدت إلى هامبورج أصل بائعة التذاكر يدلني الطريق يترجم لي شاب لعلّه الدكتور القطان أو أخوه، قلت: أريد السفر إلى برلين لأرى السور شطر برلين إلى شطرين، لأشاهد ما فعلته غطرسة استالين على (ترومن) و (هتلر)، على الولايات المتحدة التي أصبحت إمبراطورية عظمى وعلى بريطانيا التي لم تعد بريطانيا العظمى.
وهكذا هتلر أسقط إمبراطوريتين بريطانيا وفرنسا وأقام إمبراطوريتين إمبراطورية البيت الأبيض وإمبراطورية الكريملين.
قالت الفتاة: سأحجز لك غرفة في فندق يوجد فيه عربي من تونس ليترجم لك، فمن المحزن أن تفرح بهؤلاء يعاملونك لأنك تدفع قسطاً من مرتباتهم كما يحترمونك لأنك ولو نمت ليلة في الفندق تدفع قسطاً ينمو به التوازن بين الوارد والمنصرف، ووصلت برلين وكان عند الفندق الخبر.. المترجم أمامي والغرفة حاضرة، قلّ أن تجد هذا عند غير الفرنجة، وأشرفت على السور ومعي المترجم وكانت تلك الأيام أيام الخوف عام 1962 ميلادية، أيام أزمة الصواريخ في كوبا، فالرئيس جون كنيدي أمسك بعظمة الولايات المتحدة يرفض غطرسة السوفيات، فالصواريخ في كوبا هي غيث الحرب في كوريا.. هي غيث سور برلين، كانت وقفة كنيدي صارخة كصرخة روزفلت يلزم ستالين أن يسحب جيشه من حدود إيران، فالولايات المتحدة أمس واليوم تستطيع أن تفعل ما تريد إذا لم يكن اليهود وراء أن تفعل ما يريدون.. جون كنيدي اغتاله أوزوالد، واغتال أوزوالد روبين يهوديان وكل هذا يعني أن كنيدي كان يقول: لا، لليهود فاغتاله اليهود، قال لي أحدهم: ألا تخاف أن تشتعل الحرب من خلال أزمة الصواريخ، قلت: إذا وقعت الحرب فالهلاك لإنسان الأرض هناك أو في هناك آخر، وقد سبقت بهذه الإِجابة الدكتور طه حسين، سألوه: لماذا لم تسافر هذا العام إلى أوروبا؟، فقال: صرفتني صارفة، قالوا: لعلّك خفت ألا تعود إذا ثارت الحرب، فقال طه حسين: كان ذلك قبل أسلحة الدمار فإنسان الأرض هالك في أوروبا وفي غيرها، لهذا لا يفكر في حواجز العودة، كان بالأمس يفكر أن يعود أما اليوم فلا يفكر في ذلك.
ووصلت إلى لندن لأرى ابني حسين زيدان وكان يدرس هناك، وركبت التاكسي ومعي العنوان، وقبل منتصف الطريق وقفت السيارة فإذا السائق صاحب التاكسي يعتذر بلطف ينادي سيارة أخرى، وقبل أن أركب مددت يدي إليه أحاسبه عن المسافة التي قطعها فرفض، ومكثت في لندن ثلاثة أيام، ورغم أني كنت في الحرب العامة الثانية نصيراً بعواطفي نحو لندن، فإني أصبحت الحسير مما فعلته في العرب.. لندن.
وركبت الطائرة أصل إلى نيويورك التي تبلبلت بالكثير من الناس ولكنها حصرت في أن تكون تل أبيب الجديدة في أمريكا يعتصرها القليل من الناس فلئن اتسعت للكثير.. فإنها قد باعت سعتها لليهود، وفي المطار وجدت المترجم فلديه الخبر عن الرحلة وعن الزائر وكان فلسطينياً اسمه فؤاد (قري)، لم أمكث في نيويورك إلى ليلة واحدة، وارتحلت إلى واشنطن ليذهب بي المترجم إلى مكتب مستر (هدلي) لعلّه كما عرفت من أسرة (لورد هدلي البريطاني الذي أعلن إسلامه، والذي مازال يذكره الأستاذ عمر أبو ريشة) فاستقبلني مستر هدلي لنضع أو هو يضع لي برنامج الزيارة التي وجهت إلي من سفارة الولايات المتحدة في جدة كتوجيه من وزارة الخارجية الأمريكية لها، وتم وضع البرنامج لأزور فيلادلفيا.. بفلو.. شلالات نياجرا.. دودريد وشيكاغو.. الشاطئ الكندي.. دالاس.. الجامعة في القرية من الريف الأمريكي (بانكا).. تكساس.. هيوستن.. سدهوفر.. لاس فيجاس.. كلورادو (دانفر).. لوس انجلوس.. سان فرنسيسكو.. هونولولو.. لأرجع عن طريق اليابان. وبعد تمام البرنامج جرى حوار، قال مستر هدلي: إن سكان إفريقيا انحدروا إليها من الشمال، قلت: أي شمال تعني؟ الشمال العربي أم تعني أوروبا، لقد كان الإنسان في هذه القارة يوم كان لا إنسان في أوروبا، يوم كانت أوروبا مغمورة بالثلج، لم يصل إليها إنسان إلا بعد، وفكر يقتنع إذ قلت له: الإِنسان أول ما كان آسيوياً ثم أفريقياً وأمريكياً قبل الإنسان في أوروبا، فالهنود كالزنوج آسيويون من قبل.
وارتحلت أتطوف حسب البرنامج، فوصلت إلى فيلادلفيا، وقبل ذلك ولئلا يفوتني التسلسل زرت البيت الأبيض وبيت واشنطن لأجد سرير الجنرال (لافيت) الفرنسي يشارك جورج واشنطن في حرب الاستقلال، فقد كانت فرنسا مع الولايات المتحدة حين ذلك فانتزع واشنطن ورفاقه الاستقلال من بريطانيا، فهم البريطانيون على الأكثر تخلصوا من الاستغلال البريطاني كأنما هم أصبحوا جنساً جديداً تأصلت به الأمركة ليكون أي مهاجر من أي جنس أمريكياً إلا اليهود فمازالوا جنساً وحدهم.. تأمركوا بالمعايشة والسكنة ولم يتأمركوا بكامل الانتماء، ولا يقاس عليهم اللبناني فإنه إذا تأمرك يصبح أمريكياً محضاً وإن حمل الجنسيتين.
وفي فيلادلفيا لا بد أن أزور بيت (الجرس).. جرس الاستقلال.. طرقه طرقات يعلن بها الاستقلال (جيفرسون) دخلت ونسيت أن أخلع غطاء الرأس (قلبق) طربوش خرساني، فإذا الحارس يطلب مني أن أخلع القلبق، فالتحية لديهم كشف الرأس والتحية لدينا غطاء الرأس، تذكرت جيفرسون أحد بناة الولايات المتحدة وتذكرت ((توماس بين)) صاحب الجريدة أو المجلة (الحصافة)، توماس بين يهودي ينادي بشعار الحرية يقول: (حيث لا توجد الحرية ينبغي أن يوجد توماس بين ليحارب عنها) فقد كان شعار جيفرسون ورفاقه طلب الحرية، لكن توماس بين قال لجيفرسون: لا حرية بدون استقلال.. حاربوا من أجل الاستقلال، فحاربوا ليستقلوا، وكان الأمريكان حتى عصر روزفلت حرباً على الاستعمار، توماس بين لم يجد قبراً يدفن فيه فأبعدوه، واليوم وبالأمس يتمثل صوت أمريكا بكلمات توماس بين عن الطغيان، أخذوا منه الشعار وطردوه عن الأشبار من الأرض الأمريكية، كان ذلك أمس، أما اليوم فكل شبر من الولايات المتحدة يملكه اليهود بسلطان الامتلاك لا بصك الامتلاك.
فيلادلفيا اسم يوناني سميت به مدينة عمان (البلقاء) فهل يعني هذ الاسم بلاد الفيء أي الظل، فعمان سميت به قبل تسمية المدينة الأمريكية؟
والرحلة طويلة وإلى حلقة أخرى.
استدراك
لقد ذكرت اسم الابن عبد العزيز بن ناصر العقيل وما كنت أدري وأنا أملي اسمه أنه قد توفي يرحمه الله، فقد كان رضي الخلق طيب السريرة فالعزاء لأهله جميعاً وإنا لله وإنا إليه راجعون.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :963  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 720 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي

الكاتب والمحقق والباحث والصحافي المعروف.