طيبة.. رحلة في الزمان والمكان (39) |
والذكريات ليست إلا جغرفة للأرض، أرض المدينة كما أنها مشاهد تاريخية، ليس منها أن تكون مذكرات شخصية، فلن أقحم نفسي متحدثاً عن شخصي وإنما هو الحديث عن المدينة المنورة في عهد الدولة العثمانية العهد الحميدي والعهد الرشادي ثم عهد الأشراف ثم العهد لهذا الكيان الكبير المملكة العربية السعودية، فالذكريات تاريخ من التاريخ عن الأحوال والاتصال والانفصال والرجال وكيف ابتليت بمن حولها وكيف طاب لبعض أهلها أن يعيشوا الفصام بلا خصام ما أشد قربهم لبعض حين لا تكون المادة جراية أو صدقة وما أقوى فصامه حين تكون المادة أحباباً يتقاربون وبالعنعنات كثيراً ما يتباعدون.. أكتب هذه الذكريات فيها
((
الأنا
))
وإنما كلها الـ
((
نحن
))
.
|
المنسيات العشر
|
كشفت سر
((
ذئبة المهل
))
فنلت الشكر.. والإنكار أيضاً!
|
الذكريات
|
ذكريات منسية
|
ذكريات منسية، ليس ذلك من نسيان الذاكرة، وإنما هو من تناسي إنسانها يرتاح إلى نسيانها، ولكن الخاتمة لهذه الذكريات بعد هذه تكملت الأربعين فرضت علي، أن أذاكر الذاكرة كأني طالب دخل الامتحان ليخرج بنتيجة تحفظ عنه ولا تجلب الحفيظة عليه. |
ـ المنسية الأولى: |
وأصبح الحجاز وبقداسة الحرمين الشريفين دار هجرة للكثير من المسلمين والقليل من العرب، فبعض الذين هاجروا من قديم وصلوا إلى الحرمين فاختار بعضهم مكة واختار أكثرون المدينة المنورة، فالقدامى، كبيت البري وبيت براده وبيت هاشم وصلوا إلى المدينة فاتصلوا بالمسجد يعلمون فيه ويتعلمون، جاءوا وفي يدهم عراقة وفي جيوبهم مال، فتأصلوا، مئات الأعوام وأعطتهم الأصالة، فلم يجحفوا لأحد وما طوعتهم الفرامانات وما تعاصوا بالفرامانات. |
ولكن كيف اتسعت الهجرة إلى المدينة وما أسبابها؟ |
ـ المنسية الثانية: |
وكما قلت، فقد كانت الهجرة أولاً للكبار زروق باشا المغربي.. السخاوي ((الزمخشري)) صاحب الكشاف.. مُلا علي قاري الهيتمي.. ابن حجر.. ابن فرحون، هجرة طاعة وسكنى تقرب. |
ـ المنسية الثالثة: |
ولكن الاستعمار للأقاليم المسلمة كان ضيماً حمل الأفغانيين والتركستانيين أن يصلوا إلى مكة وما أكثر الأفغانيين فيها حتى بنوا حارة السلمانية في مكة وحارة السلمانية في الطائف، وقليل منهم كان في المدينة، فهجرة التركستانيين من ضيم روسيا ومن استبداد العملاء وهجرة الأفغانيين من ضيم الحرب التي شنها الإِنجليز عبر الهند أيام حبيب الله الملك. |
أما ترك الأناضول فلم يتكاثروا، وهجرة الأفارقة كانت من ضيم الاستعمار.. إفرنسياً على الشمال الإِفريقي، أعني العرب المسلمين، كما هجرت الأفارقة ماليين سنغاليين نيجريين وما إلى ذلك، ولم تكن من السودان العربي هجرة، بل كان طلب العيش وبعض الضيم امتدت به هجرة إلى السودان قبيلاً عربياً ما أكثره أو سيداً عربياً ما أجله، فالتونسي والجزائري والمراكشي وصلوا إلى المدينة أثرياء، بنوا الدور منهم طلاب علم ومنهم العلماء ومنهم أهل زرع وضرع. |
ـ المنسية الرابعة: |
أما العرب فقليل هاجروا إلى المدينة، ضيق العيش في حضرموت جلب الكثيرين من الحضارم سكنوا مكة وجدة لم يكن في المدينة منهم أحد، إلا السادة العلويون، كثروا في مكة والمدينة، كما تكاثروا في إندونيسيا وماليزيا، فهل الشام قد حماهم من الضيم في عهد السلاطين العثمانيين حكام منهم، فبيت المؤيد العظم وهم في الأصل البانيون (أرنؤوط) كانوا الحاجز للضيم من السلاطين لأن بقاءهم في السلطة جعلهم في حاجة إلى الشعب، كما بشير الشهابي في لبنان كما الجزار في عكا كانوا الحماية والوقاية وإن لم يسلموا من الاستبداد، فقلت الهجرة من الشام، وبعض الذين وصلوا للمدينة كانوا تجاراً اعتزوا وعزوا، من أشهرهم بيت الخوجا والعطية والطربيشي وعبد الحكيم والمفتي. |
ـ المنسية الخامسة: |
أما الهجرة من مصر، فكانت على العكس، فقبل أن يحتلها الإِنجليز كان الضيم والفقر سبب الهجرة من صعيد مصر. |
كما ذكرنا من قبل وحين استعمار الإنجليز مصر أيام الخديوي توفيق وبعد هزيمة الثورة العرابية، لم يهاجر أحد من صعيد مصر، أما من شمال مصر فقد وجدنا في المدينة بيت الجلوني الذين كان لهم بستان الجلونية وخيف السيد والبيت الكبير في باب الشامي، ومحمد بدوي والد عبد الحميد باشا لم يطل بهم زمان فرجعوا. |
فلئن كان الاستعمار ضيماً أكثر الهجرة من الذين أضامهم، فإن الأمر قد انعكس في مصر، سلبية الصعيدي ضد الحكام والعمد، فلم يخضعوا لطغيان الأهل، وأزاح عنهم الطغيان المستعمر، وتلك غريبة، ومن الغرابة بمكان أن ما جرى بعد من حرب على الاستعمار الإنجليزي كان انتصاراً لمصر، بل وكان به النصر لثورة عرابي، فلئن هزم أحمد عرابي، فلقد انتصر الذين كانوا به، فإذا هم بالانتصار كانوا له. |
ـ المنسية السادسة: |
أما اليمن فما وصل إلى مكة إلا علية من اليمنيين وقليل منهم كانوا الحرفيين. |
وهكذا عمر الحجاز بحواضره، غير أن الفصام بين الحاكم والحاضرة، رسخ الخصام بين الحاضرة والبادية فامتن الله على الحجاز، بل وعلى جزيرة العرب كلها بوحدة هذا الكيان الكبير المملكة العربية السعودية. |
ـ المنسية السابعة: |
وسمعنا من الأستاذ مصطفى الصباحي يرحمه الله، هذه الصورة المضحكة ((كاريكاتير)) لم تكن مصورة على الورق كرسم تشكيلي وإنما هي قد صورت بالكلام، قال: كان الفلاح من أسيوط جالساً في ظل شجرة يرتكز على عصاه (الشومة)، فوقف عليه فلاح آخر من جماعته.. (سلاموا عليكم) فقال الجالس (وعليكو سلام.. ومنين جاي) (من المديرية) قال الجالس (وإيه هناك؟) قال الواقف (معلقين) قال الجالس (وليه) قال الواقف (الكبير اللي في مصر جاي) قال الجالس (عاوز إيه) قال الواقف (جاي يطل) قال الجالس (هو بتاعنا وألا اللي ركبوه إلا نقريز) قال الواقف (اللي ركبوه إلا نقريز) فقل الجالس بسخرية (يعني وحشناه قوي) هو يعني بكلمة (بتاعنا) الخديوي عباس أما بتاع الإنجليز الملك فؤاد. |
وهكذا تعطيهم هذه الصورة المرارة من الاستعمار الإنجليزي ومن القصر، ولعلّهم لم يحبوا عباس من قبل ولكن عزله من الإنجليز رفع قدره لديهم. |
وهكذا الشعوب بعضها خضع لضيم المستعمر حيناً، فإذا هو بالخضوع المؤقت يناضل ليقود حرباً على المستعمر، وبعض الشعوب يخضعهم الذين تزعموا، فإذا هم العاجزون عن محاربة هذا الزعيم لأنه يستطيع وهو ابنهم أن يشطرهم أشطاراً، كأنما الشعب بزعامة ابنه، يقتل نفسه عجزاً عن المقاومة بل وحتى العجز عن الصبر. |
إذا عقك الأدنى الذي أنت حزبه |
فوا عجباً إن سالمتك الأباعد |
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة |
على المرء من وقع الحسام المهند |
|
- المنسية الثامنة: |
وقلنا من قبل إن الاستعمار أثار الشعوب عليه، بل وحد الشعوب التي استعمرت تحاربها، (حمل عصاه ورحل)، أما الاستقطاب فقد فرق الشعوب، فباسم الصداقة وضع الزعماء الذين تفرقوا في وضع لا تحمد عقباه، وعجيبة أن المستعمرين كبريطانيا وفرنسا تصوروا أن الشباب من الشعوب المستعمرة لهم سيكونون عوناً لهم على شعوبهم، وقد انعكس الأمر، فالشباب الذي تعلم في بريطانيا وأجاد اللغة الإنجليزية أو الذي تعلّم منهم أصبحوا، وهم الحرب على الاستعمار.. غاندي ونهرو.. محمد محمود ليبولد سنجور، عباس فرحات.. نيكروما.. وأمثال هؤلاء، هم الذين حاربوا الاستعمار فأنالوا شعوبهم الاستقلال، كما أن الاستعمار ترك الأثر الوخيم حين عمد إلى المستضعفين فجعلهم جنوداً، قد كانوا حرباً معه ينصرونه أصبحوا اليوم يحاربون شعبهم بالثورات حيث تعددت الزعامات.. |
والمثل أضربه بطائفة السيخ كانوا الجنود لجيش الإنجليز وهم الآن كما أمثالهم أصبحوا الحرب على شعبهم وأرضهم، هذا المثل أستطيع ذكره، أما الأمثال الأخرى فما زلت فيها أو عنها أو بها الضفدع في فمه ماء ولكن أضواء التاريخ ما زالت واضحة فاضحة. |
ـ المنسية التاسعة: |
والسؤال هنا كيف قرأت وماذا قرأت؟ كنت ولما أبلغ العشرين مشغولاً بدرس المسجد عزوفاً عن القراءة، مشغولاً بالحب طاهراً عفيفاً ولكن جريدة (ألف باء) الشامية وقعت في يدي صفحة منها، اتسخت بالحلاوة الطحينية يحبها أستاذنا أحمد صقر، رمى الصفحة فأخذتها لا ألحس الحلاوة وإنما لحست المكتوب، وقرأت هذين البيتين لشاعر عراقي: |
أنت عندي بمنزل لم |
ينله غير سلمى وابنها إسحاق |
أنا مخرمبق وغير عجول |
وقد طال في الهوى خرمباقي |
|
وأخذتني الكلمة (خرمباق) فوجدتها وكأنها الذي أعد نفسه متحفزاً متطلعاً يريد أن يصل إلى سلمى وابنها إسحاق، من يومها تتلمذت على القراءة التي أنا مدين لها بكل ما أعرف، قرأت الكثير من كتب التراث والكثير من كتب الميراث وكل المجلات والكثير من (الجريدات)، لا أنام إلا قارئاً حتى كان الكتاب هو الصديق: |
أعز مكان في الدنى سرج سابح |
وخير جليس في الزمان كتاب |
|
- المنسية العاشرة: |
وفي مدينة لكنو في الهند وفي مكتب أستاذنا تقي الدين الهلالي وقد كان في ندوة العلماء، وجدت دائرة المعارف مجزأة يصدرها الجامعيون مترجمة عن الإنجليزية، فوقفت عند التعريف (بجزر المالديف) وضعوا ترجمة التعريف وكأنما هم قد استعانوا بشيخ العروبة الأستاذ أحمد زكي، فإذا على الهامش هذا الشرح (جزائر المالديف هي جزر ((ذيبة المهل)) فأصبحت بالإِضافة وبلغة الأعاجم ((مهل ذيبة)) لتصبح (مالديف) حفظت هذا، ورجعت إلى المدينة المنورة فإذا في مجلس الإِدارة قضية وهي أن تقرير هذه الجزر كحجاج مدوّن بالاسم العربي بالفرمان لبيت السيد مكي بافقيه يرثه ابنه السيد عبد الله بافقيه، ورأى أحدهم على الخريطة الجمغرفة هذا الاسم (جزر المالديف) فطلب أن يمنح له حجاجها كدليل لأمر ملكي، وصدر الأمر يعطيه أن يكون الدليل لجزر المالديف، فشكا السيد عبد الله بافقيه وأحيلت الشكوى إلى مجلس الإِدارة فالسيد يقول إنها جزائر ذيبة وليست على الخريطة بهذا الاسم فاستفتى مجلس الإِدارة أستاذنا أحمد صقر مدير المدرسة وأستاذ الجغرافيا، ولم يتسع له البحث لعلّه موجود في كتب الرحلات كما هو موجود في دائرة المعارف ودائرة المعارف موجودة في مكتبة المدرسة، فأجابهم رحمه الله: ليس على الخريطة هذا الاسم (ذيبة)، فلم يكن لكن السيد إبراهيم عطاس تحدث إلي عن ذلك، فكتبت له شرح شيخ العروبة على هامش دائرة المعارف بأن جزر المالديف هي جزر ذئبة المهل، ووثقت الإِجابة بالمصدر والصفحة فصدر قرار مجلس الإِدارة بعودة الحق لصاحبه، ولم أنل مكافأة إلا شكر السيد عبد الله بافقيه وإلا نكر السيد إبراهيم عطاس الذي أثار علي ثائرة كما أسلفت في هذه الذكريات، وبقيت المنسية الهامة رحلتي إلى الولايات المتحدة فهي الحلقة الأربعون الخاتمة. |
ولربما يسألني من يكتب المقدمة؟ فأقول المقدمة كتبها الذي أحاط بي من كل جانب وأحاطني بكل الجوانب كاتب المقال في مجلة قافلة الزيت وأردفها بتقريظ من الأستاذ عايض الردادي فلا حاجة إلى مقدمة غير هذين. |
ملحوظة:
|
وفي سالف الذكريات جاء اسم الشيخ مأمون بري فأرسل إلى حفيده أنور عبد الغني بري صورة للشيخ مأمون أنشرها تقديراً لجده وشكراً له. |
|