شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
طيبة.. رحلة في الزمان والمكان (36)
والذكريات ليست إلا جغرفة للأرض، أرض المدينة كما أنها مشاهد تاريخية، ليس منها أن تكون مذكرات شخصية، فلن أقحم نفسي متحدثاً عن شخصي وإنما هو الحديث عن المدينة المنورة في عهد الدولة العثمانية العهد الحميدي والعهد الرشادي ثم عهد الأشراف ثم العهد لهذا الكيان الكبير المملكة العربية السعودية، فالذكريات تاريخ من التاريخ عن الأحوال والاتصال والانفصال والرجال وكيف ابتليت بمن حولها وكيف طاب لبعض أهلها أن يعيشوا الفصام بلا خصام ما أشد قربهم لبعض حين لا تكون المادة جراية أو صدقة وما أقوى فصامه حين تكون المادة أحباباً يتقاربون وبالعنعنات كثيراً ما يتباعدون.. أكتب هذه الذكريات فيها (( الأنا )) وإنما كلها الـ (( نحن )) .
الملك عبد العزيز.. الحج والأمن
بعد اجتماع رضوى.. تدفق الحجاج من مصر
دعاة القومية العربية من أولهم إلى آخرهم كانوا لعبد العزيز وبه ومنه..
وقاربت الذكريات على النهاية، وما أحسبني أن كتبت عن (الأنا) لأني حريص على أن أكتب ما شاهدت.. ما علمت، ولئن جاء بعض (الأنا)، فليس ذلك من التحدث عن النفس وإن تنفس بعضهم عاتباً أو غاضباً، سيّان، فالأنا صرخت وأنا أملي لأشكر هؤلاء الذين شغلوا أنفسهم بواحد.. أسأل الله أن يغفر لنا ذنوبنا.
والمقدمة هذه أتنفس بها ولا أنافس، ولأدخل في شرح العنوان، وما كنت أستعجل تاريخ البطل لأكتبه، ولكن شاباً من المثقفين قال لي يوم أن أملي هذه الذكريات في ظهر يوم الخميس الرابع والعشرين من هذا الشهر، وقد جاء ذكر المهرجان في المنطقة الشرقية حتى إذا امتد الحديث قال أعجبني الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل حين كتب مقالاته عن الملك عبد العزيز، فقلت له بسرعة البديهة وبالإسراع إلى العودة إلى ما أعرف، قلت محمد حسنين هيكل صوت سيده جمال عبد الناصر، كما أن جمال عبد الناصر وقد أعلن القومية وأعلن عروبة مصر لم يكن إلا صوت عزيز علي المصري وعبد الرحمن عزام وحمد الباسل وأحمد زكي شيخ العروبة، الذين تواكبت أصواتهم مع الكثرة من أهل الشام، كلهم قوميون بل كلهم الصدى لساطع الحصري، إلا عزيز علي المصري فقد كان صوت نفسه، فالملك عبد العزيز وأباؤه آل سعود، كلهم كانوا في نظر القوميين نهضة قومية عربية، حتى إن ساطع الحصري كتب عن اجتماع حاكم عكا الجزار وأمير لبنان بشير الشهابي،وحاكم دمشق (اليوسف) قال: إن هؤلاء الثلاثة اجتمعوا في عكا يأتمرون ويتآمرون للقيام بحركة قومية ينتزعون استقلال الشام كلها فلسطينها ولبنانها وسوريها من الدولة العثمانية، وبينما هم مجتمعون سمعوا أن موجة عربية وقبائل عربية قد اتسع وصولهم إلى الشام، فقالوا هذه نجد وصلت قبائلها تحمل حركة آل سعود ودعوة شيخ الإِسلام محمد بن عبد الوهاب، فانفض اجتماع الجزار واليوسف والشهابي ليدافع كل واحد عن إقليمه وكان تعليق ساطع الحصري أن آل سعود قد أنقذوا الدولة العثمانية من ثورة الشام ثم هو يقول إن حركة آل سعود ما هي إلا حركة قومية، هكذا القوميون نظروا إلى آل سعود هذه النظرة، ولعلّي لم أعثر على موقف الدولة العثمانية مع اليمن، كتبه ساطع الحصري مع أنه حلبي نشأ طفلاً في صنعاء وتنشأ تركياً في الأناضول، كأنما حلب وصنعاء جعلتاه قومياً، مع أن لليمن حقاً عليه، غير أنه إن لم يتنكر لموقف اليمن من الدولة العثمانية فلربما أن حركة اليمن وحرب الدولة العثمانية عليه، لا يراه ساطع الحصري قومية، لأن الزيدية مذهب حجزه عن ذكره اليمن قوميين، ولم ينظر إلى الدعوة السلفية نهض بنصرها آل سعود، لأن تأثر ساطع الحصري بقبائل العرب في نجد والصحراء ومعرفته لما نصروا وبما انتصروا، عاد إلى كامن المعرفة فأظهره، لأن ظاهر معرفته باليمن لم يتخذ له كميناً في وجدانه، كما أن وتلك عجيبة أن فيصل بن الحسين ملك العراق، كما أخبرنا جميل مردم لم ير زعيماً في العرب يقود نهضة العرب إلا عبد العزيز بن عبد الرحمن فالحصيلة أن دعاة القومية العربية من أولهم إلى آخرهم كانوا لعبد العزيز وبه ومنه.
أما الإِسلاميون على اختلاف مذاهبهم ورغم سلطان الاستعمار عليهم كانوا المؤيدين لعبد العزيز، فأهل الحديث في الهند إسلاميون سلفيون انتصروا بعبد العزيز فناصروه، والمذاهب الأخرى فرحت بعبد العزيز ورحبت به رغم اختلاف المذهب، لأنه جمع الشمل وأمّن الحجيج رفع الإِتاوة وأزاح الخفارة حتى إن المؤتمر الإِسلامي المنعقد في مكة وقد مثلت فيه الكثرة من المسلمين.. مسلمو الأناضول.. مسلمو التركستان بزعامة موسى جار الله.. مسلمو الهند أهل الحديث.. جمعية الخلافة.. وغيرهم قد بايع ممثلوهم الملك عبد العزيز سلطان نجد ملكاً على الحجاز.
فإذا بيعة المؤتمر الإِسلامي، وصداقة القوميين العرب في كل الأقطار العربية، قد أعطت للملك عبد العزيز إلغاء كل ما كان قبل المؤتمر لأن بيعة الإجماع المسلم في المؤتمر وفي طليعتهم الذين مثلوا الحجاز، قد محت كل ما كان قبل المؤتمر، فأصبح اللقب ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها، وكان اليوم الأغر يوم 17 الجدي سنة 1344هـ.
ولم يكن ذلك عن علاقة شخصية بعبد العزيز فعلاقة الإِسلاميين صون الحرمين والحجيج والأمن وعلاقة القوميين أن وجدوا البطل فتحركوا به القومية العربية بزعامة من كان لها.
وتنفس الشاب يقول: لكن الكاتب البعيد أو المتمرد يحمد الله أن يقترب وألا يطغى على الحقيقة بالتمرد، وأبى إلا أن يثيرني، يسألني عن كاتب المقال السياسي فقلت له نحن من جيل عرفنا كتاباً أربعة هم أبرع من كتب المقال السياسي الطويل، شاميان ومصريان سامي السراج وأيمل الغوري شاميان.. والدكتور محمد حسين هيكل ومحمد حسنين هيكل مصريان، أما المقال السياسي القصير فلبناني واحد ميشال أبو جودة وشامي تمصر داوود بركات ومصري من الصميم عبد القادر حمزة، وليس في ذلك ما انتقص قدر العقاد وإحسان عبد القدوس في المقال الطويل كما لم ينتقص قدر علي ومصطفى أمين في المقال القصير، غير أن صلابة الرأي بتطرية الأسلوب هي غير الفكرة الطريفة عن الواقع التي لم ترجع إلى التليد.
إن مقالاً للدكتور محمد حسين هيكل عن الزعامة المقدسة، ما زلت أطلبه أجري وراءه لينشر اليوم، كتبه هيكل رداً على مكرم عبيد يوم لقب النحاس باشا بالزعيم المقدس، قالها يوم كان يصطفيه النحاس، ولكنه لم يحترم كلمته فإذا هو الذي دنس بشهادته في إحدى محاكم الثورة، مكرم تلحقه المعابة ونسأل الله المثابة للنحاس.
وعن الأمن والحج.. مازال ماثلاً إلى الآن ولكن دهشة كل من اتجه إلى القبلة عظيمة يسألون أنفسهم كيف استطاع عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود أن يصنع هذا الأمن، حتى إذا عجبوا قالوا (تلك نعمة الله).
وكان الحج على الجمال يعيش الحجاج آمنين لا يدفعون إِتاوة ولا تحرسهم خفارة وحين كثرت السيارات وتأسست الشركات وتوحدت الشركات، استراح الحجيج يمتطي السيارة ولم يعد الجمل مطية، وألغيت القوامة والخراجة وأنعم الملك عبد العزيز على المقوم والمخرج بعون كلفت أن أقوم بصرفه كسكرتير لإِدارة الحج وكعارف بهؤلاء المقومين والمخرجين، كلهم من حرب، وابن المدينة الحربية من الغابة للآبة والذي نشأ بدوياً يعرف هؤلاء.
ولعلّ من جزع أول الأمر حمد ذلك آخر الأمر، فإذا هم يعملون حضراً ويتخرجون من الجامعات دكاترة وفي الجيش والحرس ضباطاً وجنوداً، كان الانصراف عن كل ما مضى هو النعمة لكل من هم فيه أو ما هم فيه.
وكلفت كسكرتير لإِدارة الحج التي كانت مرتبطة بوزارة المالية والتي كلف محمد سرور الصبان بأن يديرها، وإذا نحن في جدة، وقد حلت البطاقات بقيمة ما يدفعه الحاج من رسوم وأجور فلزم الأمر بإلغاء ما كان سابقاً باسم الكوشان، وإذا المنة بعد ينهض بها عبد العزيز يلغي رسوم الحجاج فلا يدفع الحاج إلا رسوم الخدمات والسكن للمطوف والوكيل وما إلى ذلك.
وكلفت بأن أدير الحج لترحيل الحجاج في جدة وكان الحجيج من العرب يصلون بالبواخر من مصر ومن الشام ومن الشمال الإفريقي، وكان اجتماع رضوى بين الملكين، الملك عبد العزيز والملك فاروق يرحمهما الله قد تكاثر به الحجاج من مصر، بل وما فعله طلعت حرب لتيسير الوصول بالبواخر التي أعدها تابعة لبنك مصر، كان مساهمة في كثرة الحجيج.. ولماذا أذكر ذلك؟! لأن فيها ذكريات لا بد أن تذكر:
1 - دخل إلى مكتبي في جدة صديقنا ونحن في المدينة باشكاتب التكية المصرية محمد المرسي، الذي كان عشيراً لا يختلف عن (بشكتنا) تعجبه طبخة (الشكشوكة) يصنعها منشي كرامه، دخل على غير محرم وصل من مصر وهو لا يحمل البطاقة، فأمسك صالح نور مدير الجوازات جوازه، لأنه لم يدفع كحاج، وبعد أن سلم قال: يا أخ (نحن الآن بقينا إخواناً بعد ما اجتمع الملكان في رضوى قلت له: غفر الله لك، لقد كنا أخواناً بالشهادتين وباللغة وبالمسجد وبالأزهر، قبل اجتماع الملكين، وإن كنا نحمد للملكين ما فعلا، فالوئام بين كل العرب هو خير لكل العرب، وتلفنت لصالح نور، محمد المرسي باشكاتب التكية لا يعامل معاملة الحجاج سيذهب إلى المدينة وسيحج منها.
2 - وتلفن إليّ أحمد جبر القائم بأعمال السفارة المصرية: عندي أحمد باشا عبد الغفار ومحمود سليمان غنام وجلال حسين، تعال شرفنا ندبر أمرهم إلى مكة، وذهبت فأحمد عبد الغفار عضو الأحرار الدستوريين وأحد أعيان المنوفية من البيت الذي نما فيه أنور السادات ومحمود سليمان غنام أحد وزراء الوفد، دبرت أمرهما بالطلوع إلى مكة وإذا جلال حسين يقول لي: شوف الولد صالح نور سحب جوازي هو ما يعرف أنا صديق عبد الله سليمان وصديق محمد سرور فقلت له: والحاضرون يسمعون، صالح نور ما هوش ولد أدى واجب الوظيفة، أنت وضعت نفسك في هذا الموقف لم تمل البطاقة فسحب الجواز، فإما أن تتلفن الآن لعبد الله سليمان أو محمد سرور يسمحون لك بالجواز وإلا أن تدفع المطلوب، وتكلم أحمد عبد الغفار بكل الصلف الذي يحمله: أنت جبت هذا لنفسك، فقال أحمد جبر:
أرجوك أن تتلفن أنت، وتلفنت لمحمد سرور وسحبنا الجواز حيث أعفي من الرسوم.
3 - وكلفنا أنا وعبد السلام غالي أن نستقبل بعثة الطب المصرية، وتم استقبالهم برئاسة الدكتور عبد الرحمن عمار، ورجعت إلى مكتبي فوجدت مدير الشؤون المالية في إدارة الحج عابد قزاز يرحمه الله، وقد ركبته أزمة لأن الشيخ يوسف ياسين قال له: لديكم أمر استقبال البعثة الطبية المصرية، لماذا لم تنفذوه، وما صبر حتى يتلقى الإِجابة من عابد، كلمني عابد بذلك فطلبت السيد يوسف ياسين في الخارجية ومكتبها كان داخل البلدة،فإذا الصديق الابن فريد بصراوي وكان سكرتيراً للشيخ يوسف على التليفون، قلت له: أخبر الشيخ يوسف أنّا استقبلنا البعثة في الباخرة وكاذب من قال له غير ذلك مهما كانت قيمته، وبعدها بوقت قصير، كلمني فريد قال: لقد اتصل الشيخ يوسف بالسفارة المصرية وعرف الحقيقة وهي التي بلغت الخبر الأول وعلم أحمد جبر بذلك، وبالمصادفة كان محمد سرور بالمكتب فجاء أحمد جبر يعتذر عن هذا الخطأ، الذي أحرجنا مع الشيخ يوسف.
4 - وجاء اليوم الثامن والسيارات قليلة وفي جدة ثلاثة عشر ألف حاج سوريون مصريون مغاربة أتراك، واليوم يوم التروية، والحج غداً، وتلفن إليّ محمد سرور من الحوية في خدمة الملك عبد العزيز: ماذا لديك؟ قلت: 13 ألف حاج ونحن بعد الظهر ولا سيارات، قال: تفضل الملك عبد العزيز فأمر وزارة الدفاع أرسل لكم الآن الأمير منصور بن عبد العزيز 50 سيارة أف دبليو تحمل الحجاج الذين عندك وألق القبض على كل سيارة فاضية، قلت له: تلفن لخليل هجانه مدير الشرطة يكون معي، قال: افعل ما شئت على مسؤوليتي، فكلمت منتظر طرابزوني عن نهاية التفتيش في الباب وكلمت رئيس المطوفين: لا بطاقات، البطاقات بعد الحج، وكلمت محمد صالح أبو زنادة مدير الشركة، سيارات الدفاع ستحمل الحجاج، حساب الشركة بعد الحج على حساب الجوازات التي حجزتها عند صالح نور، ووصلت السيارات لم أتركها تذهب إلى بيت الوكلاء، كلمت النقيب عبد الله بنقش: أن الحجاج يحضرون إلى الكراج يركبون بدون عفش فلا مجال للتأخير وإلى عرفات مكثت في الكراج ومعي خليل هجانه، ولم يكد ينتصف الليل حتى رحل الجميع.
5 - وتلفن إلي الشيخ يوسف ياسين في ذلك اليوم العصيب يقول لي قدم السوريين، قلت (لو قالها غيرك يا أبا عبيده) فضحك وفهم لأنه لا يمكن تقديم حاج على حاج يرحمه الله.
6 - وفي صبيحة ذلك اليوم جاء الحجاج المصريون بكثرة كاثرة إلى مكتبي وهم يهتفون يحيا أبو السعود.. يحيا فاروق، فقال عابد قزاز يرحمه الله هيا فك العجة، ووقفت على الشرفة أقول: لا رفث ولا فسوق في الحج لبيك اللَّهم لبيك، لا هتاف لأحد أنتم في الحج اذهبوا وارسلوا الوكيل مفيش هتافات، وانصرفوا.
وذكريات أخرى ما نسيتها ولكنها ثقيلة تمس بعض الأفراد من ناحية البطاقات.. وقد قال جل جلاله خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (الأعراف: 199).
وانتهت ذكريات الوظائف.. خسرت فيها راحة النفس فما أسعدني يوم كنت معلم صبيان وما أسعدني حين أحلت إلى التقاعد، لأنها أعطتني أن أكون المتنفس ما أريد صواباً أو خطأ وأعمل بنصيحة شيخنا محمد عبد القادر الكيلاني التونسي فقد قال: أكتب رأيك صواباً أو خطأ وإياك أن تكون الكاتب النذل.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1061  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 716 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء التاسع - رسائل تحية وإشادة بالإصدارات: 2007]

جرح باتساع الوطن

[نصوص نثرية: 1993]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج