شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
طيبة.. رحلة في الزمان والمكان (35)
والذكريات ليست إلا جغرفة للأرض، أرض المدينة كما أنها مشاهد تاريخية، ليس منها أن تكون مذكرات شخصية، فلن أقحم نفسي متحدثاً عن شخصي وإنما هو الحديث عن المدينة المنورة في عهد الدولة العثمانية العهد الحميدي والعهد الرشادي ثم عهد الأشراف ثم العهد لهذا الكيان الكبير المملكة العربية السعودية، فالذكريات تاريخ من التاريخ عن الأحوال والاتصال والانفصال والرجال وكيف ابتليت بمن حولها وكيف طاب لبعض أهلها أن يعيشوا الفصام بلا خصام ما أشد قربهم لبعض حين لا تكون المادة جراية أو صدقة وما أقوى فصامه حين تكون المادة أحباباً يتقاربون وبالعنعنات كثيراً ما يتباعدون.. أكتب هذه الذكريات فيها (( الأنا )) وإنما كلها الـ (( نحن )) .
في الخرج.. أقمت وليمة ملوخية من البرسيم!
حين هبت (( السموم )) صنعت لنفسي مكيفاً من الحصير
صحراؤنا ونفودنا، تكفهر إذا ما اكفهرت السماء.. وتبتسم تهتز وتربو تنبت من كل زوج بهيج إذا أغاثها الله بماء السماء يرسل السحاب الثقال.
وكنا في المدينة نفرح بالمطر ونجري وراء البرد نجمعه نشربه نطبخ الرز والعدس، وسرنا من الملوية فإذا الطريق ينعم برياح باردة وبنسيم عطر.. وأشرقت الشمس وأقبلنا على نفود السر.. طعوس من الرمل كثبان نتوقى المرور عليها نخشى (تغريز) السيارات، فلا نمر بها إلاّ في هدأة ليل، كأنما الرمل ينام هامداً نتخطاه لا يعوقنا شيء، نتجنب المرور في النهار لأن الرمل استيقظ كأنما هو يمنعنا من الوطأة عليه، حتى رملنا شاعر.. كتبت هذه الكلمة ودمعت عيني من نار الحب لهذه الأرض ونور الحب لإِنسان هذه الأرض، صدقوني لأشكر، وإن كذبتموني فأمر ألفته فلن يكربني..
وما كدنا نخطو الشبر الأول من نفود السر حتى وجدتني في جنة مزهرة، عجيب هذه الأرض هكذا تمرع إذا أغيثت، تلبد الرمل تحت الأزاهير، فالزهر من كل لون.. أحمر وأصفر وأبيض كأنما كل زهرة تعاشقت مع الأخرى، فالنفود التي كنا نخشاها أصبحنا نخشى عليها من وطأة السيارات.. نخشى أن يطأ سائق السيارة زهرة أو يقتل شجيرة، وأمطرت السماء رذاذاً هتاناً، فيا لها من فتنة الغيث.. فتنة الجمال، ويا لها من رحمة الغيث أفاض على الأرض رحمة فإذا النفود تراحمت ينبت فيها الزهر، وقلت للسائق. قف، قال: الوزير سبقنا نخشى أن يفوتنا، قلت: سنلقاه في المكان الذي يصل إليه، هو إلى القصر ونحن في المربع في الرياض، فدعنا نقف لحظة نهنأ بحياة الزهور لنجد زهرة في حياة النفوس التي عشقت الجمال تؤدي التحية للكمال، وقلت لصاحبي: أرأيتم هذه الزهور فلتعرفوا أن العربي بلغته الشاعرة وبأرضه هذه الشاعرة وبروحه الشاعرة حين وصف الزهور لم يصف زهراً مستورداً أو زهرة رآها على شاطئ الفرات أو وصفوها له حول بردى أو على ترع النيل، إنه لم يصف إلا الزهر الذي عرفه، فالأقحوان والورد والياسمين والفل والشيح والقيصوم كلها رآها.. عشقها حين عرفها ذخراً على ترابه كان مدخراً تحت ترابه، نبشه الغيث.. سقاها.. فأمرع، لحظات كنت فيها وبها ولها ومعها..
ووصلنا إلى الرياض وإلى الخرج وقد كثرت فيه المزارع، فالخرج كما الأفلاج لم تحبس الماء تفجر فيها في عين الضلع ومخيسة وسمحة، حين امتلأ جوف الأرض من عطاء طويق عطاء الحجر، حجر اليمامة، أبت أرض الخرج والأفلاج أن تختزن الماء فتفجرت عيونها، ولا أنسى الخفس خفس دغرة، عين انحنى عليها الجبل، كأنها انحناءة ضلع على عين الضلع وما انحبس الماء على الخليج، فماء الخليج ارتوازي أو في نوافير من عطاء الأعلى من وادي الرمّة من وادي حنيفة من وادي الدواسر، وحتى من هضبة الدوادمي وحتى من شرائع السراة، المزارع يسيل إليها الماء من العين سمحة رُكبت عليها مكائن تمتح الماء من عدٍ لا ينضب، يسيل في قنطرة ثم يتجدول جداول إلى كل فلج إلى كل بستان، المزارعون وزعت عليهم قطع الأرض، الكثرة من أهل القصيم إلا واحد هو من أهل المدينة بل من عين أعيانها علي أبو الجود ومعه أخوه الكبير حمزة أبو الجود الذي كان يوم أن كانت الدنيا ناعمة، من أنهد الفتيان في المدينة تياهاً، فإذا هو ينسى التيه الذي كان من وفرة الرخاء ويخضع إلى تيه من قسوة الشظف.
وأمسكت بمكتبي فعرفني أهل الخرج حين كنت أعرفهم بالسمات والبسمات، إنهم من قومي العرب إنهم من أمتي المسلمة، فقد قلناها من قبل نحن في هذا الكيان الكبير مسلمون على الذروة عربيون على السنام تزاوج لا ازدواجية، فقد طرد الإِسلام كل نعرة تفرق وما أنكر أن ينتسب مسلم إلى قومه (أنا النبي لا كذب أنا عبد المطلب، أنا من ولد النضر) فلا قومية تباح وهي تتنكر للإسلام كما ينكر الإِسلام على غير العرب أن يتنكروا على العرب إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (الأنبياء: 92).
ورجع الوزير عبد الله بن سليمان إلى جدة وأبقاني في الخرج وفي يوم أبيض شرف الخرج بوصول المجمع الإِمام السلطان الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن، فإذاً أنا أتعرض لمشكلة لا شأن لي بها فلا ناقة لي ولا جمل، فما أنا إلا كاتب في مكتب الوزير أرأس قسماً حسابياً، وكانت المكائن المركبة على سمحة ثلاث عطلت واحدة لأن (تزيتها) بزيت الخروع وبعيد أن يصل في أيام الحرب، وكانت المكينتان كافيتين غير أن تشغيلهما يطول، فلو كانت الثالثة تعمل لما طال شغلهما، وكسرت مكينة من المكينتين فإذا المكينة التي تعمل لن تكفي، فأسرع المزارعون إلى مدير الخرج، يخبرونه عن شح الماء، المكينة الواحدة لا تكفي، وقالوا للمدير: توجد مكينة في مخزن بنى عليها ابن سليمان باباً من اللبن، وكان في إمكانه أن يتصرف غير أنه تبرأ، وغرى المزارعين يكتب لهم برقية إلى جلالة الملك عبد العزيز الموجود في الخرج يشرحون الوضع وقد كتب فيها ((الزيدان حاجز مكينة في المخزن)) وكما تقول العامة ((يا غافل لك الله)) فمن يطيق غضب عبد العزيز، هل أطيقه أنا المسكين، وأدركتني رحمة الله بالمصادفة فقد كان أحمد سعيد العربي المصري السوداني الذي كان ينقل أخبار الراديو إلى جلالة الملك عبد العزيز، والمصادفة قادت أحمد سعيد إلى الديوان فرأى الشكوى سأله نائب رئيس الديوان فقد كان عبد الله ابن عثمان غائباً يومها فقال أحمد سعيد زيدان لا علاقة له بذلك، أرجوك أخر الشكوى لا تقدمها إلا بعد العصر سأذهب الآن، ليكون الحل، وأخبرني أحمد سعيد مسرعاً وما كدت أسمع الخبر أخاف الغضب أرهب التأديب حتى ناديت المهندس واسمه حبيب كان مهندساً بارعاً ذا خلق فأسرعت معه نهدم الباب نخرج الماكينة نحملها على اللوري يذهب إلى مسحة وما أسرع ما ركبها وما أسرع ما تدفق الماء ولم نكد نصلي الظهر حتى تدفقت مياه سمحة كأن ماكينة لم تكسر ولم أقنع بذلك فإتقان الغضب لجريرة لم أفعلها جعلني أبرق لعبد الله بن سليمان أخبره بأني هدمت الباب وركبت الماكينة ولعلّي أعطيت صورة إلى الديوان من برقيتي وجاءني الجواب من الوزير: أحسنت بارك الله فيكم ومضت الشكوى كأن لم تكن وإن كان من عقابيلها.. وفي صبيحة اليوم الثاني وصل إلى مكتبي نوري السعداوي وعبد الله السعد وما أدري أكان الثالث عبد الله بن عدوان أو غيره فقد نسيت.. سألوني عن حجز الماكينة كأني أنا الذي حجزتها لأن الشكوى قالت ذلك فأخرجت البرقية وفيها الجواب ابن سليمان هو حاجزها لا يمنعها وإنما كان ذلك حيطة منه حتى وجدناها المغيثة لمزارع الخرج وقنعوا بما رأوا ولا شيء من المزعجات قد وصلت إليه نعمة الله أولاً ووفاء الصديق أحمد سعيد ثانياً وفضل فهد العثمان ثالثاً وقبل كل شيء فالفضل لله وبعد كل شيء السماح لمدير الخرج حينذاك لم يجئ عليَّ عقاب وإنما كان العقاب لهزيمة الشكوى.
وحكاية أخرى: عن الذرة والحنطة وفي خفس ((دغرة)) وقد كانت هناك موزعة كبيرة لمشروع الخرج المكلف بها ((إبراهيم الحبودل)) من كبار الخويا عند عبد الله بن سليمان وكان رجلاً يحمل المسؤولية ويؤدي الواجب كاملاً.. زرع الحنطة.. زرعة شتوية وحصدها في إبانها ثم حرث الأرض يزرع الذرة زراعة صيفية وهاجت الذرة أثمرت حتى استوت كيزانها على أعواد حشها حشاً.. حبات الذرة يجمعها والقصب علف حيوان ولكن العجيب حين حش الذرة وجد الحنطة في سنبلها يجمع أكياساً منها نبتت تحت الذرة حين بقي من نثارها في الأرض فإذا هي تنبت مليئة السنابل يجمعها كعجيبة كيف تنبت الحنطة في الصيف ولكنها الذرة التي هاجت صنعت بيئة مناخاً لنبات الحنطة كأنها ظل العيدان من القصب قد أحدثت برداً أمرعت بسبب الحنطة.. فالظل الظليل من القصب والبرودة أعطت الأرض أن تكون وكأنها المشتية ينبت فيها القمح.. أكتب ذلك لا لأنها العجيبة ولكن لعلّنا نستفيد من هذه الظاهرة أي قد نصنع بيئة لنبات في وقت لم يكن صاحب البيئة.
وفي الخرج قد نحتاج إلى الخضروات نأكلها ولكن لا نستطيع ذلك لأن الحصيلة لغير الخضروات ولأن الموجود منها وهو قليل لا يكفي ساكني الخرج.. وسمعت أن حسن عشي الطباخ الماهر قد طبخ للشريف عون البرسيم على أنه ملوخية وأردت أن أجرب سلقت اللحم الدسم من الفص والأضالع وقطع من الليّة وكثرت الثوم نيئاً في المسلوق وقطفت ورق البرسيم وفرمته كأنه الملوخية وطبخت في السلوقة وأجدت كشنة الثوم وأعددت الغذاء للزملاء.. أقول لهم اليوم غداؤنا ملوخية.. وأكلوا فقد أضاع الدسم واللحم والثوم رائحة البرسيم.. فأكلوا حتى شبعوا لم أخبرهم إلا في اليوم الثاني لئلا تتعكر معدة أحدهم وما قالوا شيئاً وما أنكروا حين أكلوا لكن الملوخية هذه لم تكن إلا البرسيم.
واشتد الصيف فكيف أتوقى السموم وتفتقت لي الحيلة أقص لي حصيرة على مقاس النافذة وكانت طويلة عريضة وضفرت البرسيم ضفراً أنسجه على الحصيرة وعلقته على النافذة أرشها بالماء والبرسيم يمسك الماء لا يجف إلا بعد وقت أرش الماء مرتين أو ثلاث فإذا هو مكيّف صحراوي.. حلوة تلك الأيام القاسية لأنها قوة في النفس وقوة في العضل فالشظف يحيا به الرجال والترف قد لا يحيا به الشباب.
وكان هناك شباب من المدينة أعدهم ابن سليمان عوناً منه يمارسون العمل كان راتبهم قليلاً فأصدرت أمراً عن أمر الوزير بزيادة الراتب وتقدم الابن عبد الله درندري إلى مدير الخرج يطلب بعض الخضرة ولعلّ المدير كان مشغولاً ولم يعرف الشاب حق المعرفة فقال ((ما فيش خضرة، يعني أنتم في بيتكم تأكلون خضرة)) فجاءني الفتى جاء يشكو فقلت له الآن سيعرفك وذهبت إلى المدير أقول له: هذا عبد الله درندري أبوه أمين درندري من أعيان المدينة كان له امتياز وجده لأمه لعلّك تعرفه إنه الصدر الأعظم، الرجل الأول عند السلطان عبد الحميد صهره الشريف عون له يد على عمر نصيف وله يد على إسماعيل خديوي فشاب هذا جده ومن أبناء المدينة المليئة بالخضار لا يأكل الخضار في بيته؟ فكرب المدير حين عرف وعطف على الشاب وكما قالوا: الدم ما يصير مويه، والعرق يحن للعرق.. كلاهما يمت إلى الأتراك.. وكما يقول أبناء الكتاتيب تمت السورة وضاعت العصايا المكسورة وانتهت رحلتي إلى الخرج.. أعود إلى مكة وإلى أكثر من عمل يأتي ذكره بعد..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1031  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 715 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.