شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
طيبة.. رحلة في الزمان والمكان (34)
والذكريات ليست إلا جغرفة للأرض، أرض المدينة كما أنها مشاهد تاريخية، ليس منها أن تكون مذكرات شخصية، فلن أقحم نفسي متحدثاً عن شخصي وإنما هو الحديث عن المدينة المنورة في عهد الدولة العثمانية العهد الحميدي والعهد الرشادي ثم عهد الأشراف ثم العهد لهذا الكيان الكبير المملكة العربية السعودية، فالذكريات تاريخ من التاريخ عن الأحوال والاتصال والانفصال والرجال وكيف ابتليت بمن حولها وكيف طاب لبعض أهلها أن يعيشوا الفصام بلا خصام ما أشد قربهم لبعض حين لا تكون المادة جراية أو صدقة وما أقوى فصامه حين تكون المادة أحباباً يتقاربون وبالعنعنات كثيراً ما يتباعدون.. أكتب هذه الذكريات فيها (( الأنا )) وإنما كلها الـ (( نحن )) .
خادم الحرمين.. فتح الثغور وسقى المدن
جادت الأرض بخيرها فجادت عزائم أبناء عبد العزيز
الماء في المدينة والثغر آبار.. صهاريج.. كنداسة فالعين والتحلية..
والذكريات أكتبها تارة ببصر المشاهد خضع لواقعة وتارة ببصيرة الشهيد على مسيرة التاريخ، أفليس سقيا الناس مادة حياة ورغيد عيش؟ لهذا أسجل أسئلة عن واقع الذين حكموا هذا البلد، فكيف لم يغيثوا إنسانه بالماء؟ الأنهم كانوا عاجزين، عجز الفقر؟ أم أنهم كانوا المحجوزين بحواجز الفصام والخصام بين سلطان الطوائف والعثمانيين ومن إليهم وبين سلطان الأمير في المدينة، أي مدينة، والأمير في القرية، والأمير في القبيلة، أي قبيلة.
في المدينة المنورة ومكة المكرمة.. آبار يشرب منها الناس وفي عرفات يحمل الناس الماء في قرب، لأنه لم تكن هناك العين، فالآبار في المدينة بقيت السقيا منها إلى عهد أمية، فقالوا إن مروان بن الحكم أوصل الماء بالعين يمتد ماؤها من بئر أريس في قباء، أعني بئر الخاتم، كما قالوا إن مروان أخذ يحفر يستنبط عيناً في وادي قناة من حرة قريظة إلى مجمع الأسيار بروما، حتى إن الحفار نبش قبر حمزة بن عبد المطلب وعبد الله بن حرام حيث دفنا في مصرعهما، فنقل جسد كل منهما لم تأكله الأرض إلى الحزم.. هكذا السماع، ولعلّي أذكر بخطأ الأدلاء حين يسلمون على حمزة، يذكرون اسم عبد الله معه ويقولون إنه عبد الله بن جحش دفن مع خاله حمزة، فالصواب كما أعتقد أن الشهيد الدفين معه هو الذي وجد معه في المصرع ألا وهو عبد الله بن حرام والد الصحابي الراوية جابر بن عبد الله بن حرام، ويعني ذلك أن أصبحت في المدينة عين الزرقاء تعهدوها بالتعمير جيلاً بعد جيل، وقالوا لنا إنها سميت الزرقاء نسبة إلى عين مروان بن الحكم وقد كانت زرقاء، وراثة من الجدات.
أما الآبار، فهي بئر حاء مالكها الصحابي الخير أبو طلحة الأنصاري وهي في باب المجيدي كما بعدها وعلى نفس الوادي (مشعط) قريباً منه بياضة وصيادة، وفي العلية العوالي البصة وغرس والفقير، الحائط الذي زرع رسول الله والصحابة صنوان النخل وفاء بما كاتب عليه سلمان الفارسي ليعتق من الرق فارسي ما استرقه إنسان إلا حين استرق نفسه يبحث عن الهدى، يصل إلى المدينة وهو يجوب الأقطار بحثاً عن الإِيمان، فإذا هو (سلمان منا آل البيت)، أصبح يأخذ الفيء وكأنه ند من بني هاشم كما العباس وعلي.
وسوالة وقد كانت ملكاً لعبد الرحمن بن عوف تداول عليها مالكون بعد، حتى شاهدنا أنها أصبحت ملكاً للشريف علي الجمازي والد الشريف شحاز.
وفي الشمال وفي مجمع الأسيال كانت بئر روما ملكاً ليهودي، عذب ماؤها يشرب منها الناس بقيمة حددها صاحبها، فاشترى عثمان بن عفان ذو النورين نصف البئر، لا تقسم نصفين وإنما القسمة يوم لليهودي يشرب الناس بقيمة ويوم لعثمان يشرب الناس بلا قيمة، اشتراها عثمان فسبلها حين ضاق اليهودي لا يأتي إليه شارب ماء في يومه المحدد؛ فاضطر أن يبيع قسمه إلى عثمان وما أكثر ما تصدق عثمان.. جهز جيش العسرة يقول رسول الله عن هذا (ماضر عثمان ما فعل بعد اليوم) ولكنهم اغتالوه، فلولا قوة هذا الدين بسلطان القرآن والإِيمان لما تم فتح ولما نبغت حضارة.
وفي مكة المكرمة كانت الآبار، ولم تكن في عرفات ركية فيها ماء، فإذا حفيدة العباس بن عبد المطلب أم المؤمنين زبيدة زوج الرشيد تأبى إلا أن تكون لها السقيا في عرفات، انتزعت بذلك عرق، فجدها العباس كانت له السقيا من زمزم، أوصلت زبيدة العين إلى عرفات ولم تمتد يد حاكم على مدى الزمن بعد ذلك توصل الماء من زبيدة إلى مكة إلا على يد رجال أخيار في طليعتهم المسلم الهندي (وحيدانة).
ونسأل ملوك الطوائف والعثمانيين والمماليك والأيوبيين والأمراء في هذا البلد، كيف لم ينشطوا إلى إغاثة ثغرنا جدة وثغرنا ينبع والثغور الأخرى بمد الماء من العيون التي تبعد كثيراً، فقد كانت جدة طوال عهدها تشرب من ماء الصهاريج والبرك والقرب يحملها على الجمال يبيعونها لشارب الماء، وينبع كذلك.
إن جدة.. الثغر لا تبعد عن عيون وادي فاطمة إلا أربعين كيلومتراً أو أكثر قليلاً، فلم تمتد يد حاكم أن يجلب الماء لها من وادي فاطمة، كأنما الله قد ادخر ذلك لينعم به على عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود الإِمام السلطان الملك، يمد الماء وما كان المال كثيراً وإنما كان العزم كبيراً والنية الصالحة أكبر، فوصل ماء العين من وادي فاطمة إلى جدة، تذهب الكنداسة التي ما كانت تكفي وينتهي عهد الصهاريج والبرك.. كم كان ذلك أثراً مؤثراً في حياة الناس لحياة الناس منَّ الله به على عبد العزيز.
والثغر ينبع، ليس بينها وبين عيون ينبع النخل إلا مسيرة ليلة على الجمل أقل من أربعين كيلومتراً لم تمد يد حاكم أو سلطان تحت اسم خادم الحرمين إلى أن يجلب الماء من خيف المبارك أو خيف البركة أو من ماء وراءهما الجابرية وعين النوى وخيف حسين، لو صلحت النيات ولم يكن الخصام والفصام لاستطاع الحاكم أن يغيث ينبع بماء العيون، مع أن الرجال كأفراد تعاونوا على مد العيون في الخيوف، فالرجال مدوا عيون وادي فاطمة والرجال مدوا عيون ينبع النخل والرجال مدوا عيون المدينة، إن عين الزهرة حفر منابعها وسير مجراها رجل واحد اسمه محمد محروس، وكانت المسافة لا تقل عن عشرين كيلومتراً من الأعياص (سلطانة) إلى الزهرة امتدت العين، وكذلك العيون الأخرى لم يصنعها حاكم وإنما صنعتها عزائم الرجال.
وحين جادت الأرض بخيرها نعمة من الله جادت عزائم الملوك من ولد عبد العزيز بالحفاظ على العيون وجلب الماء من العيون ونبغت عزيمة الملك فهد خادم الحرمين الشريفين فإذا هو يصمم على إنجاز التحلية يسقي الثغور ويسقي المدن بالماء المقطر العذب. إن خادم الحرمين الشريفين الملك فهد حين نذكر عزائمه لا نقتصر على المدارس أكثرها ونشرها، ولا على الجامعات ثبتها ونصرها، فله عزمتان قل ذكرهما له، إصلاح المواني جهداً انتظمت به فلم تعد باخرة تتأخر في الميناء إلا ساعات أن تفرغ حملها، وماء التحلية يصل إلى الأعالي، التحلية على سطح البحر والأعالي على السراة بخ.. بخ فالله ولي النعمة وهو يجزي المحسنين لما أحسنوا.
السلاطين والحكام والأمراء استأخروا ليتقدم عبد العزيز وبنوه.. لا أكتب هذا استجداءًا ولا نفاقاً ولا تملقاً وإنما هي الحقيقة ينطق بها قلمي وحرفي من استنطاق وجداني، فلعلّ لساناً غير شاكر يصمت، تخرسه الحقيقة. وما ذلك إلا عن حب لهذا التراب توحد في مملكة واحدة بعد أن كان مزقاً بين الخصام والفصام، فنحن جيل الحمد نواكب جيل الشكر وحسبي أنهم الأكثرون الذين إذا نظروا حولهم قالوا (الحمد لله والشكر لله).
الكنداسة
وما دام الشيء بالشيء يذكر فإن لدي حكاية عن الكنداسة سواء كانت في جدة أو في ينبع، لماذا لم تكن أكبر مما كانت؟ ولماذا الاستكانة والصمت عن العمل للحيلولة دون العراك والصراخ والامتيازات بأناس دون أناس حول ماء الكنداسة وتوزيع ماء الكنداسة؟
والذكريات تجرني إلى حكاية حيث كنت موظفاً محرراً في قسم الوراق تحت رئاسة الصديق شاعرنا الكبير السيد محمد حسن فقي أمد الله في عمره، ومنّ عليه بالعافية، يناولني الأوراق مشروحة بالتوجيه من المدير العام المساعد لوزارة المالية الشيخ عباس صيرفي الذي لم يكن يرتاح إلي والذي حين كنت له كان الحفي بي الصديق، ولذلك قصة بعد يرحمه الله.. وبدأت أكتب المذكرات طبق الشرح فإذا بخطاب من مدير مالية ينبع محمد الناجم الذي خلف حمد الميمان وله منزلة عند وكيل وزارة المالية حينذاك حمد ابن سليمان يرحمه الله، فكلاهما من عنيزة، قرأت الخطاب يطلب صدور الأمر بإعداد سيارتين كبار تحملان خبرتين من خوياه يحطبون الحطب يجلبونه إلى ينبع البحر من شعاب رضوي (الجهينة) أو من شمال ينبع جهيناً بلوياً أو من غرب ينبع حربياً حدد الطلب بسيارتين والخبرتين لجلب الحطب لأن متعهد الحطب للكنداسة لم يف بالتزامه، قرأت الخطاب والشرح للموافقة على هذا الطلب والشارح عباس صيرفي يرحمه الله، توقفت أستعرض الحال وماذا ينجم عنه ولم أسأل عن ضخامة التكاليف، فحمل الحطب كانت قيمته في المدينة المنورة لا يزيد على نصف ريال أو ريال، فلماذا تجلبه المالية على هذه الصورة باهظة التكاليف، صرفت النظر عن التكاليف لم أجعلها حجة أطلب تعديل الشرح فحجتي هو ما ينجم من فتنة فلربما رجال المالية يقطعون شجراً من شعاب رضوى فيقاومهم بعض الجهنيين أو من شمال ينبع فيقاومهم بعض البلويين أم من غربها فيقاومهم بعض الحربيين كانت فتنة أمام نظري وما استطعت أن أقنع السيد حسن فقي بأن يطلب تعديل الشرح، فقد قلت الاحتطاب على هذه الصورة لن يكون بشرح الموظف بل لا بد من إذن يصدر عن الأمير فيصل يرحمه الله أو عن جلالة الملك عبد العزيز تغمده الله برحمته، فلو ثارت رصاصة من خوي على جهني أو من جهني على خوي لغضب الملك عبد العزيز ولربما أرسل جيشاً يؤدب من أطلق الرصاص وخفت أن يكتبها غيري فتمضي.. كتبت هاك الشرح بالموافقة وأرسلت إلى كاتب الآلة سراج الدين ابن ياسين وتلبثت قليلاً ثم ذهبت إلى كاتب الآلة أطلب منه حيث شرحت له الوضع أن لا يكتب الموافقة عاجلة، وتأخرت في الخروج ليرسل الملف إلى التوقيع وليست فيه هذه الموافقة، وفي صباح اليوم التالي بكرت في الحضور آخذ الخطاب والمذكرة أدخل على عباس صيرفي أقول له: إذا لم تسأل كيف توافق، إذ لم تسأل عن التكاليف لم يخطر ببالك ما ينجم عن الفتنة أرجو أن يكون الشرح اشتروا الحطب من السوق واطرحوا توريده للكنداسة على ملتزم تثقون به، وكأن عباس صيرفي قد تنبه حين عرف العواقب وعدل الشرح اشتروا الحطب من السوق، وليكن ملتزماً آخر.
وهنا أسأل كم تستهلك الكنداسة من الحطب في اليوم؟ عشرين حملاً بعشرين ريالاً أو حتى بخمسين ريالاً أفمن أجل ذلك نستجيب لهذا الطلب، وكتبت المذكرة ورآها السيد محمد فقي فلم يرتح لصنيعي غير أني قلت له إن الدم إذا سال من سعودي بيد سعودي أمر لا يحتمل، فاعذرني إذ فعلت ذلك، وما كان هذا مني إلا لأني بدوي أعرف أشبار أرضي، وصحراءها وأشجارها، فقد نشأت في بيت شعر وأنشأتني ينبع النخل كما نشأني الخرج وشماريخ السراة وعمق تهامة.
وحكاية أخرى
ونقلت سكرتيراً للمجلس المالي يرأسه الشيخ الوقور أحد المحاربين القدماء في وزارة المالية محمود شلهوب، والمجلس مكوّن من رؤساء الدواوين عبد الرازق هنداوي المحاسبة عبد الوهاب آشي الواردات علي عامر الموظفين عبد العزيز جميل التفتيش محمد حسن فقي الأوراق، وحولت إلى المجلس معاملة كان الطلب مقدماً من أهل المدينة المنورة لتأسيس قسم ثانوي بعد الإعدادية في المدينة المنورة، فأقر مجلس الإِدارة في إِمارة المدينة ذلك، وحين عرض على مدير المعارف وقد كان السيد طاهر الدباغ أقر المبدأ كما أقر التأجيل لأن الظرف لا يسمح بذلك لأنه كان في أيام الحرب العالمية الثانية في أول الستينات وأحيل لمجلس الشورى فأقر وجهة نظر المعارف، وقبل أن يجتمع المجلس بعرض الموضوع عليه خطرت لي فكرة نهضت أعرضها على عبد الرازق هنداوي وعبد الوهاب آشي وعلي عامر لأني أثق بهم وهم يثقون بي، كانت الفكرة الموافقة على رأي المعارف غير أن لا تغلق ميزانية تحضير البعثات بشكلٍ سنوي بل ينبغي أن يظل الصرف على عدد الطلاب شهرياً، كان الطالب يكلف 19 ريالاً وكانت الفكرة أن يظل هذا المصرف لكل طالب سواء المنتسبين فيها حين التقرير أو الذين يلتحقون بها من المدينة وجدة والمدن الأخرى، وافق الذين استشرتهم وكتبت القرار ليعرض على المجلس وقد استعرضت الوضع كله طلب أهل المدينة قرار مجلس الإِدارة قرار مجلس الشورى ثم وضعت النتيجة بقرار المجلس على أساس أن يبقى المصرف شهرياً يسع واقع المدرسة كل من يستأهل الانتظام فيها من أبنائنا العرب السعوديين، ووافق المجلس على هذا حين استحسنوا الرأي، فكان عباس صيرفي مدير المالية العام المساعد عضواً في المجلس والانشغال بما لديه قل أن يحضر الجلسة فذهبت بالقرار الموقع بالأكثرية حتى إذا بدأ يقرأ كانت هناك فقرة بهذا النص ((والمدينة دار الهجرة تستحق أن يؤسس فيها قسم ثانوي غير أن ظروف الحرب قد أجلت ذلك)).. وسقت بعدها الاقتراح وقرأ عباس يرحمه الله ((والمدينة دار الهجرة فإذا هو يضع القرار ويقول بلفظ ساخر يعوج به لسانه والمدينة دار الهجرة والمدينة دار الهجرة، فانتزعت القرار منه أقول هي الهجرة فلا أنت الوليد بن المغيرة ولا أنا سعد بن معاذ ولكني الآن سأتلفن لصديقك السيد حمزة مرزوقي لا يصحبك إلى المدينة كل عام ما دمت تقول ذلك، وأفاق عباس فإذا هو يرتجف يقول: لا.. لا.. لا كأنه قد أخذ بزلة بينما هو يرحمه الله من الذين نعرف أنه يحب المدينة.
فالمكيون كلهم يحبون المدينة، فلو كان واحد منهم قد أسرف على نفسه قبل أن يصل إليها فإنه لا يفعل ما يؤخد عليه لأنه يعتقد أن الزلة في المدينة يعجل الله بها العقاب.
تلك ميزة للمكيين وما كان عباس إلا هكذا، وأحيل القرار إلى مجلس الشورى بشرح من محمد سرور ليكون هو مندوب وزارة المالية وقد استحسنه وأقره مجلس الشورى وما أكثر من انتظم في تحضير البعثات من المدينة وجدة وغيرها.
ويأتي الصفاء مع عباس صيرفي حين أوقف عن العمل لخصومة بينه وبين عبد العزيز جميل، يأخذ عبد الله بن سليمان معه إلى الرياض والخرج وقد انتقلت حين ذلك من المجلس المالي إلى رئيس القسم الحسابي السيار أكون في الخرج وسيطاً بين أوامر عبد الله السليمان ودواوين وزارة المالية.
وسافر عبد الله السليمان ومكتبه الخاص من مكة إلى الرياض في آخر الليل ومعه عباس صيرفي ومكتبه الخاص برئاسة محمد علي خزندار، ولم نخبر بهذا السفر لأنا كنا ذاهبين، وأخذ المكتب الخاص سيارات ((بوكس)) جديدة يمتطونها ومعهم عباس صيرفي، وصحونا نركب سيارة فورد صغيرة موديل أكل الدهر عليها وشرب، كان الوقت ضحى وكنا ثلاثة أبو بكر زمخشري ومحمد مغربي وصاحب الذكريات وكحت السيارة لم تستطع العبور إلى الحدود. فرجعنا وأسعفنا وكيل وزارة المالية حينذاك الأخ الصديق سليمان بن حمد بن سليمان وارتفعت الشمس وأصلحت السيارة، فوصلنا عشيرة وقد وجدنا عبد الله بن سليمان ومن معه معطلين لأن البوكسات تتكسر فيها ((الأكسات)) حتى إذا جاءهم المدد لم يصلوا إلى الملوية إلا بعدنا نحن ركاب السيارة القديمة، وأشفقت على عباس صيرفي وقد تقدم عبد الله بن سليمان مسرعاً إلى الملوية وسيارتنا وراءه فأكرمني عباس إذ أكرمته أحمله في سيارتنا، وكان سائق السيارة سائقاً مجيداً اسمه حبيب من جماعتنا التكارنة فوصلنا الملوية مع عبد الله بن سليمان، وتأخر الرفاق وبعد العشاء أعد العشاء فإذا بعض كتّاب المكتب يؤذن عباس صيرفي بتصرفات غير لائقة فخرجت أطلب سعود بن ثويني أستأجر القاعة التي هو فيها بمائة ريال أدفعها أنقل عباس معنا فيها، أكرمه عن صحبة أولئك أقوم بخدمته ووصلنا الخرج سيارة ابن سليمان أمامنا فورد جديدة بكفراتٍ بالون ونحن بالسيارة الفورد القديمة فإذا الوزير من ساعتها يأخذ حبيب هذا السائق سائقاً لسيارته مع الآخرين.
وأثمر هذا الفعل مع عباس صيرفي وأخذه ابن سليمان يسلم على جلالة الملك عبد العزيز ليعفو عنه يرد إلى مكانه معززاً مكرماً، وحين رجع من المقابلة الكريمة قال:
((سأطلب محاكمة عبد العزيز جميل، قلت: العفو عنك سيضيع بهذه المحاكمة لا تستأنف القضية فأبى وذهبت مسرعاً أكلم عبد الله ابن عدوان وعبد الله سعد وعبد الوهاب آشي وكانوا هيئة في موضوع يمس عبد الله قاضي يرحمه الله وهو من أهل الطائف وإليه ينسب المهندس عمر قاضي الأمين ببلدية المدينة المنورة، أخبرتهم بخطأ عباس فوعدوا أن ينصحوه ورجعت إلى مكاننا ووجدت زميل الطفولة في ينبع النخل وينبع البحر جاراً في مبارك ليس بين باب بيتي الفران وبيت الشريف بادي زوج أمه إلا زقاق ضيق لا يبلغ ثلاثة أذرع وزمالة المدرسة بينبع البحر ألا وهو مدير مالية الأحساء حينذاك زكي عمر، له حظوة عند الملك عبد العزيز ((ابن سليمان عندنا زكي تعال)) يبرق بها الملك عبد العزيز، دخلت أقرأ السلام فما نهض الصديق زكي يستقبلني صديق زمالة وجلست فإذا هو يلتفت إلي نصف التفاتة يقول ((سيك بالخير)) بلهجة نجدية وقلت له: لا يا زكي تحيتك ((صباه الخير اقشام شريف)) بلهجة تركية لأنه يرحمه الله تركي العرق ولم يغضب فقد عرف حق الزمالة فإذا أنا الكريم لديه نتزاور في جدة يوم أصبح أميناً على الجمارك يرحمه الله. ومن حق زكي أن يذكر بخير لوفائه على كل من عرف من أهل ينبع وبعدها وحين رجع عباس صيرفي إلى عمله، وفي الصيف أنا في الخرج وعائلتي في الطائف كان عباس صيرفي ومن عادته أن يتنفس الهواء مع صديقه السيد حمزة مرزوقي في قروه قرب عجلان فلا يمر إلا ويقف أمام بيتي ليسأل عائلتي عن حاجتهم وفي مرة سألهم فقالوا له: اشترينا كيس حب كيس حنطة من التمويل وجدناه وقد أكله السوس فالتفت إلى السيد حمزة يقول له ((لا تمشي انتظرني آخذ كيس الحب المسوس وأحمل لهم عوضاً عنه كيساً من الحنطة النظيفة))، وأخرجوا له الكيس حمله في السيارة ينزل به إلى داخل الطائف يأتيهم بكيس حنطة جيدة.
ما أجمل الوفاء في الرجال وما أجمل الصبر على الخصومة يقتلها صاحبها بالسماحة.
وسألني محمد سرور ((إيش سويت لعباس صيرفي)) قلت: خاصمني قبل أن يعرفني وصافاني حين عرفني واصطفيته حين عرفته.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1546  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 714 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.