شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
طيبة.. رحلة في الزمان والمكان (31)
والذكريات ليست إلا جغرفة للأرض، أرض المدينة كما أنها مشاهد تاريخية، ليس منها أن تكون مذكرات شخصية، فلن أقحم نفسي متحدثاً عن شخصي وإنما هو الحديث عن المدينة المنورة في عهد الدولة العثمانية العهد الحميدي والعهد الرشادي ثم عهد الأشراف ثم العهد لهذا الكيان الكبير المملكة العربية السعودية، فالذكريات تاريخ من التاريخ عن الأحوال والاتصال والانفصال والرجال وكيف ابتليت بمن حولها وكيف طاب لبعض أهلها أن يعيشوا الفصام بلا خصام ما أشد قربهم لبعض حين لا تكون المادة جراية أو صدقة وما أقوى فصامه حين تكون المادة أحباباً يتقاربون وبالعنعنات كثيراً ما يتباعدون.. أكتب هذه الذكريات فيها (( الأنا )) وإنما كلها الـ (( نحن )) .
فقدت وظيفة (( معلم صبيان )) .. ولكن!
في الصين يأكلون الحشرات.. وفي الهند يؤلهونها!
الهند.. بقية الأولى
وطالت الرحلة، وقد كنت مأخوذاً مسيراً بالعواطف أكثر من مسيرة العقل، كأني حلقة في فلاة، أو ليست الهند قارة فيها عجائب بعضها يرتفع بك إلى فوق، وبعضها لا تلام إذا ما نظرت إليها، وكأنها التحت، فالفوق تاريخ البشر من عهد آدم إلى عهد إنسان اليوم، في عربة القطار تجد الإِنسان ممثلاً فيما يلبس.. فيما يأكل.. فيما يشرب.. فيما يعتقد.
وطلع الفجر، ونحن في عربة من ((بنارس)) إلى كلكتا، فإذا بنا ونحن نصلي، رأيت إنساناً عرياناً لا يغطي سوأته إلا طين النهر، كأنما هو يمثل الإِنسان الآبد، التحف بطين الغابة قبل أن يستأنس الفيل، وحين يستوحش من الأسد..، وآخر شدّ القيثارة ليغني وفتح حقيبة يخرج منها زجاجة يصب منها قطرات يمتصها طفله، أما هو فأترع الكأس من ذلك الشراب المحرم، والثالث فتح النافذة يلقي التحية للنهر، نهر الجانج.. وهكذا في الهند.. غاندي.. وأبو الكلام، أزاد.. وجواهر لال نهرو.. وزاكر حسين.. ومحمد علي جناح، وأمثالهم من كبار الرجال كما فيها الآبد والمنبوذ.. كما فيها الأغنياء، وما أكثر الفقراء وتذكرت وأنا أملي، ما كتب في عكاظ عن (الملوخية الصيني) إن الكاتب لم يعلم أن الصين لا تعرف الملوخية ولو عرفتها لطبختها على مرقة الصراصير، لأن الصين ومذهبها إلى (كنفشيوس) تأكل مادب ودرج، لا تؤله الحيوان، بل تأكل كل الحيوانات وحتى الحشرات، بل يكرمون الضيف بمخ القرد، يقدمونه حياً يمسك به الضيف يفشخ رأسه بالمطرقة يلعق المخ بالملعقة، فلا نستبعد أن يطبخ الملوخية على مرقة الصراصير، بينما الهند البوذية تؤله الحيوان ليس أول الحيوان البقرة، وليس آخر الحيوان الخنفساء، فلو رأوك تقتل عقرباً لقاتلوك، بل لربما قتلوك.. هنا خطورة المعتقدات، يقتلني من أجل عقرب أولست إنساناً حياً.. فأين احترام الحياة في هذه المذابح بين الإِنسان والإِنسان وفي هذه العبادة لسائر الحيوان.
وفي ((بنارس)) قبل أن نرحل، كنا ضيوفاً على الأستاذ الهندي المستعرب، فقد كان ينطق بالعربية كأفصح ما يكون، لديه مناسج.. لقبه الحريري، لأنه ينسج الحرير يطرزه بأسلاك الفضة والذهب، تلبسه الغواني باسم الساري، فما لبسته غانية إلا وتغنى بها شاعر.
وحدثنا عن (عزيز تونس) عبد العزيز الثعالبي الذي حضنته مصر وعذبه الاستعمار، قال: زارنا الثعالبي هنا وكان بصحبة الشيخ محمد، صاحب أخبار محمدي من أهل الحديث، وذهبنا نحن الثلاثة حتى إذا وقف الثعالبي ينظر إلى أثر قديم نحتت عليه، وهو من الخشب، صور تمثل علاقة الذكر بالأنثى على صور شتى فقال الثعالبي لضيفه، وأنا أسمع: ما هذا قال الشيخ محمد: (إنهم يعلمون المرأة كيف تزني بزوجها).
عزت عليه اللغة العربية فلم يعبر عن ذلك بما هو من شعائر البوذية، ولم يقل إنهم يصورون علاقة الذكر بالأنثى..، ووصلنا إلى كلكتا ومنها إلى ((رانجون)).
رانجون
وفي اليوم السابع عشر من شهر شعبان سنة 1352هـ ركبنا الباخرة وإلى رانجون، ولماذا حفظت هذا التاريخ ولم أحفظ غيره؟! ذلك لأني أردت أن نعود من كلكتا أي من الهند كلها، نصوم رمضان في بلدنا، فلقد كنت شديد الرغبة، غير أن رفيقي محمود شويل أصر على عزمه نذهب إلى رانجون، نصوم رمضان هناك. ووصلنا ترسو الباخرة وإذا مضيفنا الحاج داود آتياً يستقبلنا لأن الشيخ قد كتب إليه من قبل، ففي تلك الأيام الخالية، أي قبل 56 عاماً كان البريد سريعاً في إمبراطورية الهند، هل هو التنظيم من الحاكم؟ أم هو الانتظام من المحكومين؟
ونزلنا ضيفين في ((بنقلة)) أي فيلا أو هي شاليه، نسكنها لوحدنا، وطباخنا فيها، كل شيء كامل، وأكمل ما في ذلك بشاشة المضيف، فنحن من شعب ((لاقيني ولا تغديني)). وانتهى ((الدال)) و ((الشباتي)) ولكنا غرقنا في القرنبيط ((الزهرة)) فلأول مرة رأيت القرنبيط، فما كنا نعرفه في المدينة، كأنما الكرنب أغنانا عنه، غير أن الكرنب في المدينة أوراق، ليس هو اللفاف أو الملفوف كما هو الآن. وقلت لرفيقي: ((نحن على نهر الإيروادي وعلى ساحل المحيط، فلنطلب السمك.. كل يوم دجاج، فصعب أن نصبر على طعام واحد)). وجاء السمك ليرجع العدس، فقد اشتهينا الرز بالعدس، وجالب الشهوة هو السمك، ودخلت المطبخ لأصلح الرز والعدس، فطباخنا لا يعرف طبخه، ومن حسن المصادفة أن كانت السماء غائمة فأمطرت هتوناً، وبينما نحن نأكل الرز والعدس والسمك تذكرنا المهاريس، فأكثر من مهراس تقع في وسط جبل أُحد، نخرج إليها، نأكل الرز والعدس نطبخه بماء المطر وقد امتلأت به المهاريس، يحيطنا أحد بظل ظليل والماء في المهراس نظيف نظيف. شبم لأنه ذوب البرد. ولا يفوتني أن أضع معلومة عن المهاريس فالكثيرون من أهل الأمصار العرب لا يعرفون المهراس والقتيل الذي قتل بجانبه، فإذا ما قرأوا هذين البيتين لمولى بني العباس سديف شاعر ثورتهم القاتل لبني أمية بسيف الكلمة قبل سيف الزند، فقد أنشد أمام السفاح، وما أكثر ما أنشد يحرض على بني أمية قال:
اذكروا مصرع الحسين وزيداً
وقتيلاً بجانب المهراس
والإِمام الذي بحرّان أمسى
رهن قبرٍ في غربةٍ وتناسي
فالحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وزيد هو ابن علي زين العابدين إمام الزيدية صلبه هشام بن عبد الملك، والقتيل بجانب المهراس هو عم بني العباس شهيد أحد، حمزة بن عبد المطلب، وكثير لا يعرفون المهراس وهذا القتيل. أما الإِمام بحران فهو الإِمام إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس صاحب البيعة، فلو عاش لكان قبل السفاح، فهو أخوه وأخو المنصور.
وهلَّ رمضان فجزعت أن أصوم في غير بلدي، وها أنا قد جاوزت الثمانين لم أصم شهر رمضان في غير مدينتي إلا مرات ثلاثاً. في رانجون، في الخرج، في مصر:
وأخذ الشيخ محمود يصلي التراويح، يختم القرآن في ست ليالٍ، فلو هذا الرجل حبس لسانه لصان إنسانه!
وهلّ العيد، وفي اليوم الثالث من شهر شوال، وقد أدينا صلاة الفجر في المسجد حتى إذا سلم يتوسد الأرض عملاً بسنّة يرتاح لها ابن حزم رحمه الله، ولما جلس أقبل هندي يقول: ((أنا كنت وراءكم من دلهي، أصل بلداً أجدكم خرجتم، والآن وصلت فوجدتكم)) فقال الشيخ: ((أهلاً وسهلاً)). وتكلم هذا الهندي من أهل الحديث طالب علم يقول: حين صليت بنا في دلهي قرأت - ولا الضالين - فأخطأت هي - ولا الظالين - خفف الضاد وما ثقلت الظاء فكأنها حرف جديد، فإذا الشيخ محمود يغضب، يرفع رجله يضربه في صدره، يقول ((ترتكب هذه الحماقة من أجل هذه الحماقة، تريد أن تعلمني لغتي؟)) وحزنت لإهانة طالب علم، أسرعت أسترضيه ولكن محمود شويل هو هكذا.
وفي اليوم السادس من شوال رحلنا إلى كلكتا وإلى بومباي وإلى جدة، ومن الذكريات في رانجون أنا أكلنا برتقالاً أسترالياً وعلى المائدة نفسها عنب إسبانيا، فاكهة الشتاء في جنوب خط الاستواء وفاكهة الصيف في شمال خط الاستواء.
وأغرب من ذلك أننا نقرأ جريدة البلاد السعودية ونحن في رانجون في اليوم الذي يقرؤها أهل المدينة، لأنها تطبع بعد أن يسافر البريد، فلا ترسل إلا بعد أسبوع، بينما هي تصل إلى الشرق الأقصى في اليوم نفسه.
مُلحة
وفي رانجون، وليست من الهند إنما هي من بورما استعمرها الإِنجليز فاتسعت الهجرة لتجار الهند مسلمين وغير مسلمين ويظهر أن الطائرات كوسيلة للسفر ما زالت حديثة في بورما، فأرادوا الإِعلان عنها والترغيب في ركوبها يدعون سكان رانجون إلى المطار يركبون الطائرة بأجرة قد لا تبلغ عشر روبيات تدور الطائرة بهم حول المدينة في بضع دقائق يشاهدون معالمها وتفضل مضيفنا نركب السيارة وهو يسوقها حتى وصلنا المطار وجموع من البورمانيين الشباب هم الكثرة والتفتنا لنرى شاباً في ميعة الصبا يلبس بنطلوناً أبيض وقميصاً أخضر من الحرير نقشت عليه نقط سوداء زادت القميص جمالاً فهكذا التنافر.. البياض والخضرة والسواد تكاملت لتكون الجمال.. فقد اختلطت هذه الألوان تبرز بلون واحد كان يحمل آلة التصوير ونزل الركاب من الطائرة فإذا فتاة تلبس ثوباً أخضر كأنه من قماش.. فستان الفتاة وقميص الفتى بل اللون واحد والجمال واحد.. أخذ صورتها لعلّه أخوها وكأنه توأمها أغلب الظن، إنها مسلمة وإنها هندية فليس عليها سحنة المغول البورمانيين ولا على جبهتها النقطة الحمراء شعار الهندوكية.
ورجعنا إلى بيتنا نصلي المغرب نتناول العشاء نصلي العشاء يصلي الشيخ محمود راتبه حتى إذا أوتر اضجع على سريره يتحدث وأسمع نضحك ليسمع وكان كل الكلام عن الجميلة والجمال، وغرقنا في الضحك، نضحك على أنفسنا من بؤس الحرمان أصبح في لحظة وجوداً فلما انقضت اللحظة أصبح الوجود عدماً ولقد خفت من كثرة الضحك أن نصاب بالهستيريا قلت للشيخ كفى أخشى أن نجن دعنا في جنة الذكرى لئلا نصاب بجنون الحرمان.
البورمانيون بوذيون تمثال بوذا من الذهب والقبة من الذهب ولكن الإِنسان قد ذهبت به ضلالة الوثنية.
ـ بومباي:
ورجعنا عبر كلكتا نركب القطار ليلة ونهاراً ونحن في سجن العربة وصلنا إلى بومباي ونزلنا في بيت شرف الدين أخوال الدكتور عبد الله نصيف هم من أهل الحديث وفي اليوم الثاني ذهبوا بنا نشاهد ((السيرك)) اسمه ((سيرك هوفمان)) جرمانياً ازدحم المكان.. الأسود والنمور.. والثعابين.. وحوش استؤنست لعبة الإِنسان بالحيوان لم يستهولني لعبة الإِنسان بالأسد وإنما الذي استهول ثلاثة من كلاب البحر كل واحد وقف في مكان قذفوا بينهم الكرة يلتقطها كلب.. يقذفها إلى فوق يلتقطها ثالث لم تسقط إلى الأرض عجبت من هذا المنظر ولكن ما أسرع أن تركته لأني رأيت بنتاً فارسية من الفارسيين الذين لجأوا إلى الهند يوم مزق الإِسلام ملك كسرى وما زالوا على مذهبهم المانوي لم يبهرني جمالها ولا الساري المذهب تلبسه وإنما الشبه وكأنها المحترقة المؤتلفة بنت العقيق جسدت هذه البنت صورة تلك البنت فما لي ومال كلاب البحر فأخذت أنظر إلى تلك الريم.
ريم رمتني بسهمي لحظها وفرت
درع اصطباري فأشواقي لها وُفرَت
وكتمت أنفاسي حين عدت إلى البيت أختم الصدر على نفسي فلا أبوح خشية أن أنوح.
وأردنا السفر ولم نجد مكاناً في الباخرة، لأن شوال شهر حج وإن لم يكن من الأشهر الحرم ولم نجد الحاج محمد علي زينل مؤسس الفلاح فلجأنا إلى الشيخ عبد الرحمن القصيبي والد الدكتور غازي القصيبي فاستقبلنا هاشاً باشاً يتلفن إلى الشركة يبعث رسولاً يأتينا بتذكرة الركوب.. واتصلت به فكلما وصل المدينة أزوره يتفضل بزيارتي أتحدث إليه يحدثني وكان ينزل في باب المجيدي حيث كنت أسكن أخيراً فقد اشترى البيت الأبيض أمام البيت الكبير للسيد عبد الجليل مدني فهذا البيت الأبيض كان ملكاً للطبيب التركي أمين أفندي باعه الورثة لعبد الرحمن القصيبي.
جدة
وصلت جدة ونزلت من الباخرة أفرح باثنين بهذا الإفريقي الأسود لم أره في الهند كأنه علامة من علامات بلدي كما فرحت بحمار النهق لأنه من العلامات أما رائحة السمك فقد شبعنا منه في رانجون ولا تتنكروا للحمار فقد كان ياما كان مركب الكثيرين من حيث لا سيارات ولا بسكليتات ولئن وجد البوسكليت آلة ركوب فآباؤنا في المدينة يمنعوننا منه لأنه ((حصان إبليس)). وما دروا أنا سنركب صنع الأبالسة.. أبالسة العلم والصناعة وكان يا ما كان.
المدينة
وصلت المدينة فرحاً لم أجد وظيفة معلم الصبيان في المدرسة لأن الإِجازة طالت كانت تلك نعمة لأني وجدتني معلم صبيان في دار الأيتام. ويجب ألا أنسى أني رجعت أحمل ثروة - 3500 روبية - كما كان يحملها محمود شويل. وكان يحمل قطعة قماش كشميري من النوع الممتاز لم يلبسه وإنما أهداه لصديقنا السيد عثمان حافظ، أما أنا فرجعت بسارٍ وردي أهديته لمن تستأهله.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1035  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 711 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور زاهي حواس

وزير الآثار المصري الأسبق الذي ألف 741 مقالة علمية باللغات المختلفة عن الآثار المصرية بالإضافة إلى تأليف ثلاثين كتاباً عن آثار مصر واكتشافاته الأثرية بالعديد من اللغات.