شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
طيبة.. رحلة في الزمان والمكان (27)
وألقيت أنا.. ((كلمة الشعب))
والذكريات ليست إلا جغرفة للأرض، أرض المدينة كما أنها مشاهد تاريخية، ليس منها أن تكون مذكرات شخصية، فلن أقحم نفسي متحدثاً عن شخصي وإنما هو الحديث عن المدينة المنورة في عهد الدولة العثمانية العهد الحميدي والعهد الرشادي ثم عهد الأشراف ثم العهد لهذا الكيان الكبير المملكة العربية السعودية، فالذكريات تاريخ من التاريخ عن الأحوال والاتصال والانفصال والرجال وكيف ابتليت بمن حولها وكيف طاب لبعض أهلها أن يعيشوا الفصام بلا خصام ما أشد قربهم لبعض حين لا تكون المادة جراية أو صدقة وما أقوى فصامه حين تكون المادة أحباباً يتقاربون وبالعنعنات كثيراً ما يتباعدون.. أكتب هذه الذكريات فيها (( الأنا )) وإنما كلها الـ (( نحن )) .
الإِساءة إحسان.. عانقه الحال.. وسار بها المآل
وما كنت أحب، أن أكتب الأنا، ولكن الذكريات وقد اقتربت من النهاية فمن الإِحسان بها ينبغي أن يكون إحساناً عليها أو فيها. كنت شاباً أحمل لقب الأستاذ تجاوزاً عن معنى اللقب الأكاديمي فما كنت إلا معلم صبيان، فالتلامذة أطلقوا عليّ هذا اللقب، أما أشياخنا فهم يتحببون إليّ ينادون: تعال يا واد، فما زلت الصغير بينهم وإن كنت الكبير معهم، والكبير في زمالة المعلم مع المعلم، كتب عليّ أن أكون مؤدياً أحسن الداء حين كنت قارئاً في درس المسجد يؤدبني أستاذي السيد محمد صقر إذا ما لحنت صرفاً أو نحواً فاستقام الأداء جهيراً ولا بأس بالصوت فهو غير حسير وغير محصور، كأنما المران على الإلقاء خطيباً في الحفلات المدرسية أو في تكريم رجال زاروا المدينة المنورة، وألقيت الكلمة أرتجلها أمام بعثة الجامعة والأزهر، وألقيت الكلمة في تكريم الدكتور محمد حسين هيكل في حفل أقمناه في بستان العمرانية، كما ألقيت خطاباً في حفل تكريم طلعت باشا حرب، أقمناه في العمرانية أيضاً، وكذلك في تكريم الدكتور محمد خاشقجي، مرة حين احتفلنا به وأخرى حين احتفلنا به بقية الناس السيد عبيد مدني، فما زلت فرحاً باختياره لي، ففي ليلة الحفل كان سفره إلى مكة عضواً في وفد المدينة في استقبال جلالة الملك عبد العزيز يصل إلى مكة من الرياض كما جرت العادة، كلفني السيد أن أنوب عنه في إلقاء كلمة تكريماً للدكتور وفي إدارة الحفل، فالسيد عبيد يرحمه الله كان محوطاً بصحاب بيني وبينهم جفوة اصطنعوها، أما هو فكان أكبر من أن ينقاد إلى ما هم عليه.
فالخطابة وضعتني في موضع التقدير من رجال شيباً وشباناً، أعجبهم أخوهم.. أعجبهم شاب منهم، فلئن كنت عند بعض الكهول المجاور فإني عند كل النابهين والكثرة من المدنيين ابن المدينة حال انتهى إلى زوال عشناه كربنا به أول الأمر، وإذا هو اليوم ما كان إلا المعز، لأن الاغتراب عن المدينة متعني بحب الذين مارسوا الجفاء ليكونوا بعد أهل الصفاء، ومن الجفاء تريد يبخل عليك بأن يرتفع لك شأن، وشيخ عجز أن يكون وحزن ألا يكون له ابن (كماك) يعني مثلك، والقصة هي، فقد قدم إلى المدينة رئيس بلدية العاصمة المقدسة مكة المكرمة الشيخ عباس قطان، ونزل في بيت السيد أحمد أسعد المستعرض جنوباً إلى العينية وشمالاً إلى سقيفة الأمير مدخل الساحة من المناخة، كما زقاق الطول، ولم أكن أدري عنه وتأخرت في البيت عن الخروج بعد المغرب فإذا الأصدقاء وهم أهل صدق لا أهل تسلية.. عبد العزيز بري وحلمي دقاق يصلاني إلى البيت في النورية على العدوة اليمنى من سيل (أبو جيدة) سيل بطحان وعلى مدخل البرابيخ، نادوا عليّ (تعال قوام عباس قطان يبغاك) ونزلت أتقمش ألبس مشلح أبو شهر قيمته ستة جنيهات ذهباً، وذهبت بعد العشاء إلى الشيخ عباس قطان، قال: طالب توفيق وحسن موسى وعبد العزيز بري قالوا لي أحسن من يلقي خطاب الملك عبد العزيز (الزيدان) وأرسلت البرنامج إلى مطبعة عثمان حافظ، ولا أدري من أخبر بعض أعيان المدينة الكبار بما جاء في البرنامج، وصلوا إليه اعترضوا عليك، وطلبوا أن يلقي خطاب الملك الشيخ حسين جباد، وافقتهم، لكن أشار عبد العزيز بري وهو من أعيان المدينة العريقين فيها وطالب توفيق وحسن موسى أن يلقي الخطاب عميد المعارف السيد أحمد صقر فهو موظف كبير وأستاذ الإلقاء والأداء في المدارس، أما الزيدان فلازم يلقي كلمة شاكراً الملك عبد العزيز باسم أهل المدينة، هيه قوم واكتب الخطاب، قلت: صباحاً آتيك بالخطاب، فقال الشيخ عباس: اصبر يا أخ طيب أنت ما قريت الخطاب هو لا يفتح إلا في الحفلة، قلت ما عليك سأكتب الخطاب وأرجو أن يعجبك، وكان اختيار السيد أحمد صقر زاد الطين بلة واختياري أتكلم باسم الشعب زاد الطين بلة أكثر، وذهبت إلى الدورية في بيت السيد مصطفى عطار على مدخل الحمام من أملاك الترجمان يرحم الله الجميع.
وفي الصباح اشتريت نصف شريكة (سحيرة) بهللتين وبهللتين طعمية (مقلية)، وأفطرت في دار الأيتام وشربت الشاي وكتبت الخطاب وذهبت للشيخ عباس قطان، قرأت الخطاب ولعلّه قد نشر في جريدة المدينة، قرأته عليه فأعجبه، قال: طيب إنت ما شفت الكتاب كيف كتبت هذا فقلت له: - الملك عبد العزيز - تغمده الله برحمته - ألقى الكلمة في جدة والكلمة في عشيرة أمام المودعين ونشرت الكلمتان في جريدة أم القرى فتأكد لدي أن خطاب جلالته هو مثل كلمته في جدة وكلمته في عشيرة، فقال الشيخ عباس.. براوه.. براوه.. ليش اعترضوا عليك؟ قلت له: لأني مجاور ماني أهالي، كما السيد حسين صقر كما حسين جباد، لكنه حال أرجو أن يزول، وطويت الخطاب أضعه في جيبي فإذا الذين اعترضوا على قراءة خطاب الملك يصلون سلمت عليهم فردوا السلام لأنهم من الأخيار يردون التحية بأحسن منها.
وعلمت بعد أنهم قالوا: ما رضينا يقرى خطاب الملك فاخترته يقرأ خطاب الشعب، فقال الشيخ عباس أنا الآن أمثل إِمارة المدينة، أستقبل وكيل أميرها الجديد الأمير عبد الله السعد السديري، وقد تسلمت هذه العهدة من وكيل الإِمارة السابق الشيخ عبد العزيز بن إبراهيم، فلا تعارضوا ما أمرت به، وأعد الحفل في محطة السكة الحديد ليسمع أهل المدينة خطاب الملك وخطاب الشعب وانهالت عليّ أوراق فيها سباب وتهديد من شباب أكلت معهم (عيش وملح) ولكني لم أسأل وتم الحفل، قارئ القرآن صادق مرشد، مجاور، الذي ألقى خطاب الملك الأستاذ السيد أحمد صقر.. مجاور وكاتبها كذكريات تقرؤونها الآن مجاور.
وسلطوا عليّ أغيلمة صغاراً، كلما مشيت في طريق يرفعون أصواتهم كأنهم لا يعنوني يقولون (إذا غاب حمارك اركب صعيدي) (الله يا دنيا رديتي الصعيدي بعد الكباية لبس العباية) وأضحك فالكلاب تنبح والقافلة تسير، وكان زعيم هؤلاء الأطفال تلميذي في المدرسة اسمه أحمد بخاري قست عليه الدنيا بعد رخائها فإذا هو شرس لو جلد مائة جلدة لما سالت منه دمعة، عطفت عليه ترصدته في فسحة الغداء، ناديته يا أحمد ليش ما تغديت، قال: ما عندي شيء، أخذته من يده استعصى قليلاً لكن ضربة القسوة أشد عليه من ضربة العصا فدمعت عيناه.. سار معي قلت للحاج سعيد القهوجي في قاعة الطعام.. (يا سعيد كل يوم يتغدى أحمد براد شاهي وشريكة وجبنة على حسابي) ورضي أحمد، وانتهى السباب فقد أصبح أحمد زعيم عصابة تدافع عني.
والسؤال لماذا أحمد بخاري هكذا فقيراً شرساً يضيق بالحياة، إنه من أهل مكة كان أبوه ملك ثلاثة أرباع مليون جنيه مسكوفي - نسبة إلى موسكو - فأمسى وأصبح وإذا مبلغ سبعمائة وخمسين ألف جنيه لا تساوي ريالاً واحداً، لأن القيصر قد سقط، فالأب مات قهراً بأزمة قلبية وبقي الطفل والأم حتى الماء كان أحمد يأخذ السطل ينزل إلى أسفل المصافي يأتي بالماء لأمه. وكبر أحمد وإذا هو صديق ساعدته فتعين مدير مال في وزارة المالية ثم اختلف مع إبراهيم إسلام وعينه إبراهيم شاكر يرحمه الله موظفاً في الشركة وذهبت الأيام وذهب أحمد بخاري ولا أدري عنه.. قلت له إبراهيم إسلام له فضل عليك هو عينك موظفاً، فقال كلمة: لا أرضاها من أجل هذا الفضل أنا أشتمه ليه هو اليد العليا وأنا اليد السفلى أشعر بالإِهانة إن شكرته وأشعر بالعزة إن كفرته.
بقي أن نسأل من علم الأعيان ببرنامج الحفل الذي كان أمانة في المطبعة كان المتهم قد عرفته ولكني نسيت الإِساءة التي فضت بهذا الإحسان الذي ورد فما من إساءة وجهت إليّ إلا وجلبت إليّ إحساناً لهذا أشكر الذين أساءوا لأنهم أحسنوا وأشكر الذين أحسنوا لأنهم لم يسيئوا.
ولا أنسى شيخين كل منهما ناداني بعد إلقاء الخطاب حين أعجبتهم كلمتي وأنا أصعد المنبر.
(أيها الناس سمعتم كلمة الملك فاسمعوا كلمة الشعب ولا يتحركن منكم أحد) ولم يتحرك منهم أحد، الشيخان هم أبو بكر داغستاني القاضي العالم ابن البيت المعرق والشيخ أبو الحسن سمان من أهل العراقة أيضاً. أبو بكرداغستاني أمسكني من أذني يقول: أحسنت يا واد والشيخ السمان: براوه عليك يواد، وفرحت لكلمة يا واد لقباً أعتز به إذا انطلق به لسان أمثال هؤلاء والمعايرة للصعيدي هي كالمعايرة للكردي في العراق وكما يسمى الحمار في عمان يسمونه المصري وأشكال من هذه المعايرة انتهت الآن حين قتل الخصام ومات الفصام.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1175  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 707 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور محمد خير البقاعي

رفد المكتبة العربية بخمسة عشر مؤلفاً في النقد والفكر والترجمة.