شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
طيبة.. رحلة في الزمان والمكان (25)
كل الصناعة أصبحت ((مضاعة)) بهذا الاستيراد!
والذكريات ليست إلا جغرفة للأرض، أرض المدينة كما أنها مشاهد تاريخية، ليس منها أن تكون مذكرات شخصية، فلن أقحم نفسي متحدثاً عن شخصي وإنما هو الحديث عن المدينة المنورة في عهد الدولة العثمانية العهد الحميدي والعهد الرشادي ثم عهد الأشراف ثم العهد لهذا الكيان الكبير المملكة العربية السعودية، فالذكريات تاريخ من التاريخ عن الأحوال والاتصال والانفصال والرجال وكيف ابتليت بمن حولها وكيف طاب لبعض أهلها أن يعيشوا الفصام بلا خصام ما أشد قربهم لبعض حين لا تكون المادة جراية أو صدقة وما أقوى فصامه حين تكون المادة أحباباً يتقاربون وبالعنعنات كثيراً ما يتباعدون.. أكتب هذه الذكريات فيها (( الأنا )) وإنما كلها الـ (( نحن )) .
أهل المدينة اكتفوا ذاتياً بحرفهم اليدوية
في أول أيام الكيان الكبير
أعيد فتح دار العلوم الشرعية
ـ وأرجو أن لا يضيق القارئ إذا أطيل عليه الكلام عن المدارس ولعلّي أشرح الذكرى عن المدرستين دار العلوم الشرعية التي ما كنت فيها ولا بها ولكني لها رغم انتسابي إلى الذين أعاقوها حين أغلقوها أما دار الأيتام فقد كنت فيها بها ولها.
دار العلوم الشرعية فتحها القيّم على أمرها والناهض بها السيد أحمد الفيظباوي الدوباندي. أول ما فتحت في آخر أيام الأشراف في أوائل الأربعينيات الهجرية. ما انتسب لها حين ذاك إلا قلة فإنها لم تعد إلا ناشئة ما أعرفها بعد الذين عرفوها حين أعيد فتحها لم تكد تفتح أبوابها حتى أغلقت والذي أغلقها معتمد المعارف حين ذاك الشيخ عبد القادر الشلبي الطرابلسي لأنها في نظره وبحكم الخلاف المذهبي أمر بإغلاقها لأنها ((وهابية)) فالشلبي حنفي المذهب وعلماء ((ريوبند)) المدرسة الكبرى في الهند أحناف كذلك وإن كانوا أهل حديث غير أنهم ابتعدوا عن الحشوية كأنهم الوسط بين أهل الحديث السلفيين وبين الأحناف الآخرين الذين أفرطوا في كثير من الأمر فخليل أحمد وحسين أحمد ((وكفاية الله)) وحتى ((أبي الكلام أفراد)) لم يكونوا من أهل الإِفراط ولا من أهل التفريط هم أقرب ما يكونون إلى السلفية وحين أغلقت دار العلوم الشرعية كربت وما زلت تلميذاً لأني استكبرت ألا يحترم شيخ الشيوخ خليل أحمد صاحب بذل المجهود الشرح على أبي داود. جاء إلى المدينة يتبرك بالمسجد النبوي ليكمل بذل المجهود نزل إلى عراق المحدثين ينمون مؤلفاتهم في المسجد النبوي فمحمد بن إسماعيل البخاري كتب كثيراً من أحاديث الصحيح في المسجد النبوي وإمام دار الهجرة مالك بن أنس وهو ابن المدينة كتب موطأه في المسجد النبوي لا أدري كيف لم نستح من صاحب بذل المجهود ولكنه الصبر على إغلاق المدرسة فقد أكمل خليل أحمد مؤلفه، ومن أول يوم من أيام هذا الكيان الكبير المملكة العربية السعودية أعيد فتح دار العلوم الشرعية فلئن كنت أتتلمذ على يد من أغلقها فإني أصبحت أستاذاً لا أجفوها فقد أقامت حفلاً في عام ٤٨هـ دعي إليه الأستاذ عبد الوهاب آشي وكان في المدينة في بيته بيت الصداقة له بيت الأستاذ ضياء الدين رجب لأن الآشي كما قلت بيت في مكة وبيت عمر الكردي القاضي والشاعر والعريق من أهل المدينة كما أن بيت الكردي وبيت ابن أخته ضياء الدين رجب هو بيت الآشي فهناك ظاهرة محمودة فبيت الحلواني في المدينة هو وبيت شطا من مكة وبيت شطا هو بيت الحلواني كما أن بيت السيد علي حبشي هو بيت حامد عبد المنان وعبد الحميد قدس ومن إليهما علاقة الأسرة بالأسرة ورباط العلية بالعلية ولقد كنت عند عبد الوهاب آشي فقد التزمت به لا أكاد أفارقه فإذا هو يتلقى الدعوة من دار العلوم الشرعية لحضور الاحتفال قلت له ((ما وصلتني دعوة)) وهذا مبعث مسرة لي لأني سأذهب طفيلياً أثبت لدار العلوم الشرعية أني لها ولم أكن عليها وذهبت وتلكم الخطباء وقمت طفيلياً أرتجل الكلمة تحية للمدرسة. وتأخرت عن وظيفتي في المدرسة الأميرية، حيث كنت أستاذاً فإذا بأستاذي السيد أحمد صقر يجبهني كمدير للمدرسة لماذا تأخرت قلت في حفل دار العلوم الشرعية. قال لماذا لم تستأذن؟ وقسا يلومني فقلت له اسمع مع احترامي لك فإن مدرسة فيها مائة تلميذ وتلميذ أحتفل بها أكثر من مدرسة فيها مائة تلميذ يكفي أن جعنا كثيراً أنت تأتي متأخراً كل يوم لهذا جدولت دروسك بعد الظهر وتتأخر وآتي قبلك فإذا هو يهدأ ويقول عجيب ((يا واد.. هو إنت كده)) قلت نعم. ((وما أزال كده)) وامتلأت دار العلوم الشرعية بطلابها وتخرج منها وأحسنت إلى رجال من العلماء محمد الطيب الأنصاري والشيخ الأمين أستاذ محمد عمر توفيق ومحمد عبد القادر الكيلاني صديقي وأستاذي الأيام قاسية فلو لم يجد الطرابلسي والكيلاني هذه الرعاية لأتعبتهم وسيلة العيش.
دار الأيتام
وسافرت إلى الهند وطالت الرحلة فانتهى شهر الإِجازة فحلّ محلي من وكلت الأستاذ عبد الكريم شريف يرحمه الله غبت في الهند ستة أشهر وستأتي ذكرياتها بعد.. وحين رجعت لم أجد وظيفتي غير أني لم أبق يوماً أو يومين حتى أصبحت أستاذاً في دار الأيتام فكانت انطلاقة شهرت بها من خلال الدفاع عن دار الأيتام والخصام من أجلها والتثبيت لوجودها ساهمت في ذلك فكانت مبعث خير حافزاً للطموح فالرجال تصهرهم الخصومة حين ينتصرون في معركة ولم تكن تلك إلا معركة الخير مع الشر، معركة المدرسة مع الذين يحاربون المدارس كنت الشيء في دار الأيتام بل كنت بعض مشيئتها أسسها الحاج عبد الغني دادا من مسلمي الهند من الميمن وكم للميمن ومن مسلمي الهند إخوانهم من يد للحرمين فتح وعون لمدرسة الفلاح في مكة، والصولتية في مكة وعين زبيدة فتبرعات مسلمي الهند هؤلاء أنقذت وأعانت وفي المدينة دار العلوم الشرعية ودار الأيتام والعين الزرقاء والإحسان على الفقراء كل ذلك من عطاء مسلمي الهند.
كان هناك رجال من أهل المدينة حرباً على دار الأيتام وكنت الحرب عليهم كانوا يقولون ((إيش دار الأيتام ما فيها إلا بدو وتكارنة)) وأثور على كلمة ((بدو)) وأنتصف لكلمة تكارنة ينطلق لساني في كل مجلس وأخطب في كل حفل وقد زار دار الأيتام الوزير خادم الملك عبد العزيز عبد الله ابن سليمان ومعه طلعت حرب مؤسس بنك مصر الصديق للملك عبد العزيز برغم جفوة القصر في مصر وحين جلس الوزير وضيفه ارتجلت الكلمة أقول، يقولون دار الأيتام ليس فيها إلا البدو والتكارنة، إن البدوي هو ابنها هو الجندي هو الفلاح، هو المساهم في كثير من الاكتفاء الذاتي سمناً وجبناً وتمراً وبطيخاً ولا خير فينا إذا لم ننهض بهذا البدوي وتكلم طلعت حرب يقول لابن سليمان ((يا معالي الوزير أهو البدوي اللي تجيبه من الجبل تعلمه في المدرسة يرتفع فيه بناء أمتك)) وأمد ابن سليمان دار الأيتام بشراء بيت أبي عزة الذي تسكنه الدار ليكون ملكاً للدار وأقمنا الحفل السنوي وقد شرف بهؤلاء الثلاثة الحاضرين الشيخ عبد الله بن بليهيد ووكيل إمارة المدينة الشيخ عبد العزيز بن إبراهيم والدكتور محمد حسين هيكل الكاتب المصري الكبير والوزير وألقيت الخطاب أحارب كلمة البدو فإذا عبد الله بن بليهيد لا يصفق وإنما قال أحسنت وحين فرغت من إلقاء الخطاب أقبل علي الشيخ أبو الحسن سلمان يقول ((هو كده يا واد خليك جدع)) لأنه كان يعرف معنى البدو أبناء عمه من أهل العوالي حضراً مع البدو وبدواً مع الحضر جيد سلمان ومن إليه وسافر مدير الأيتام حسني العلي الضابط المقدسي صديق أمين الحسيني فقد رأيت الحسيني لا يغيب يوماً حين جاء إلى المدينة عن زميله في الدراسة حسني علي كان ضابطاً في جيش فخري، ومديراً لشرطة المدينة ومديراً لشرطة جدة معزولاً عنها لموقف لم يرض عنه ولي الأمر لم يكن خوفاً ولا جريمة وإنما كان تصرفاً مع سفير أجنبي سافر حسني بك إلى مكة فكنت نائبه وقد أودع عند المراقب عثمان قاري خمسة مجلدات لجمع التبرعات ختمها بتوقيعه على كل ورقة وكانت دار الأيتام مدينة باثني عشر ألف ريال لمؤسسها عبد الغني دادا وحين أقمت حفلاً لبعثة الجامعة والأزهر وكان يرأس بعثة الجامعة الدكتور أحمد أمين ويرأس بعثة الأزهر الشيخ علي محفوظ كان هذا الحفل أشبه بالدعاية لدار الأيتام فانهالت التبرعات وانتهت المجلدات الخمسة فتعاملت مع مجلدات أخرى بتوكيله فجمعت لدار الأيتام مبلغ ثمانية وعشرين ألف ريال أقسم بفالق الحب والنوى شديد العقاب أني لم أسرق ريالاً واحداً مع أني كنت في حاجة فقد كان راتبي خمسة وثلاثين ريالاً وأقسم مرة ثانية إن بيتي لم يدخله رغيف من دار الأيتام أدفع قيمة الحذاء والحقيبة وكل ما يشترى من مصنوعات الدار لقد بعت بعض ما أملك لسد الحاجة وما كان لي أن أسد حاجتي بمال اليتيم وجاء حسني بك فإذا هو لا يصدق ما جمعت وسأل الرقيب فإذا هو يصدقه القول الأستاذ زيدان جمع هذا المال لم يأخذ منه شيئاً ولكن خادم عبد الغني دادا فهمي الحلاق الهندي ابن المدينة قال لحسني بك خذ مفتاح الصندوق من زيدان فقال حسني أسكت في الصندوق 28 ألف ريال مفتاح الصندوق سيبقى مع زيدان ودخلت وقد سمعت ذكره لاسمي. أقول خذ مفتاح الصندوق ما يعرف الحرامي إلا الحرامي قال فهمي ((أنا حرامي)) قلت لا أدري وإنما أنا لست حرامي.
وكان احتفالي ببعثة الجامعة والأزهر قد جر عليّ بعض الظنون فإذا سؤال من جلالة الملك عبد العزيز يستوضح الأمر فأجبت بكل الوضوح عن معنى الاحتفال بهؤلاء فإذا أمر جلالته تغمده الله برحمته ليضم دار الأيتام في المدينة إلى دار الأيتام في مكة تحت سلطان مهدي بك ورشحني حسن موسى صديق الوالد سكرتيراً لبيت مشايخ الجاوة في مكة فقبلت وسكنت مكة ولم أدر بعدها عن دار الأيتام شيئاً من أمرها أديت واجبي وما ظلمت من أحد وما ظلمت أحداً.
الحِرَف
والحِرَف في المدينة المنورة أعطت الاكتفاء الذاتي النجار والقطان والخياط والحلاق والخراز والكندرجي والطباخ وما إلى ذلك فالنجار في المدينة المنورة قام بالعبء الكبير وهو حمل عبء الاتساع في التعمير النوافذ الرواشين السقوف القباقيب الصناديق كل ذلك يصنعه النجار لا نستورد من خارج البلد فما أحلى الرواشين وما أبهى النوافذ وما أقوى الأبواب عرفنا من شيوخ التجارة السحلول والثانية.. حتى صناديق العيد على زينتها وقوتها يصنعها التجار صالح الثانية لو تصورنا عدد البيوت التي بنيت في المدينة خارج السور وداخل السور وفي باب المجيدي والصدقة والتمار وخيف الأغوات وأرض محبة وأرض القاضية كم أعطاها النجار من كل حاجتها من بناء وهنا مفارقة فقد كنت على علاقة عرفت بها الكثيرين من أهل عنيزة سواء التجار في سوق الشروق أو عقيل ومن إليها.
وما كنا نعرف أن صالح الثانية إلا من المطاليق صلته بالمطاليق السحلول عبد المعين كعكي، حمزة لبان، أبو دربالة، وغيرهم ما نعرف أنه من عنيزة أو أنه أخو سليمان الثانية مدير خفر السواحل في أول عهد هذا الكيان الكبير، كنا نظنه مصرياً لأنه كان طويل القامة أبيض اللون ولكني عرفت ذلك في سيارة وأنا مسافر إلى الخرج وقد رافقني في السيارة بأمر رئيسي وصديقي سليمان الحمد خاله سليمان الثانية فإذا هذا الشاب يذكر اسمه ولقبه الثانية قلت من أبوك أنت ولد سليمان قال أنا ولد صالح شيخ النجارة في المدينة من هنا عرفت أن هذا النجار من المطاليق كان بعيداً عن أهل القصيم قريباً من المطاليق.
والخياط يخيط الأثواب والجبب والشايات والأكوات وما إليها لا تخاط في الخارج، أما الطباخ ((فوال)) ما أحسن ما يصنع مطبقاتي ما أطيب ما صنع والأنواع الأخرى. لم أذق طعم الكبدة المقلية خارج المدينة لأنها لم تكن من صاج العم رمضان، كبدة ضاني وكبدة جملي نحن في المدينة لا نأكل لحم البقر ولكننا نأكل لحم الجزور لأن البقر لا يذبح إلا إذا تفانى يأكله الكثير من بادية الوطن إذا لم يجدوا الجزور، لحم الجزور الكلكل ما أطيبه مع اللفت وما أطيبه مفروماً يطبخ كباباً وفي جدة وجدت عند الجزار مقوداً كأنه الحدار استطيبت لحمه فأخذت كما ولكي أستره عن البيت لأنهم لا يأكلون كما نأكله نحن عملته مفروماً ولأكثر من يوم أكلوه كباباً حتى انتهى صارحتهم بأنه لحم جمل فقالت الأمهات يوه يا محمد قد كده أنت غشاش، قلت ولكنه كان لذيذاً شبعتم منه فضحكن.
المطبق يصنعه الطباخ المطبقاني ((زردم)) و ((الصنافيري)) وحين يصل أهل مكة يصبح المطبقاني صاحب الموسم لأنه لذيذ أما اليوم فصناع المطبق كثروا والصاج على الغاز يسلق الفطيرة بينما كان بالأمس على رقة الفحم وهكذا كما قالوا ((أهله سيبوه والجن استلقوه)) كل الصناعة أصبحت مضاعة بهذا الاستيراد زنابيل السعف أصبحت أكياس ورق كانت مكاءت الحلوة والسرر من الجريد مستوردة ضاع الجريد وضاع النوى وضاعت الحذاقة فما أحلى الفاقة إذا كانت من صنع يديك والحلوة الأناقة إذا كانت من كيس جيبك ومن الحرف المستملحة صناعة الفخار.. أزيار كبار وأزيار صغار ودوارق، وشراب وبرابيخ للمراحيض.
كما أن الحجر وهو مادة البناء ينحت وينقش وقد عاصرنا نقاش الحجر ابن العم إبراهيم حسون.
كل هذه الصناعات انتهت حتى دبغ الجلود وغزل الشعر.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1409  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 705 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.