شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
طيبة.. رحلة في الزمان والمكان (24)
العلم.. فهم وكتاب ومكتبة
والذكريات ليست إلا جغرفة للأرض، أرض المدينة كما أنها مشاهد تاريخية، ليس منها أن تكون مذكرات شخصية، فلن أقحم نفسي متحدثاً عن شخصي وإنما هو الحديث عن المدينة المنورة في عهد الدولة العثمانية العهد الحميدي والعهد الرشادي ثم عهد الأشراف ثم العهد لهذا الكيان الكبير المملكة العربية السعودية، فالذكريات تاريخ من التاريخ عن الأحوال والاتصال والانفصال والرجال وكيف ابتليت بمن حولها وكيف طاب لبعض أهلها أن يعيشوا الفصام بلا خصام ما أشد قربهم لبعض حين لا تكون المادة جراية أو صدقة وما أقوى فصامه حين تكون المادة أحباباً يتقاربون وبالعنعنات كثيراً ما يتباعدون.. أكتب هذه الذكريات فيها (( الأنا )) وإنما كلها الـ (( نحن )) .
عينت أستاذاً.. بأمر هيئة التفتيش والإِصلاح
هجاني (( سمان )) .. بقصيدة.. فرد عليه أصدقائي باثنتين
براعتي في المناقشة.. جلبت لي الزوجة الثانية
وفتحت المدرسة فإذا هي في مكانها الأول وإذا هي بأساتذتها الأولين، وحين عيّن كامل القصاب الشيخ عبد القادر شلبي معتمداً للمعارف، حيث عاد إلى مكانه من قبل، وتبع ذلك ما جعلنا ننتقل بالمدرسة الخاصة وفيها تلامذة طليعة، إلى المدرسة الأميرية السعودية، ما كان ينبغي أن تكون داخل المدرسة الحكومية مدرسة خاصة، ولكن الشيخ عبد القادر أراد ذلك فإذا مدرستنا الخاصة في القاعة التي في صدر المدرسة، وكنت أنا المشغول بها، وبينما أنا ألقي الجغرافيا على التلامذة، جاء الحاج جميل بواب المدرسة، بل كان أبو المدرسة يناديني ((كلم فوق، فيه هيئة جات.. طلبوك)) وكنت مكشوف الرأس مبتذلاً ((تلميذ مع أصحابي)) فكل تلامذتي حينذاك أصدقائي، وصعدت إلى الصالون، فلولا استقامتي لطردوني.. عاري الرأس لابس الثوب ((زفير)) قماش رخيص الثمن.. سلمت.. وقفت، كانت هيئة التفتيش والإِصلاح، أمر بتشكيلها الملك عبد العزيز، الزمن 1346هـ. ((نسيت اليوم والشهر)) لكن قرار تعييني أستاذاً فيه التوضيح للوقت. هيئة التفتيش والإِصلاح تألفت من هؤلاء الرجال الشيخ حافظ وهبة وكان يتمتع بثقة الملك عبد العزيز.. الشيخ محمد العلي التركي، إبراهيم الصنيع، محمد السليمان التركي ومحمد صالح نصيف، أحمد سبحي، كانت المملكة قد مثلت في هؤلاء جميعاً، غير أن الأكثرية كانت من جدة، فالصنيع والتركي النجديان ومحمد صالح نصيف كلهم من جدة ومن أعيانها، فالنظرة باسم التفريق جنحت إلى أن محمد السليمان التركي لم يكن من أعيان جدة ولا أدري كيف يكون ابن هذا البيت في عنيزة، إذا ما استعرق في جدة ألا يكون من أعيانها.
دعونا من العنعنة التي تمارس الفصام.
وقفت وتكلم الشيخ محمد العلي التركي وكان حفياً بي ((هذا الزيدان من تلامذة الشيخ عبد القادر لماذا لم يتعين أستاذاً إلى الآن.. عينوه أستاذاً.. ضموا المدرسة الخاصة إلى المدرسة الأميرية)) فكل أعضاء الهيئة سامعون ورحب والتفت الشيخ حافظ وهبة.. يقول لي: قف على الخريطة وكانت صماء أين خليج كذا أين مضيق كذا؟ فأديت الإِجابة لأني حفيل بالجغرافيا، حتى إذا استدرت أواجه الهيئة قال الشيخ حافظ، لقد أصبحت أستاذاً في هذه المدرسة، وثقوا أن حكومتكم لا تعين في أي عمل أجنبياً ما دام فيكم الكفء، وقال محمد علي التركي: أين محمد سالم، يعني صديقي الوفي محمد سالم الحجيلي، وجاء محمد سالم فقال الشيخ حافظ اجمعوا التلامذة، وتكلم حافظ: إن هذين المحمدين كانوا التلامذة، أصبحوا الأساتذة لكم، من يومها أصبحت أستاذاً، ولكن الشيخ عبد القادر شلبي وبالعنجهية التي تلبسه نسي أني خادمه الأمين على بيته وأهله وعلى المكتبة، فقال ((شو هلولدنه التي أنت فيها)) بلهجته الطرابلسية اللبنانية.. ((غير ثيابك إلبس كويس)) فلم أجفل ولم أخجل فقلت: يا مولانا كل شيء يلبس حتى الغالي والثمين ولكن الأصغرين لا يلبسان فقال محمد علي التركي: هما منحة من الله، رفعت يدي إلى السماء أدعو الله أن يمن بهما علي..
وأصبحت أستاذاً أعلم الجغرافيا والتاريخ والمحفوظات، معداً على صورة أخرى وحسب ترتيب الجدول أن أنوب عن الأستاذ الغائب في إلقاء الدروس التي يدرسها، وكانت ملحة ظريفة، أصيب أستاذنا معلم القرآن والتجويد الشيخ محمد الكتامي، فدخلت درسه وكان التلامذة من الأذكياء وأصبح لهم شأن، حمد وكيع نابغة الرياضة، ياسين طه، كاظم برادة، محمد مدني، وسألوني عن حاشية في كتاب التجويد، جاء فيها: أ.هـ. عيني على البخاري، نسب النص في المتن إلى مصدره فقال التلامذة ((أيش معنى ذلك؟)) قلت: أ.هـ. اختصار لكلمة انتهى، عيني لقب الإِمام العيني أخته زوجة ابن حجر صاحب فتح الباري البخاري يعني الإِمام، فالإِمام العيني شرح البخاري وكان معاصراً لصهره ابن حجر، فقالوا: الأستاذ قال لنا معناه ((آه يا عيني على البخاري)). قلت أستاذنا حافظ القرآن بكل القراءات ولم يعن بغير القرآن وتجويده، فقال ((إيش عرفك)) قلت: من الكتاب.. من القراءة.. أسألوني عن أي شيء تجدوا الجواب، قالوا: عجيب كل سؤال تجيب عنه قلت نعم إذا حضرني الجواب أجبت وإن جهلت الجواب أراجع المكتبة أجد الجواب، فالعلم فهم والعلم كتاب والعلم مكتبة لا تسالوا شخصاً وإنما أسألوا المكتبة، وضمت المدرسة الخاصة إلى المدرسة العامة.
وحكاية أخرى ظريفة، صدر أمر مديرية المعارف في مكة بإضافة أستاذ وكان صديقي محمد سالم الأستاذ في المدرسة والسكرتير الخاص للشيخ عبد القادر شلبي البدوي الحجيلي المروحي السالمي الحربي كان خطاطاً، جميل الخط كما كان الأستاذ عبد القادر شلبي يملك قوة هي أنه ذو خط جميل وقال محمد سالم للشيخ عبد القادر ((ليه مانعين الزيدان في هذه الوظيفة)).. فقال الشيخ عبد القادر يرحمه الله: عيّن زيدان رسول يعني مراسلة يعني آخذ دفتر الغائبين أسأل ولي الأمر عن غياب تلميذه، هكذا وضعني الشيخ وغضب محمد سالم وقال زيدان ((لا يقبل ذلك)) فقال الشيخ: شو هو أحسن من ابن الكماخي فقال محمد سالم زيدان أستاذ متعلم أما غيره فما زال أمياً.
من هنا كان محمد العلي التركي إحساناً قتل الإِساءة، ولعلّي وقد كربت وقبل وصول هيئة التفتيش والإِصلاح رأيت رؤيا صدقت، رأيت أني أدخل المسجد من باب جبريل أجد الحجرة تغسل كما العادة حينذاك، مسنى عطش قوي وكان هناك سبيلان، يعني دوارق في حوض المكلف بالسبيل رجل أبيض طلبت أن أشرب فمنعني ومشيت خطوات إلى سبيل آخر - القيّم عليه رجل أسمر ناولني الدورق - شربت وشربت حتى ارتويت، ثم جدت رؤيا ثانية رديفة إلى هذه الرؤيا، فماذا هناك وتحت البلدية من جهة الشرق حول دكان محمد سعيد عبيد والد الدكتور رضا عبيد وقهوة خليل قصاص المكي، مجلس فيه السيد أحمد صقر والأفندي زين بري، وجاء أستاذنا السيد حسين طه فجلس على كرسي وثير وقال ((أهو هذا الكرسي اللي كان يجلس عليه بعض الأوادم)) وإذا الأفندي زين بري وهو الصديق لأستاذنا السيد أحمد صقر صداقة العلية للعلية العلوي للعلوي - يقول رداً على السيد حسين طه: تعني السيد أحمد صقر؟ فقلت: لا يا أفندي.. لا تداخل بين ابن العم وابن عمه، فالسيدان أحمد صقر وحسين طه أبناء عم. وصحوت ولم يمض يوم حتى شربت الوظيفة من الرجل الأسمر محمد العلي التركي التي لم أشربها من الرجل الأبيض عبد القادر شلبي، وعيّنت الهيئة السيد حسين طه مديراً للأوقاف، وكانت الهيئة قد عيّنت السيد عبد الجليل مدني وهو من أعيان المدينة مديراً للحرم بدل اسمها الأول مدير الخزينة، فالسيد عبد الجليل كان يعرف مديرية الخزينة، تشمل الأوقاف كما كان ذلك في عهد غالب بيك التركي فجلس في كرسي مدير الأوقاف وفي الخزينة التي على الطرف من المسجد النبوي في شماله الشرقي بين كومة حشيفة والطريق إلى باب الرحمة، وجاءت الهيئة فقالت للسيد عبد الجليل أنت مدير الحرم ومدير الأوقاف حسين طه فهم قد فصلوا إدارة الحرم عن إدارة الأوقاف، وأصبح السيد أحمد صقر مدير المدرسة حين خلت من حسين طه، أو نسيت أن الشيخ محمد العلي التركي سأل عن أستاذنا السيد محمد صقر، قال أين محمد صقر أستاذ الجيل نحواً وفقهاً وعقيدة؟
قالوا له لم يعين فقال محمد علي التركي عيّنوه أستاذاً أعيده إلى بيته. وهكذا كان تعيين السيد محمد صقر نعمة على المدرسة وعوناً له.
وتبدأ قصتي مع الشيخ محمد العلي التركي وكيف وقعت، كان ذلك عندما كنت تلميذاً في المرحلة النهائية عام 1342هـ في عهد الأشراف، وكان الوقت بعد العصر قبيل المغرب، وكنت جالساً أستند إلى أسطوانة في رواق باب الرحمة أنتظر الصديق الوفي ((درويش سلامة)) أذاكره في الجغرافية لأنه منح أن يرقى إلى السنة الرابعة بعد الامتحان الخصوصي، هو - يرحمه الله - طلب من مدير المعارف عبد القادر شلبي أن أذاكره وكان في يدي كتاب جغرافيا تأليف ((شيمزد)) الفرنسي ترجمة توفيق البردعي، ومر الشيخ محمد العلي وكأنه قد سمع عني من خلال القصيدة التي هجاني بها الصديق هاشم سمان - لم ينظمها وإنما نظمها له غيره من الذين كانت بيننا وبينهم معارك نحوية، كان مطلع القصيدة..
أيا زيدان عيناك أزعجتني
من الأقذار والنظر الشايمي
أشهرتني هذه القصيدة حتى إن الشيخ محمد سعيد أبو ناصف - مدير البريد - أيام الأشراف في المدينة ومدير البريد في هذا العهد في مدينة الطائف فرض ثمناً لهذه القصيدة مجيدي لمن يأتيه بها، وبينما أنا في دار الضيافة قرب كهرباء المسجد النبوي وكانت القصيدة في جيبي قلت:
((خذ هذه القصيدة وبلاش ريال)) فضحك وأخذها، وهب أصدقائي دكتور حمزة شلبي والأستاذ الشيخ الأمين بن الخضر بن مايأبي الجكني محمد الأمين الشنقيطي الذي أصبح سفيراً لحكومة الأردن في جدة والذي أضحى يعود إلى مدينته يعيش فيها، فكل منهما رد الهجاء بهجاء مقذع لا يجمل لي أن أروي بيتاً منها، وكان السيد عثمان حافظ ثالث هؤلاء فاكتفى بما فعله الشلبي والشنقيطي فلم ينظم شيئاً مع أنه كان يمارس النظم ويعرف أوزان الخليل.
كانت هذه الشهرة هي التي لفتت نظر الشيخ محمد العلي إلي، وقف يسألني فقمت أجيبه قال ما هذا الكتاب الذي في يدك، قلت كتاب جغرافيا قال وفيه عن الكرة الأرضية، قلت نعم، قال ليست الأرض كرة قلت هي كوكب من الكواكب وكلها كروية والأرض مثلها، واتسع الجدل، وكان من الواقفين رجل اسمه ياسين هو ابن عم الشيخ العائش الأستاذ الوحيد لعبد الله القين، وكان جدلاً بسيطاً فيه من تواضع الشيخ ومن طاعة التلميذ وانصرف الشيخ فقد حان أذان المغرب، وكان محمد علي التركي، في تلك الأيام يلبس الغالي - مشلح أبو شهر مقصب وثوب بفته وشال كشميري، وذهب ياسين يبشر أبي بما جرى.. من هنا عرفني الشيخ محمد العلي حتى إن الأمر امتد بيني وبينه أستشيره هل أذهب إلى البعثة مع السيد أحمد العربي والسيد محمد شطا والسيد ولي الدين أسعد، كتبت إليه أستشيره فقال: عندك ما يكفي أنهض بعملك وتزوج سريعاً. ورضيت نصحه.. تزوجت من بنات العزوة ((مريم بنت أحسن أبو الدهب، وكان فراق بيني وبينها، ولدت لي بنتاً حضنتها زوجي أم البنين فاطمة محمد داعوس)) ولكنها ماتت من وباء الحصبة التي هلك منها أطفال كثيرون، ومن المصادفة العجيبة أن هذا الرجل ياسين الحامل جاء إلى أبي يقول له: ((جارنا أبو داعوس عنده بنت تصلح زوجة لمحمد ولدك زوج محمد قوام)) غريبة هذه المصادفة، لكن إعجابه بي يوم كان الجدل بيني وبين محمد العلي جلب لي الزوجة الثانية وهي أم أولادي الآن، وحين ذكرها لي أبي ذكرت السيد ماجد عشقي مدير المدرسة فقد قال لي ((شوف بنت أبو داعوس كل يوم، تأتي إلى المدرسة تصحب أخاه عبد الرحمن طفلاً، تدخله إلى المدرسة ثم تذهب إلى مدرسة خوجه هان. إنها تصلح لك زوجة. فكان ترشيح ماجد عشقي وترشيح ياسين هو موضع الرضا مني أو هو موضع ما قدره الله)).
ومضت أيام عزل الشيخ عبد الله بن حسن، والد وزير التعليم العالي، الشيخ عبد القادر شلبي من مديرية المعارف، بدقة التوقيت فلولا الهوينا من أمر الملك عبد العزيز لعزله الشيخ عبد الله بن بليهيد لأنه تعالى بالإِجابة أو الاستجابة لما كلف به عبد الله بن بليهيد، فما أحبت الحصافة أن تعزله لذلك، حتى حان الوقت وباسم الخلاف على العقيدة السلفية والحشوية تم للشيخ عبد الله بن حسن أن يعزل الشلبي، أمر الشيخ عبد الله أن تدرس عقيدة السلف الواسطية والثلاثة الأصول، بدلاً عن السنوسية والجوهرة للباقلاني والرسالة لمحمد عبده، وكلف الشيخ عبد الله أستاذنا محمد الأنصاري بأن يدرس عقيدة السلف.
وحضر الشيخ محمد الأنصاري ليعرف الجدول واجتمع المدير والأساتذة وكنت بينهم فإذا هم يحرجون الشيخ الأنصاري، يتركون له كل الفصول، وهي أكثر من ثمانية وأكثر من عشرين ساعة ليقوم بالتدريس مع أن ذلك يكلفه الكثير، ولم يعط مكافأة لذلك فهل يترك دروسه في المدرسة ((دار العلوم الشرعية)) والمسجد وله مرتب فيها، وما خطر له أن يكلف أحد تلميذيه الخاصين الشيخ محمد الحركان والأستاذ ضياء الدين رجب لعلّه لو عرضهما لقال الأساتذة هؤلاء تلامذة لا نقبل.
وتحرج الشيخ، فنهضت: ((أقول شيلوا عني الجغرافيا والمحفوظات وأبقوا التاريخ ساعتين الشيخ هو يدرس الواسطية وأنا أدرس الثلاثة الأصول. جزع بعض الأساتذة ولكني لا أبالي، وتم ذلك فإذا الشيخ الطيب الأنصاري يستخلصني بعد أن كان يجفوني والأسباب بعد)).
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1067  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 704 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

المجموعة الكاملة لآثار الأديب السعودي الراحل

[محمد سعيد عبد المقصود خوجه (1324هـ - 1360هـ): 2001]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج