شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
طيبة.. رحلة في الزمان والمكان (23)
النشأة.. من الكتّاب إلى المكتبة
والذكريات ليست إلا جغرفة للأرض، أرض المدينة كما أنها مشاهد تاريخية، ليس منها أن تكون مذكرات شخصية، فلن أقحم نفسي متحدثاً عن شخصي وإنما هو الحديث عن المدينة المنورة في عهد الدولة العثمانية العهد الحميدي والعهد الرشادي ثم عهد الأشراف ثم العهد لهذا الكيان الكبير المملكة العربية السعودية، فالذكريات تاريخ من التاريخ عن الأحوال والاتصال والانفصال والرجال وكيف ابتليت بمن حولها وكيف طاب لبعض أهلها أن يعيشوا الفصام بلا خصام ما أشد قربهم لبعض حين لا تكون المادة جراية أو صدقة وما أقوى فصامه حين تكون المادة أحباباً يتقاربون وبالعنعنات كثيراً ما يتباعدون.. أكتب هذه الذكريات فيها (( الأنا )) وإنما كلها الـ (( نحن )) .
النشأة.. الكتاب.. المدرسة..
المعلم.. التلامذة
ونشأت في المدينة المنورة، ولدت في حوش خميس في أحضان سلع وفي بيت من الشعر، نشأت بدوياً آبداً أستوحش من الناس، وأحظى بعطف الأناس، وكان رد الفعل أسقط هذه العقدة، فإذا بي المؤنس والمؤانس أعيش مع الناس بالناس ولكل الناس، فالطفل أبو الرجل، لكن العقد حين يفضحها الشاب يرفضها هوناً.. بعد هون، حتى إذا اكتمل رجلاً بقي الخير منها وضاع الشر بها، مكثت في بيت الشعر حتى بلغت الثامنة من عمري، كنت أعيش في حضن الجدة، فالأم ماتت.. لم أشعر بفقدها وأنا طفل وإنما كان الشعور بفقدها حنيناً إلى الحنان أنيناً من الوحشة ذلك شأن الشاب يدرج إلى الرجولة يتلفت ليجد الأنيسة.. حبيبة إن وجد وزوجاً وقد وجد! ومالي ولهذا الوجد يتغشاني كأنما الشيخوخة قد أعادتني إلى طفل، حتى أصبحت أرى كل أنثى أماً أختاً بنتاً، أكره أن أرى دمعة على عين أنثى، ولقد مسحت الدموع عن كثير بعاطفة الأبوة وإشفاق العفة.. ورحمة الأخلاق.
وهذه الجدة واسمها (ميثاء) هي من عالية نجد ومن مدينة (الرس)، لم تسكن بيت مدر، فابنها علي بن رميضان الرميح من زوجها الأول في سعة من العيش يسكن في الحوش بيت مدر وابنها محمد بن رجاء بن فضلون له بيت من المدر في الحوش، وأمي كان لها بيت من المدر.. فلماذا أبت إلا أن تسكن بيت شعر؟
حين كانت في الرس لم تكن كذلك، ولكن بيت الشعر كان صالوناً لا يخلو من زائريه، حتى إن قائد فرقة عقيل سيف العوجان يسأل عنها يقرؤها السلام كلما مرّ على البيت، بل وسهرة الليل عندها، يمتلئ مجلسها بأختي سيف العوجان (منيرة وشماء) وبزوجتي حليفنا بادي بن جميعان العمري وهما (وردة وموضى) وغيرهن. كلهن من القصيم، ويأتي محمد بن مطر الموزني يجلس بعيداً يقرأ على بنات العمومة، كانت جدتي إحدى عماته، يقرأ في كتاب لم يبق في ذهني مما سمعت وأنا ابن الرابعة من عمري إلا هذا النص، وقد قرأ ما خلاصته (قدم وفد من مزينة على رسول الله صلَّى الله عليه وسلم يبشرونه بنصر، فقال عليه السلام (كما نحيت بينكم) يعني كما هذا الزعيم فيكم واسمه نحيت، كان معكم) فعلق بذهني هذا الاسم وما زال يطلق على ابن نحيت من ولد حجاب في عالية نجد، لم أجد ذلك في كتاب، بدافع المصادفة لا بوازع البحث، فالذين أعرفهم من مزينة من أعيان الصحابة ومن أبطال الجهاد والفتح هم عتبة بن غزوان أحد أعيان القادسية حليف سعد بن أبي وقاص أحد السابقين في الإِسلام بل أحد الذين حصروا في الشعب وهو الذي يقول (حتى أكلنا النوى وورق السدر)، وهو مرة ثانية الذي بصّر البصرة، مربدها الجامعة الثالثة في الإسلام، رغم أنف الناكرين وسحقاً لمعتدين، فهل أجد كاتب حرف إلا وهو المدين للمسجدين جامعتين المسجد الحرام ومسجد النبي إلا وهو المدين للمربدين مربد البصرة ومربد الكوفة، وهل هناك قاعدة فتح فتحت الشرق كله إلا وهي الكوفة، عتبة بن غزوان بصّر البصرة بأمر ابن الخطاب عبقري هذه الأمة أبي حفص الأعير عمر، قال له بصّر البصرة على الأدنى من حدود العرب، فهي على شط العرب، تحتضن كاظمة، والآخر من مزينة صاحب فتح الفتوح سيدي النعمان بن مقرن.
كان هو أحد الإِخوة التسعة، شرف بهم العرب كلهم ألا تشرف بهم مزينة، فاتح نهاوند، قتل شهيداً حولها، يرقى المنبر عمر ينعاه. كان ذلك يوم كان العرب ناساً.. يوم كان الإِسلام أنساً يوم كان الزاد تمراً.. والعدة جَملاً وحصاناً وسيفاً ورمحاً وسهماً فما بالنا اليوم والعدّة يسمونها (التكنولوجيا)، هؤلاء من مزينة، أما نحيت وابن نحيت فما عرفته إلى الآن، فكل ما أعرفه أنه حامل راية حرب القبيلة كلها إذا غاب ابن عسب كان هو حاملها، وهناك حكاية عن ابن نحيت، كنت عند مدير العلاقات في المطار وهو قبلي من جهينة انتظر النداء لركوب الطائرة في رحلة للرياض حجر اليمامة المشمخرة، فدخل رجل هامة بصير ومعه رفيقه من مصر فقال الرجل الهامة لمدير العلاقات (سنعني أنا غريب) واستكنهت اللهجة، فأنا أعرب لهجات قومي، خلته حربياً أو عتيبياً، قلت له (من الرجل)، قال: حربي، قلت: سالمي أم مروحي، قال: أنا ابن نحيت، أقسم إني بكيت، كيف يظن ابن نحيت أنه غريب على أرضه، إنها وراثة الماضي قطع دابرها الحاضر، وقلت له: لا لست الغريب هذه أرضك من اللحظة الأولى التي رفع فيها إبراهيم قواعد البيت، وقلت للمدير: هذا ابن عمك سنّعه، فاستجاب المدير باحترام أملاه الموقف، هكذا تأثير النشأة البدوية.
وأدخلوني الكتاب، كان أمام باب الكومة الذي ينحدر الناس منه إذا ما جاءوا من الحزم يمتد من ضرس سلع، الكتاب وقف السيد علوي السقاف كان شيخ السادة يومها وهو جد الشيخ عمر سقاف الوزير، وكان شيخ الكتاب (محمد الموشي) ينسب إلى موشي قرية في صعيد مصر ولعلّها في أسيوط، الكتاب وكتان والشيخ لا يحوط بالتلاميذ وإنما العريف هو الحريف، ورحلنا إلى ينبع النخل مع الذين رحلهم فخري باشا وفي ينبع البحر دخلت كتاب الشيخ بصيل وهو أيضاً من صعيد مصر ولعلّه من قنا، وما أسرع من ضم هذا الكتاب بشيخه والطلبة إلى المدرسة التي فتحت في ينبع مديرها الأستاذ أحمد أبو بكر حمد الله زميل أستاذنا السيد حسين طه كانا في بعثة إلى المدرسة السلطانية في دمشق حين تخرجا من المدرسة الإِعدادية في المدينة كل منهما كان رياضياً ممتازاً، ومن أساتذتي في هذه المدرسة الشيخ القاضي والفقيه عبد الغني شرف من أهل المدينة الأخيار.
كنت أضيق بالكتاب وانفرج الضيق عني بالمدرسة زملائي فيها إبراهيم زارع، حمزة فرهود، زكي عمر وغيرهم وكل منهم تحمل من عطائه ما تجمّل به يرحمهم الله.
وعدنا إلى المدينة.. ودخلت الكتاب اسمه كتاب القشاشي، الشيخ فيه السيد حسن صقر ابن عم أستاذنا محمد صقر وأستاذ أحمد صقر، وهم من أشراف قنا حسينيون جمازيون، رحل جدهم من المدينة يوم كان الجمازيون أمراءهم واستوطنوا مديرية قنا وينتمون إلى هذا اللقب (المخادمة)، كما كان القسم الثاني منهم ينتمي إلى هذا اللقب (البطاطخة) ومنهم زعيم هؤلاء جميعاً ياسين باشا أحمد ومنهم السيد طه محمد حسين عثمان والد صديقنا السيد ياسين طه.
وضقت بالكتاب، فدخلت إلى المدرسة العبدلية وكان مديرها أستاذي المتسرمد عليه السيد أحمد صقر كان طليعة وخطيباً وشاعراً فيه دعابة، ولكن عجز المال على بقاء المدرسة العبدلية، لأنه في أول الأمر أسست في المدينة مدارس أربع.. العلوية مديرها الأستاذ ياسين كردي أخوه الشيخ عمر كردي الشاعر والقاضي وهما وأخوهما صالح كردي رئيس ديوان الإِمارة أخوال تلميذي وأستاذي ضياء الدين رجب، علمته ألف باء وعلمني ألف لام ميم، جد هذا البيت المتقادم في المدينة المنورة هو إبراهيم الكردي الكوراني، الذي انتهت إليه الرحلة كصاحب السند العالي، جاء بعده بهذه الصفة فالح الظاهري، الذي عرفته الأمصار المسلمة حتى شيخ الأزهر الأحمدي الظواهري حين حج وشد الرحال إلى المسجد النبوي أخذ يسألنا عن أبناء فالح الظاهري، قلنا له هما أبو بكر وعلي سكنا مكة، ولا أدري هل كان سؤاله عن عالم أم عن قرب النسب؟ فالشيخ فالح الظاهري تتلمذ عليه الشيخ محمود شويل ولا أعرف غيره من الذين تتلمذوا عليه وقد توفاه الله في المدينة المنورة سنة 1328هـ كما ورد ذلك في كتاب الأعلام لخير الدين الزركلي.
المدارس الأربع جمعت في مدرسة واحدة لشح الإِنفاق عليها وكان جمعها تحت اسم المدرسة الراقية والمدرسة التحضيرية كلهما في المدرسة الإِعدادية التي سميت الناصرية وهي في باب المجيدي بين المسجد وباب المجيدي على أول ما كان يسمى بالمناصع وراءها بيت الشيخ العزيز بن الوزير وبيت السيد حمزة رفاعي، وقد عيّن مديراً لها مدير الفيصلية أستاذنا السيد حسين طه وقد حالف هذا التعيين التوفيق لأن السيد حسين ليس له علاقات جانبية مع أحد قطع رجل الزائرين الذين لا ينفعونه، المدرسة العلوية مديرها ياسين كردي، العبدلية مديرها أحمد صقر والفيصلية السيد حسين طه والزيدية مديرها الشيخ عبد الحي خضير، وقد أصبح السيد أحمد صقر أستاذاً في المدرسة مع ابن عمه السيد حسين طه ومن بقية الأساتذة محمد صقر أستاذي الحقيقي في المدرسة والمسجد وبسط رعايته عليّ وأيضاً السيد ماجد عشقي محمد سعيد مدرسي الذي كان أستاذاً لأحمد صقر ولعبد الحميد بدوي باشا في دار المعلمين أيام العثمانيين، ثم الشيخ محمد الكتامي والعريف بن سالم والمراقب هاشم كماخي، وكان الشيخ عبد القادر شلبي الطرابلسي هو المعتمد على هذه المدرسة رأساً على هؤلاء، وحين بدأ الأمير محمد بن عبد العزيز تشكيل الجهاز الإِداري في المدينة المنورة، لم يعين عبد القادر الشلبي في مكانه بل الذي تولى الأمر لفترة قصيرة هو القاضي الفاضل الشيخ أحمد كماخي، لكن كامل القصاب وقد كان مديراً للمعارف أول الأمر في هذا العهد الزاهر عيّن عبد القادر شلبي معتمداً للمعارف في المدينة وتتلمذت في هذه المدرسة وتخرجت منها في نهاية عام 1342 ولم نجد من يختم الشهادة، لا أدري لماذا لم نذهب لعبد الله عمير رئيس الديوان الخاص أو أحمد بن منصور وكيل الإِمارة، فذهبنا إلى عبد المجيد باشا والي قلعة سلع يختم لنا الشهادة وكان الذين تخرجوا من هذه المدرسة الراقية الأربعة المحمدون محمد سالم الحجيلي، محمد إياس توفيق، محمد نيازي، محمد حسين زيدان، لم يتخرج قبلهم أحد ولا بعدهم أحد..!
ومكثت (خالي شغل) لكن والدي يرحمه الله أبى إلا أن أتزود من العلم فكانت دراستي في المسجد النبوي على يد أستاذنا محمد صقر، ألفته في النحو قطر الندى شذور الذهب ألفية ابن مالك شرح ابن عقيل مغني اللبيب، فقد كان الشيخ يعشق ابن هشام الذي قالوا إنه أنحى من سيبويه وفي الفقه على مذهب ابن مالك، الرسالة لأبي زيد القيروان ومختصر خليل والحواشي.
ولتضحكوا قليلاً.. قرأنا قربة الفساء هل يجوز للمصلي إذا حمل قربة الفساء أن يؤدي صلاته؟ كيف تمتلئ القربة بالفساء لماذا لم تمتلئ بغيره بالبول مثلاً، وجاء ذكر الفحم فأهل المدينة يخزنونه في الحناية فإذا فيه قول في الحواشي يعلمنا أن نرش على الفحم ملحاً ليمنع الجن من أكل الفحم، لأنه طعامه كالروث، فقال أحدنا من الظرفاء (أي والله صحيح غصبنهم الجاوى يأكلوا الرز سماط ما يحطوا الملح عشان أمهم جنية).
أبى والدي إلا أن أتعلم قال لي: (اسمع يا واد أنا أحب الفلوس أشغلك تجيبلي ريال مجيدي لكن لا أريد ذلك، تعلم) وتكلم بلهجته الصعيدية (اسمع يا واد بقى ابن السقى الولد اللي ملوش طين أصبح مفتي الديار المصرية) يعني الشيخ محمد بخيت وهو من بلدياته، وأنت يا أبو طين متتعلمش).
ودعاني الشيخ عبد القادر شلبي لخدمته ولأمارس التعليم مساعداً له في مدرسة خاصة فتحها، كنت أنام في المكتبة وفي المدرسة الجوهرية فكان هو ناظرها وكانت المكتبة عامرة بكتب التراث فقرأت لا أنام حتى أقرأ، ثم استعرت من رشيد أفندي الغزي أحد مهندسي السكة الحديد والد الأستاذ هاشم رشيدي رئيس النادي الأدبي في المدينة، أعارني ثمانين جزءاً مجلداً من مجلة المقتطف، كان يصدرها يعقوب صروف ويكتب فيها شبلي شميل وكتاب كبار من أهل التراث، قرأتها كلها فإذا هي وما إليه.. أنا اليوم..
والبقية تأتي..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1251  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 703 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.