شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
طيبة.. رحلة في الزمان والمكان (22)
المدينة لا تجوع.. وبها الأسودان
والذكريات ليست إلا جغرفة للأرض، أرض المدينة كما أنها مشاهد تاريخية، ليس منها أن تكون مذكرات شخصية، فلن أقحم نفسي متحدثاً عن شخصي وإنما هو الحديث عن المدينة المنورة في عهد الدولة العثمانية العهد الحميدي والعهد الرشادي ثم عهد الأشراف ثم العهد لهذا الكيان الكبير المملكة العربية السعودية، فالذكريات تاريخ من التاريخ عن الأحوال والاتصال والانفصال والرجال وكيف ابتليت بمن حولها وكيف طاب لبعض أهلها أن يعيشوا الفصام بلا خصام ما أشد قربهم لبعض حين لا تكون المادة جراية أو صدقة وما أقوى فصامه حين تكون المادة أحباباً يتقاربون وبالعنعنات كثيراً ما يتباعدون.. أكتب هذه الذكريات فيها (( الأنا )) وإنما كلها الـ (( نحن )) .
إذا قلت حنطة يثرب
جاء الرديف من القصيم
دمعت عيني حين رأيت الهرمية دامرة وسوالة مثلها
إلى وزارة الزراعة: خصى النواة.. يجعل النخلة أنثى
السواني:
وحين ذكرت المكائن، وما صنعت فلا بد أن أذكر ((السواني))، ولست صاحب الكلمة عنها، وإنما صاحبها هو الفلاح من صميم الفلاحين موسى أبو عيفة، من نخاولة العوالي وأشياخ قبيلة، فقد كنا كما تعودنا نذهب إلى أي بستان، أو كما نسميه ((البلاد)) في أيام الصحابة كانوا يسمون البستان حائطاً وفي أيامنا نسمي البستان ((بلاد)) فلقد تعودنا أن نخرج ونحن (بشكه) أي جماعة نقبل على بستان ما، نتجنب العيون نكثر المقيل في العوالي، الدوار العقيلية الفقير، الفقير هو الحائط الذي غرس فيه رسول الله صلَّى الله عليه وسلم هو وأصحابه الصنوان التي فرضت على سيدي سلمان الفارسي ليعتق من مالكه الذي اشترط هذا العدد من الصنوان، وفي قربان.. سوالة والبدرية والجلونية والناعمة والربعي، وفي قباء البقع الحنية العباسية.. الصفيا ولا أنسى الجزع.
موسى أبو عيفة، زارنا ونحن بشكة نقيل في النشير بستان أو بلاد فيما أذكر ملك بيت حموده، أشتراه منهم صالح العبد العزيز الميمان بمبلغ خمسة وأربعين جنيهاً فقط، وهذا ثمن قليل، ولكنها قسوة الأيام كما اشترى صهرنا خضر عسر والد الدكتور حمزه عسر، الصفيا بسبعين جنيهاً، ثمن بخس لكنها الضرورة لها أحكام.
كنا نقيل في النشير.. مصطفى عطار عبد العزيز بدي، أسعد طربزوني منتظر طربزوني عثمان حافظ، وما كاد يجلس موسى أبو عيفة حتى وصل إلى مجلسنا مدعواً من أصدقائه نحن.. من هو؟ إنه محمد المغيربي فتيح، كان من طلائع الشباب في المدينة، ومن كبائر الشيوخ في مكة، وسأل محمد المغيربي موسى أبو عيفة، قال له: أناس يشكرونك لأنك أعدت للعنب مجده فلقد مات كما ماتت العوالي أيام فخري باشا وأنت أحييت العنب، أسألك: لماذا لم تركب ماكينة على البئر وبقيت على السواني؟ فقال موسى: يا أخ محمد الماكينة تنزح البئر، وحين تكسر أو يخرب فيها شيء متى تصلح.. متى يطلع شريف أفندي يصلحها، ثم بناتي وأبنائي يصبحون عاطلين، ولد واحد يشغل الماكينة أما السواني إذا طاح جمل أو حمار أنزل السوق وبعد ساعة أشد عليها القرب لا يموت شجري ولا تفرغ بئري ويشتغل الأولاد يفتلون الزمام والرشا يدبغون، القروب ينفون النجيل علفاً للسانية، حتى إن بعض أولادي باسم الفزعة للجيران ينظفون أحواض الجار من النجيل، أكسبه علفاً باسم هذا الجميل، أسقي الزرع بماء السانية، على قدر معلوم، واستطاب المغيربي كلمته وقال: الآن عرفت، وقلت هامساً في نفسي: ليت المكائن لم تصل، موسى أبو عيفة رجل عامي، لكنه فلاح قديم. وارث.
أما الأرض التي بخس ثمنها، فقد ذكرت من قبل أني بعت ثمانية مخازن، أعني ثلاثمائة وستاً وثلاثين متراً بثمانمئة ريال، أحسبوها تجدون أن المتر الذي يباع في أيام سبقت قبل عام بالألف من الريالات بعته ولما يبلغ ثمنه ريالين ونصف، وهكذا بيعت الصفيا والنشير بثمن قليل. إنها الأيام دول.. من سره زمن ساءته أزمان.
والمدينة المنورة أصبحت دار الهجرة، لأن أول الأمر كونها أرض ذات نخل، فحين أمر رسول الله، خاتم الرسل، محمد صلَّى الله عليه وسلم بالهجرة، اتضحت له الصورة للأرض التي يهاجر إليها، أرض ذات نخل، وكان في التصور، أهي نجران، أم هجر أم اليمامة، أم يثرب؟ فإذا أمر الله بما هيأه الله حين أسلم الأنصار، أن تكون الهجرة إلى المدينة المنورة، ذهب عنها التثريب وبقي لها التقريب، دار هجرة هي الدار والإِيمان، هي مأرز الإِيمان: ((إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها)) ولئن كانت الحية أفعى، فإن الحية في يد النبوة عصا موسى تلقف ما صنع السحرة، فالحية هنا ليست معابة، وإنما جاءت بها دقة الوصف.
والمدينة المنورة انتصرت فيها الهجرة لأن بها الأسودين، التمر والماء، والسؤددين، الأوس والخزرج، والسواد الكثير: حولها قبائل العرب، كل العرب، كما أن فيها السيئين، اليهود والنفاق، لأن السيّىء يهودي أو منافق، بكل السلبيات التي مارسها، شد عصب الأنصار، وأشعل الحماسة وثبت الأخوة، فإذا السيّىء يهلك، وإذا السؤدد ينتصر، وإذا سواد القبائل يدخلون في دين الله أفواجاً.
الأسودان، التمر والماء، القوت الأبقى في المدينة المنورة، حتى قالوا ولعلّه قول بعض الظالمين لها: إنها المدينة لا تجوع وفيها الأسودان.
كلها حيطان، أي بساتين تزرع، يعيش إنسانها فيما يشبه الاكتفاء الذاتي، فهي لم تستورد التمر والفاكهة، رماناً وعنباً وتيناً، من خارجها، إلى الوقت الذي كنا فيه قبل وصول سكة الحديد من الشام إليها، الحنطة كافية بأنواعها الثلاثة ((اللقيم)) للشوربة والجريش، و ((الحنطة)) للخمير، و ((المعيا)) للفطير، ولعلّ الحنطة تصاب بآفة أو تصاب بالطير، هذا العصفور ((الحرصي)) كما يسميه أهل المدينة، هذا الطير لو غفل الحارس لأكل الحنطة أكلاً ذريعاً. فإذا ما قلت الحنطة جاء الرديف المغيث من عالية نجد ((القصيم)) من وادي القرى ((العلا وتيماء)) من خيبر، من فدك ((الحائط والحويط)) وحتى من الحناكية وما إليها.
أما الخضروات فموسمية، لهذا يتعامل أهل المدينة مع البامياء والملوخية والطماطم والباذنجان الأسود بالتجفيف، يشترون كميات من كل الخضر حتى النعناع، يجدونه جاهزاً ليعيشوا فاكهين به، كما أنهم يخزنون الثوم والبصل والجبن والسمن، اكتفاء ذاتياً يوم لم تكن فيها مواصلات، يوم لم يكن هذا السعار في الاستيراد.
حين كنا كذلك، كان الرجال يحرثون الأرض، يسقون الزرع، أما اليوم، فيأخذني السكوت، لأن الواقع مشاهد ولا يحتاج إلى تشهيده. بماذا يسقون الزرع؟ إن السقيا من الآبار، سواء كانت القديمة التي عرفنا منها: ((البُعَّة، غُرس، سُواله، بيرحَاءُ، بُضَاعَه، رُوما، أَريسْ، عُرْوة)) وغيرها، ثم حفرت آبار بما يقتضيه التوسع، هذه الآبار في العوالي وقربان وقباء والصدقة والعقيق. أما شمال المدينة، تهامتها، العيون: فعين جارية (عين باني، الغرابية، المدافعية، أم البيض، الشنيبلية، الزَّهرة، المفتية) فالمراوي للعيون التي في سفح أحد على حافة وادي قناة، شرق العقيق، فمنابعها من شرق المدينة، أما التي غرب العقيق فمنابعها من مجمع الأسيال، وما تيامن منه، حفرها الرجال، بنوا خرزها ودبلها، فما أقوى ما صنعوا!
قوة العضل تزينت بقوة الروح، بالعزيمة، بالصبر، بما أنعم الله عليهم.
ونأتي إلى النخلة، ما أكثرها في العيون، وما أكثرها حلوة جميلة في العوالي وقباء وقربان، دمعت عيني حين رأيت الهرمية دامرة وسوالة مثلها، أتعرفون سوالة، من كان صاحبها من الصحابة؟ إنه سيدي عبد الرحمن بن عوف، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وآلت ملكيتها إلى الشريف علي من أشراف العوالي، وارث الإِمارة ولو تقليدياً عن أجداده الجمازيين، وآلت إلى ابنه شحات، كما آلت البدرية إلى ابنه ناصر.
في إحدى سنوات الأربعينات الهجرية كان ((خرص االتمر)) لجباية الزكاة خمسين ألف أردب، الأردب أربعة وعشرون مداً، المد ست أوقيات، فإذا حولنا هذا الكم من الأوقيات إلى الكيلو يبلغ مليوناً ونصف مليون كيلو تمر، أي ما يعادل ألفاً وخمسمائة طن، يشبع أهل المدينة إذا ما أكلوا، إذا ما خزنوا، إذا ما باعوا، فالحجاج يشترون التمر تبركاً، وعجيب أمر النخلة، فالحيلة تؤكل زهواً ورطباً وتمراً، أما الحلوة فتؤكل بلحاً ((سربان)) وزهواً ورطباً وتمراً، و ((الروثانة)) أحسن ما تؤكل رطباً، تخزن تمراً، ومثلها ((السويدا)) و ((الهرمزي)) وما أشبه. ولكن الخزين طول العام يكون من الحلوة والبرنى البيض والشلبي والمشوك والصفاري البكاية والشيخة، أما الكعيك فأكثره من الجبل الأشم رحقان، أو من وادي صفراء، كما القلاد.
ولا يفوتني أن أذكر مكالمة تليفونية من المدينة، فقد تلفن لي أحد أبناء وادي الصفراء، ذكرني بما نسيت، فقد قرأ ما كتبت عن زرع ((النواة)) بلبها، أعني تزرع تمرة، فإنها تكون كأمها على العكس من النواة المجردة من لحمتها، قال هذا الفتى: ((نحن في وادي الصفراء نزرع النواة مجردة فإذا نمت وثبتت في الأرض، نحفر، نخصيها، أي نقطع النواة ما دامت العروق قد ثبتت في الأرض، فقطع النواة حين أنبتت نسميه: خصوها، فإنها حين ذاك تكون نخلة أنثى لا ذكراً)) وكنت أعرف ذلك، ولكني نسيته، فهل تجرب حقول وزارة الزراعة ذلك، على كلتا الصورتين.
وأتدرون بعد ماذا وقع للخمسين ألف أردب؟ فحين تعرجنت النخيل بتمرها، ولما يجد بعد، جاءت الآفة، الجراد والدبا (وهو الجراد الذي لما يطر بعد) كان آفة عجزنا عن مقاومتها، فإذا الحصيلة أقل من عشرين ألف أردب، يعني أن الجراد والدبا أكل أكثر الثروة، ولكن المدد جاء من شمال المدينة وشرقها، تعويضاً عما نقص.
والضرع، الأبقار عند التكارنة أو بعض من في المدينة، وهي قليلة، ضرعها للبيع، لبناً وزبدة، شيء موجود ولكنه ليس بالكثير، لكن الضرع الكثير هو في الماعز، ثلاثة أنواع: (العنز المصرية) وأختها التي تشبهها (العنز العارضية) ووجه الشبه كما قال آباؤنا إن ثدي المصرية والعارضية أسطواني فيه طول، يطلقون عليه ((ثديها دورقي)) كالدورق، أما ((العنز البدوية)) فضرعه يكاد يلتصق ببطنها، وثديها دقيق صغير، ولا يخلو بيت، وخصوصاً من هم خارج السور، من وجود ماعز، يعلقها سيد البيت، وتحلبها ست البيت، ومن الضرع ما يأتينا من شمال المدينة الشرقي من حرة فدك، أي من بني رشيد، فلديهم الضرع الكثير، يأتون بالجبن والسمن والمضير، فما كان الجبن في المدينة إلا من بني رشيد، كل بيت، كل تاجر يخزن الجبن، يمر عليه الحول في أزيار مغربية ضخمة، في نصف السنة يأخذون ((القطفة)) من زير الجبن، كأنها السمن، يغيرون الماء، يملحونه، ونظل نأكل الجبن طول العام من الوارد الجديد أو الخزين، ما أحلى تلك الأيام على مرارتها، وما أشد مرارتها اليوم على حلاوتها.
شرق المدينة وشمالها هو المدد في كل شيء، أما غربها فالمدد منه بالوقود حطباً وفحماً، يعني اكتفاء ذاتياً حتى في الوقود، لا وابور ولا بوتوجاز ولا فرن كهربائي، وإنما هو الوجاق والكانون والتنور والفرن.
واللحم لا يأكلون في المدينة إلا الضأن في الأكثر والجزور كذلك، أما ذات اللبن الأنثى، فيمتنعون عنها، العلّة في ذلك أن يكثر الضأن، ولكن في المدين علة أخرى سلطها عليهم الواعظ، فهم يقولون لحم النعجة والعنز والبقرة مضر، لأنها ربما تكون في بطنها حمل، وهم يكرهون لذلك أكل ذات اللبن. قليل منهم يأكلون البقر لأن العجول لا تذبح، وإنما هي الثيران يكبر سنها، أو يصيبها مرض فيتداركونها بالذبح، فلا يأكلها إلا الأقلون، ويتعللون بأن لحم البقر بارد يضر، وقد لحقني ذلك الآن، فالأم والجدة ضد لحم العجول، والأبناء والبنات يحبون لحم العجول.
ومرة أخرى نأتي إلى الماء، كان السقي بالسانية ((السواني)) جمال، ثيران، حمير، نسني عليها، يمتلئ الغروب من البئر، يصب في البركة، يطلق في القنطرة، يضيع الماء أكثر وأكثر، وجاءت المكائن، جلبها السيد محمود أحمد، فإذا أهل الزرع يركبون المكائن على الآبار، غير أن هناك عقدة أو حائلاً، فالمكائن يعمل محركها بالكاز، وهو كثيراً ما يشح لأنه مستورد من ماركة ((سوكوني فاكوم، شل)) أو أنه غالي الثمن، فماذا يصنع الفلاح في الماكينة وهذا حالها، فتقت الحيلة للسيد محمود أحمد أن يستعين بشريف أفندي مدير كهرباء الحرم، فإذا هو يستبدل المحركات بالكاز يصنع أفراناً يشتعل فيها الفحم، فغاز الفحم عوضاً عن الكاز، عمل بارع يسر أن تعمل المكائن، ولكن المكائن كان فيها شيء من الخسران لأنها أرهقت الآبار، فهم يسحبون الماء، فاتهم الرشد وليس هناك ترشيد، يتدفق الماء، ينساب في القناطر، تمتلئ الأحواض حتى إن بعض الزرع يصيبه ضعف، يقولون: ((البرسيم خمج، البقدونس مات)) لأن الماء الكثير يتلف الزرع، وحين ينزح الماء من البئر يقل فيها فيعمل الفلاح أو المالك على تعميق الحفر للبئر، لأنه يزيد الماء، وما يدري أن عمق البئر المنخفض يسرق الماء من بئر الجار، فبئر الجار ما زالت عالية، وبئر صاحبنا أصبحت السفلى، وينحدر الماء إلى أسفل، ويعمد الجار الذي شح ماء بئره إلى تعميق الحفر، وما دروا أن الماء وقد أصبح عمق البئر كبيراً، في صحن البئر قد سحب الماء إلى سافلة المدينة (العيون)، فالمكائن جنت على الآبار، ثم الغيبة لسيل وادي العقيق فهو الذي يشبع الآبار بالماء أما وادي قناة وبطحان فلا يزودان الآبار بالماء، لأنهما يسيلان على أرض صلبة صخرية أو جصة، بينما العقيق يسيل ابتداء من العنابس إلى نهاية الأعياص (سلطانة)، وإلى روما وأم شجرة والجرف على أرض رملية تمتص تربتها الماء، تزود الآبار، نعرف هذا من آبارنا في البيوت، لأن كل بيت في المدينة فيه بئر. ماء العين الزرقاء للشرب وتارة لبعض الغسيل، وإذا ما كانت البئر فيها ملوحة، يستعصى ماؤها على الصابون، فالبيوت فيها ترشيد الصرف للماء، فالآبار للغسل، سواء غسيل الحجر جالب البرودة من ألفح السموم، أو لأي شيء يغسل، لأن ماء العين الزرقاء هو للشرب فقط، وعظيم كيف وزع ماء العين الزرقاء، ينساب الماء من بئر أريس (بئر الخاتم) خاتم رسول الله صلَّى الله عليه وسلم سقط من يد ذي النورين فابتلعته البئر، وكان رسول الله صلَّى الله عليه وسلم حبب إليه أن يجلس إلى أريس، إذا ما وصل قباء، وفي إحدى جلساته وقد دخل ذو النورين عثمان بن عفان إلى مجلس النبي وفيه أبو بكر وعمر مع رسول الله، فاحترم رسول الله صاحبه وصهره عثمان، يجيب عن سؤال غير ناطق لأنه احتشم عندما أقبل عثمان فقال وهو نبي الرحمة صلَّى الله عليه وسلم ((ألا أستحي من رجل تستحي منه ملائكة الرحمن)) ولكن قومي العرب حين يتنافرون لا يبالون بقيمة أمثال عثمان، أمثال علي، أمثال القتلى من رجال ضمخت صحف التاريخ بسيرهم العطرة، وي كأن الاغتيال لهؤلاء هو الذي أبقى سيرهم على صفحات التاريخ، فالإِساءة في القتل والاغتيال كان من خلفياتها الإِحسان بهذا التخليد في صفحات القراطيس.
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره
تنوعت الأسباب والموت واحد
إن العين الزرقاء، غوث المدينة بالماء العذب، لم يبق ماؤها في بئر أريس كما بقي ماء بئر روما، فالجبارون من الرجال صنعوا وبنوا المجرى على صورتين: دبل وعليه خرزات ينساح فيه الماء الحلو، يبني على دبل تحته يحفظ الماء ليضم إليه بعض الماء من كل الآبار في البيوت، كأن الدبل التحتي عين أخرى يسيل في دبلها الماء يسقي خيف الأغوات، يطل عليه سلع كأنه الطريق إلى روما وأم شجرة والأعياص والجرف.
انظروا كيف يصان الماء، وتصنع الدبول، يصل الماء إلى عين باب الشامي، وإلى عين باب السلام، وإلى عين حارة الأغوات، انظروا كيف صنع الرجال الجبارون!
وعلى حافة بقيع الخيل، على الأواني من حزم الصمد، نقا العنبرية، عين الرجال وبجانبها عين النساء، الرجال سقاة بالقرب والنساء سقاة بالصفائح، السقاة من الرجال أكثرهم من الموالي، والسقاة من النساء كلهن من التكارنة، الرجال زملاء إذا مرض السقاء قام زميله بسقي البيوت التي كان زميله يسقيها، كالحمال زملاء فإذا مرض سقاء أو حَمّال تكفل زميله بكل شيءٍ، كأنهم شكلوا نقابة تعاونية تحكمها الأخلاق والعاطفة والعون، ذلك يوم كان الناس ناساً، وأريد أن تضحكوا بعد الكرب الذي كربتكم به، ذهبت إلى عين الرجال أغسل ثيابي، يتيم الأم هكذا يصنع، ورأيت جمعية السقاة في دكة على درجة العين، جلس شيخ السقاة في الصدر، وكان من موالي القرارة ولعلّه من موالي بيت البتاوي، البيت الكبير في مكة، جلس الشيخ والسقاة النقباء حوله وجرت المحاكمة، ومن هو الذي يحاكم؟ هو ((سعيد أبو عشرين)) من عبيد الأغوات ومن المطاليق، يحسب له حساب في أي عراك، لكنه أطاع قانون السقاة وجلس وسط هيئة المحاكمة فسمعت شيخهم يقول: ((يا سئيد، كتر الشد يقطئ الهبال، كتر الغربلة يقطئ المناخل، يا جماءة، أحكم عليه بأشر إصى)) وانبطح سعيد أبو عشرين وجاء الجلاد يضربه عصا طرقاً خفيفاً على عجيزته ويقفز إلى الجانب الثاني ليضربه كذلك أربعة عصوات، وإذا أحد المشاهدين يرمي حزمة برسيم، ينتهي الجلد، لأن حزمة البرسيم شافعة، انظروا كيف كانت الخضرة تشفع للمجلود، وقام سعيد يضحك، خضع للجزاء لأن قانون السقاة محترم لدى اناس ولو كانوا عبيداً، لأنهم كانوا ناساً.
والتربة في المدينة ثلاثة أنواع، فالأرض التي يطؤها السيل أو الأرض التي على سفح الحرة كالعوالي وقباء وقربان أرض حلوة، تربة غسلها الماء من السبخ، وتربة رملية كما سلطانة والجرف، والعيون كذلك تربة حلوة لأن السيول الثلاثة غسلت الملح، أما ما قارب المدينة في شمالها الشرقي فجصة، وأما أرض محبت والقاضية، فتربة سبخة، لهذا حين اتسع البناء في المدينة، بنى الصعايدة بيوتهم في أرض محبت وفي القاضية، ولنا بستان فيها، على حافتها، لأن القاضية وأرض محبت حصرت من وادي العقيق فلا يصلها ومن وادي بطحان فلا يصلها، فما غسلت تربتها، وإنما هي اغتسلت بالناس فيها، وأول بناء فيها كان البيت (حمام سكر) بناه أتباع شيخ الطريق محمد الدندراوي.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1558  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 702 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ عزيز ضياء

[الجزء الخامس - حياتي مع الجوع والحب والحرب: 2005]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج