طيبة.. رحلة في الزمان والمكان (16) |
العربي سيف وجمل وحصان وجراب من التمر والحنطة |
الاستعمار وحدنا لنحاربه.. والاستقطاب فرقنا ليحارب بنا
|
إلى وزارة الزراعة: النواة لو زرعت بلبها.. كانت لأمها
|
والذكريات ليست إلا جغرفة للأرض، أرض المدينة كما أنها مشاهد تاريخية، ليس منها أن تكون مذكرات شخصية، فلن أقحم نفسي متحدثاً عن شخصي وإنما هو الحديث عن المدينة المنورة في عهد الدولة العثمانية العهد الحميدي والعهد الرشادي ثم عهد الأشراف ثم العهد لهذا الكيان الكبير المملكة العربية السعودية، فالذكريات تاريخ من التاريخ عن الأحوال والاتصال والانفصال والرجال وكيف ابتليت بمن حولها وكيف طاب لبعض أهلها أن يعيشوا الفصام بلا خصام ما أشد قربهم لبعض حين لا تكون المادة جراية أو صدقة وما أقوى فصامه حين تكون المادة أحباباً يتقاربون وبالعنعنات كثيراً ما يتباعدون.. أكتب هذه الذكريات فيها
((
الأنا
))
وإنما كلها الـ
((
نحن
))
.
|
حب الرسول وصحبه تقوى.. وبغضاؤهم شقوة |
والذكريات من المدينة المنورة كثيرة كبيرة فيها العبرة والعظة.. وعنها القدوة والأسوة.. تضحك لكل تاريخها ولو كان فيه بعض العذاب.. وتبكي من بعض تاريخها لا من العذاب لها وإنما من جرأة الذين فسقوا عن أمر ربهم فأشعلوا الفتن واغتالوا الخلفاء.. إن الذي اغتال عمر لا أضع له شاناً.. هو مجوسي فلا قيمة تؤخذ عليه لأنه لا قيمة له ولكنه اغتال عبقري هذه الأمة ولست في حل من ذكر الأسباب التي اغتالت نفس أبي لؤلؤة بالحقد فتآمر بقتال عمر وسواء كان الهرمزان المجوسي وراءه وجفنة النصراني خلفه فإن ذلك لا يزيد من الأمر في شيء فكل الزيادة وكل الفتنة وكل العصيان إن كسر الباب ذلكم قتل عمر.. فجرأة المجوسي لا تحسب لأنه العدو ولكن جرأة الذين اغتالوا عثمان بن عفان.. ذا النورين هي التي تحسب.. هي التي تقول لهم كيف هتكتم حرمة المدينة كيف هتكتم حرمة الخليفة؟! كيف لم تستحوا من المصحف بين يديه أنتم مسلمون نعم من هنا تؤخذون من هنا يسود التاريخ. ورواة تاريخنا يصفون هؤلاء القاتلين الذين هتكوا حرمة المدينة قبل أن يغتالوا عثمان يصفونهم بأنهم كوفيون ومصريون وهنا أصرخ فأقول: لم يكونوا الكوفيين ولم يكونوا المصريين أعني لم يكونوا عراقيين من أبناء العراق، ولا مصريين من أبناء مصر وإنما هم عرب من هنا الذين فتحوا العراق ومصر إن المؤرخين حين قالوا ذلك أشعلوا نار الحفيظة على المصريين والعراقيين الذين فعلوا ذلك حتى ألصقت التهمة بمصر وبالعراق فذو الخويصر والأشتر ومحمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة وابن الأشعث لم يكونوا إلا من هنا لا من هناك.. |
إن اغتيال عثمان كان جريمة وتكبر الجريمة أن تكون في المدينة أمام مسجد رسول الله.. أمام البيوت التي عمرت بالمهاجرين والأنصار ولا أريد أن أسأل كيف يغتال عثمان وفي المدينة ناس هم الناس قبل كل الناس وفوق كل الناس ولكنني أعوذ بالله من الفتنة ومن البغضاء فالحب لصحابة رسول الله فيه الخير كل الخير، إن الحب لهم تقوى والبغضاء شقوة. |
وتتابعت الفتن، لا لتصبح المدينة عاصمة الدنيا المسلمة وإنما أصبحت تحت سيف الذين وضعوها إنما هي أدنى أرض مسلمة أهلها ثائرون والسلطان يقتل الثائرين. |
وقال المؤرخون إن وقعة الحرة قادها جيش الشام بإمرة يزيد بن معاوية وهذه لا أقبلها فلم يكن من الذين هتكوا المدينة في وقعة الحرة واحد من أهل الشام وإنما هم بقيادة عقبة بن مسلم المرعي من أهل هذا البلد أستحي أن أسمي القبيلة ولكن قائدها يسميها أتعرفونه إن هؤلاء قد ذهبوا لم تبق منهم باقية بأسمائهم الأولى وإنما البقية الصالحة منهم لها أسماء أخرى. |
أريد أن لا نحمل قومنا في الشام ما فعلناه بأنفسنا فالتبرئة للعراق ولمصر وللشام لا أتبرع بها وإنما أتورع من ذكرى ذلك لأمحو البغضاء ولنضع الأمور في نصابها.. |
ذكرى |
وتولى معاوية بن أبي سفيان الملك بعد الخلافة الثلاثية فجمع الأمة وما تأخر عن الفتح العظيم غير أن الذكرى التي أكتبها هي أن معاوية رضي الله عنه كان قومياً يحب قومه العرب لم ينتصر بقريش وإنما انتصر في الشام بقبائل الشام وفي الحجاز انتصر بقبيل من الحجاز كثير العدد قوي العدة ليس فيهم تميم فتميم سكنت العراق وبقي كثير منها في نجد لم تثر فتنة ولم تخف فتنة ولم تكن عوناً على فتنة هذا في عهد معاوية وفي عهد أمية أما قبل ذلك فشيء غير ذلك وأقبلت القبائل تؤم قصر معاوية وكان بجانبه صديقه حليفه أبو عبد الله عمرو بن العاص صاحب الأيام البيض في اليرموك واليوم الأغر في مصر، أقبلت القبائل فأشار عمرو إلى معاوية أن ينادي على القبائل بأسمائها وأنسابها، وكان من هؤلاء الأنصار وفيهم قيس بن سعد والبراء بن مالك، ورفع المنادي صوته يا آل الأوس يا أهل الخزرج فلم يستجيبوا.. ما لبوا النداء وما أقبلوا يسلمون، وقفوا حتى إذا سئلوا لماذا لم تدخلوا قالوا اليوم نحن لسنا الأوس ولا الخزرج اليوم نحن الأنصار.. هكذا سمانا رسول الله.. محمد ابن عبد الله عليه الصلاة والسلام. |
وجزع معاوية أن سمع من عمر ذلك فنودوا يا آل النصار فدخلوا وإذا قيس بن سعد بن عبادة من أهل الحظوة عند هذا القومي الملك الإمبراطور معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم أجمعين، إن ثبات الأنصار على هذا اللقب بعثرتهم القومية كقومية بني أمية كانت العروبة لم يكن في عهدهم التسعين عاماً حول ولا سلطان إلا للعرب فإن المسلمين من غير العرب تأكلهم الشعوبية فلم يستطيعوا أن ينتصروا بها ولكنهم لجأوا إلى التشيع فإذا هم خصوم بني أمية وإذا هم الهدامون لا لعرش بني أمية وإنما لكل عرش عربي فعرش بني العباس أنعم به وأكرم كان عرشاً شعوبياً خراسانياً إلى عهد المعتصم وتركيا بعدهم.. كان ذلك السبب في أن فقد العربي السلاح وكان ذلك السبب في زوال العباسيين وحتى الفاطميين فاستحال ملك الإِسلام إلى ملوك الطوائف وانتهى سلطان العرب عباسياً وفاطمياً ولكن ملوك الطوائف وحتى الأيوبيين والمماليك نصبوا أنفسهم ولم يكونوا منصبين من تتر أو صليب وهذا خير ما فيه انتصبوا لحرب التتار وحرب الصليبيين فكان ذلك خير ما فعلوا حتى إذا اتسع ملك العثمانيين انحسر موج الصليبيين فلم يعد المرشال اللنبي يقول كلمته وهو داخل بيت المقدس ((اليوم انتهت الحروب الصليبية)) ولم يقل الجنرال ((غورو)) وهو في دمشق يقف أمام قبر صلاح الدين قائلاً ((اليوم عدنا يا صلاح الدين)) لم يقولوا ذلك أيام ملك الطوائف وإنما قالوا ذلك يوم أن تأتي الدولة العثمانية ولم تبق الجامعة الإِسلامية ولم تستطع القلة من العرب أن تواجه هؤلاء بالحرب عليهم وإنما هم خدعوا بالاتجاه إلى أنهم حلفاء الأرض فخانوا العهود وأخلفوا الوعود وما زلنا في تطلع إلى اليوم الموعود، يوم الإسلام الذي ينتصر بسيوف العرب حين يتحدون تحت ظلال كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة. |
لينتصروا على الاستقطاب كما انتصروا على الاستعمار ولا أستحي أن أقول كلمة قلتها من قبل إن الاستعمار كان خيراً من الاستقطاب فالاستعمار وحدنا لنحاربه والاستقطاب فرقنا ليحارب بنا.. |
الزرع والضرع |
ومرة ثانية نكتب عن الزرع والضرع لأقول: إن كل نبتة خضراء تنبت على أرضنا هي النعمة واليوم أرضنا تخضر بسنابل القمح وأعواد العنب وصنوان النخل. |
كان بلدنا فيه اكتفاء ذاتي لا يبلغ الكمال في الحنطة ولكنه يبلغ الكمال في ما أنبتت الأرض من الخضروات والفواكه التي تصلح فيها، لا نستورد العنب والرمان والتين أما التمر فإن لم نصدره تجارة فهو يصدر على صورة أخرى حاج يشتري كماً من التمر يرجع به إلى بلده إن العربي إذا رأى النخلة أو الجمل أو الحصان فستعرف أنه هو الذي زرع النخلة وهو الذي صدر الجمال وجعل أهله في الأقاليم الأخرى يقتنون الخيل، فالعربي سيف وجمل وحصان وجراب من التمر ودشيش من الحنطة. |
فهل كان الفتح العظيم إلا بما ذكرنا سيفاً وجملاً وحصاناً وجراب تمر. رضي الله عن عمر يوم لم يقسم سواد العراق لم يعط سعد بن أبي وقاص أرضاً ولم يقطع القعقاع بن عمرو اقطاعاً لقد ترك الأرض لأهلها يزرعون ويفلحون مدداً للجيش المجاهد فلو قسم الأرض قسمة خيبر لقعد المجاهدون عن الجهاد.. ترك الأرض لأصحابها يدفعون الخراج مدداً لخزينة الدولة بيت مال المسلمين مدداً بما يزرعون ليأكل المجاهدون إنها عبقرية عمر. |
والنخل يكفيه شرفاً أن النبي صلَّى الله عليه وسلم قال: أكرموا عماتكم النخل.. بل وزاد النخل فضلاً حينما غرس بيده الصنوان ليفي الصحابة بما يعتقد سلمان الفارسي، بستان سلمان ورثه الإِسلام لا أدري أهو باقٍ إلى الآن أم قطع الأرض لتباع الأرض.. نبني البيوت كنا نعرف أن اسمه ((الفقير)).. |
النخلة هذه كانت في المدينة لأنها أرض ذات نخل كما نجران - كما هجر كما اليمامة فقد كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلم وقد أمر بالهجرة إلى أرض ذات نخل ظناً أنها غير يثرب ولكن الله أمره أن تكون ((يثرب)) لتسمى طيبة دار الإِيمان دار الهجرة المدينة المنورة. ما تسلط عليها ظالم إلا أذابه الله كما يذيب الملح في الماء. |
النخل صنوان وغير صنوان الصنو لأمه صنو الحلوة حلوة والصنو البدني بدني فالصنو لأمه. |
أما النوى حين ينبت فكثيراً ما يكون خملاً أو لوناً ولا تعجبوا إذا قلنا أن العنبرة المرغوبة للحجاج لم تكن إلا نبتة ((نوى)) كأنما هي تأصلت بنفسها. |
وأعرف أن الشيخ في أم البيض بلاد الوسيدي كانت نبتة فإذا هي شيخة عريضة ثقيلة اللحم والنخل مرة أخرى أعرفكم عددها كنوع: |
الحلوة. البرني. البيض. الشلبي المشوك، الصفاوي، الحلبة. السويدة. الهرموزي. المكتومي. الأفندية. البرحية كلها أصائل ولعلّي نسيت بعضها أما البقية فلون غير أن ظاهرة ينبغي أن نعرفها في أول السرطان نذوق الرطب الحلية ثم يأتي بعد ذلك نوع من الرطب الآخر. |
الحلوة تؤكل خضراء ((سربان)) وزهواً أحمر ورطباً وتمراً والحلبة بعدها تؤكل زهواً ورطباً وثمراً. |
أما السويدة والروثانة فتؤكلان رطباً لا زهواً ولا تمراً والبرحية تؤكل زهواً ورطباً لا تمراً. |
أما البيض والبرني والمشوك والشلبي فكلها تؤكل تمراً فقط كأنها الذخر لا تستهلك بل تخزن. |
ونسيت الهرموزي والمكتومية والأفندية أحسن ما تؤكل رطباً وللذكرى فقد بيع صيف الزهرة في أوائل الأربعينات بألف وخمسمائة جنيه ذهباً والشنيبلية بلاد بهاء الدين خاشقجي ببيع صيفها سنتها بسبعمائة جنيه ذهباً. |
وللذكرى مرة أخرى طلع الجراد والدبا وقد خرص التمر وقد أزهى بخمسين ألف أردب فأكله الدَّبا حتى لم يبق من الخمسين ألف أردب إلا ما هو أقل من النصف. |
إلى وزارة الزراعة |
غفلت أن أتّبع النصيحة أو هي الخبر عن النواة كنبتة أكتبها فلم أصنع شيئاً عن الخبر فمن أكثر من عشرين عاماً أخبرني أستاذي صالح بن عثيمين من أهل بريدة أن النواة لو زرعت بلبها يعني لو زرعت ثمرة لن تكون إلا لأمها أرجو من المزارعين أو من وزارة الزراعة أن تجرب زرع الثمرة من أنواع كثر لعلّ الخبر صادق. |
فالصنوان قليلة أما زرعنا ذلك فلعلّ الصنوان تكثر لتأتي العجيبة. |
وكيف زرعت كاليفورنيا النخل حتى البرحية كان ذلك يوم طاف البلاد العربية مستر ((قرين)) الأمريكي. فأخذ الصنوان من الجزائر والبصرة والقصيم واليمامة والمدينة بواسطة أصدقائه من العرب فزرع الصنوان في كاليفورنيا فإذا هي تصدر التمر وإني لأعجب من البرحية هي نخلة البصرة حجزوها ولكنها زرعت في القصيم فلم تتأقلم، وزرعت في المدينة فقد جلب صنوين من البرحية شويمي بن حجاز يرحمه الله هدية لصهره عبد الله بن مسلم المحمادي الشيخ والد صديقنا حليت، أثمرت فلم تتأقلم وزرعت في الشرائع فلم تتأقلم وأغرب من ذلك أنها زرعت في جدة عند قائم مقام جدة وعند بعض أهل القصيم فلم تتأقلم. |
بينما زرعنا ((دقلة نور)) نخلة الجزائر فتأقلمت فأصبحت كأنها المشوك والتمر يخزن في الأزيار المغربية لا أدري هل يوجد شيء منها الآن أم تكسرت؟ ويخزن أيضاً في الشنان حشايا وفي الصفائح كما يصنع مجاليد كأنما المجلاد من الخسف ((من السعف)) أشبه ما يكون بقلال هجر. |
إن الاكتفاء الذاتي من الحنطة ما أحسن أن تواخي بين سنبلة الحنطة وعرجون النخلة ليكون الاكتفاء بالحنطة والتمر ولا بد من مثل أذكره. |
قال أحد أمراء مكة إن المدينة لا تجوع وفيها الأسودان التمر والماء. |
|