طيبة.. رحلة في الزمان والمكان (15) |
لولا صرة من الذهب! |
والذكريات ليست إلا جغرفة للأرض، أرض المدينة كما أنها مشاهد تاريخية، ليس منها أن تكون مذكرات شخصية، فلن أقحم نفسي متحدثاً عن شخصي وإنما هو الحديث عن المدينة المنورة في عهد الدولة العثمانية العهد الحميدي والعهد الرشادي ثم عهد الأشراف ثم العهد لهذا الكيان الكبير المملكة العربية السعودية، فالذكريات تاريخ من التاريخ عن الأحوال والاتصال والانفصال والرجال وكيف ابتليت بمن حولها وكيف طاب لبعض أهلها أن يعيشوا الفصام بلا خصام ما أشد قربهم لبعض حين لا تكون المادة جراية أو صدقة وما أقوى فصامه حين تكون المادة أحباباً يتقاربون وبالعنعنات كثيراً ما يتباعدون.. أكتب هذه الذكريات فيها
((
الأنا
))
وإنما كلها الـ
((
نحن
))
.
|
المدينة المنورة.. دار الهجرة مسيرة النصر.. |
المسجد الثاني في الإسلام |
فلئن كانت دار الأرقم ابن أبي الأرقم في المسجد الحرام على الصفا، المدرسة المعلمة الأولى، للسابقين الأولين من الصحاب الذين استبقوا ينالون الخير يتلقون العلم من المعلم الأول، علمه شديد القوى، محمد نبوته (اقرأ) على الجبل حراء، في الغار.. لا في أبهى القصور. ورسالته (يا أيها المدثر قم فأنذر) كانت على الصفا، كما دار الأرقم كانت على الصفا، كأنما الصفا المشعر، هي المدرسة الأولى، تلامذتها.. أبو بكر.. علي.. زيد.. حمزة.. عمر.. سعد.. خالد بن سعيد.. عثمان بن عفان، ولماذا ننسى بلالاً وعمار بن ياسر، وغيرهم وكان عددهم الأربعين.. مؤمناً عرف الحق فخرج ينصر الحق، لتكون المدرسة الثالثة بالإعلان عنها والإِعلان فيها والإِعلام بها، يبث العلم لأنه بيت الحج، لأنها القبلة ولأنها أيضاً القُبلة.. قبلة يتجه الساجد إليها.. يولي وجهه شطر المسجد الحرام، وهي القُبلة إسلاماً وسلاماً تطبعها مكة على جبين كل ساجد يطمئن بها قلب الركع السجود. |
وتم النصر للهجرة، وأكمل الله النصر للهجرة، فإذا مسجد المدينة الذي كان مربداً، أصبح هو المراد تشد إليه الرحال، أصبح (غرفة العمليات) ينظم فيه الجيش المسلم يفرض فيه الجهاد، جهاد النصر في بدر على المشركين، وجهاد النصر على النفس المؤمنة، كأنما الجهاد هو الأصغر في حرب العدو، وهو الأكبر في الانتصار على النفس، فما السيف وما الرمح وما السهم وما الحصان وما جراب التمر، فاعلة ومنفعلة إلا حين تكون النفس المؤمنة سيفاً.. سلاحاً تحارب شيطانها تنصر إيمانها. |
المدينة المنورة.. يثرب.. واحة.. أبقعة.. ذات نخل أحل الله فيها رجالاً يحبون من هاجر إليهم، والحب ليس إلا أنه التفسير لقيمة المدينة مأرزاً للإِسلام يأرز إليها، يعني يأوي إليها، ليخرج منها مرة أخرى بالرايات السود كما خرج أول مرة، فالرجعة إلى المسجد الأقصى ليست إلا مسلمة والمسجد الأقصى من أول أمره لم يكن بيعة لليهود ولا كنيسة للنصارى وإن حاولوا ذلك، فما كان وما زال إلا أنه المسجد، سنعود إليه مرة ثانية كما كنا فيه كما أعدناه مرة أولى، فالتسمية للقدس لا تعني إلا أنه المسجد، فقد كان القبلة الأولى وسيكون بعد الاستقبال الثاني، للذين يصدقون الجهاد، فالحرب عليه جالبة النصر إليه، لو كان المسجد الأقصى في سكينة لسكنت النفوس ولكنه في الحريق لتحترق النفوس نصاراً له وجهاداً. |
فالرجال إيمان، والإِيمان رجال، هم آتون ولن يكونوا البعيدين.. المدينة المنورة كأنما قد حصر فيها تاريخ الإِسلام لأن النصر انتشر منها، فالحيرة فتحها واليرموك نصرها والقادسية انتصارها والفتح العظيم كان بسلاح بنيها.. بنوة الإِسلام بنوة القبيلة بنوة القيادة، فإن لم يكن الكل منها، فإن الكل كان بها.. كان لها.. وكانت هي له، رغم ما مسها من بنيها حتى قلنا في فترة ما ((هدمها بنوها وخربها بانوها)) أكثر من ألف سنة وهي تعيش من فتنة إلى فتنة، لكن علماء الصحابة والتابعين وتابعيهم، كانوا هم المعلمين في المسجد الحرام ومسجد دار الهجرة. |
فحرمة المسجد والأذان والصلاة والمنبر والمحراب ما منعت الفساق، ولكنها امتنعت ألا أن تكون باقية لقد أهدر اعتبارها ولكن حين سنأتي لتاريخ عبد العزيز بن عبد الرحمن.. سابع الملوك في الإِسلام وخامس الملوك في العرب، سنأتي لأجهر بها.. إنه عبد العزيز إنهم بنوه.. هو الذي رد الاعتبار. |
حكم الشريف: |
وخرج فخري باشا والأكثرون من جنده وضباطه وبقي من هؤلاء الضباط، بقية من العرب وبعض الترك حسني العلي المقدسي، خليل هجانه عبد المجيد اليافي الصيدلي، ضياء الدين بيك التركي الصيدلي والطبيب محمد علي الطرابلسي الليبي والضابط سالم أفندي الليبي ومهدي بيك المعروف، وفهمي الذي كان جندرمة ثم أصبح صيدلياً يتعلم من الكبار فهو ذكي، وحسين أصبح صيدلياً نسي الناس أنه كان من الجندرمة، والذي ضرب عزيزاً بالجزمة، لأن البيئة العسكرية غير البيئة الصيدلية، ولأن عبد المجيد اليافي وضياء الدين ومحمد علي الطرابلسي كانوا بيئة أخلاقية. |
قبل خروج فخري باشا، ولا أريد أن أنسى، أن بيتاً من ثلاث طبقات في زقاق الطيار أمام حوش السمان وأمام حوش بني رشيد، كان ملكاً لمحمد يوسف عبيد، ابن عم الدكتور رضا عبيد.. أتدرون بكم باعه؟ لقد باعه بكيس أرز!! ومثله بيت علي الجديدة والتاجوري، كما سمعنا اشتراه عمنا محمود مصطفى شيخ الفلتية أيضاً بكيس أرز، وأنا نفسي، بعد ذلك بكثير، بعت ثمانية مخازن بثماني مائة ريال كانت في شرق المدينة، يعني 316 متراً، فلو بقيت لكانت ثروة، ولكن وسيأتي السبب بعد حين - نؤتمن فلا نخون، ذهب فخري باشا، ودخلت المدينة في حكم الشريف حسين يرحمه الله، وأكثر الذين رحلوا إلى الشام أرجعوهم بالبواخر إلى ينبع، وكان ذلك من عمل الإِنجليز وبتخطيط لورانس وقبل كل ذلك بجهد ملك الشام حينذاك فيصل بن الحسين، وصل هؤلاء إلى المدينة وقد نجا أكثرهم من حمى التيفوس التي انتشرت في ينبع، فمات من أهلي ثلاثة زوجة أبي الكبرى وأختي الكبرى وعمي الأصغر، ومات الكثيرون، وبعض الأعزاء من أهل المدينة من أصحاب الجاه، فرغ كل ما كان معهم في الشام فأغبثوا من أهل الشام ومن العرب الذين أصبح لهم ملك في الشام، حتى إن ناصر بن علي الشريف أعطى السيد زين العابدين مدني ألف جنيه مكنته من العودة بكرامة، ولم يلتفت الشريف ناصر إلى من كان نصيراً للترك أو من كان قاسياً مع الترك على أهل العوالي، كما أن عبد الله بن هويمل من شيوخ الحوازم في وادي الصفراء أعطى صديقه مصطفى قباني ألف جنيه، ولكن لكل منهما سبب، فالإكبار للمدينة كان من عمل ناصر والإِكبار للصداقة كان من عمل ابن هويمل. |
وتشكلت في المدينة حكومة، ولكن ليست واحدة وليست متحدة فأول حاكم عسكري كان شكري بيك الأيوبي من أعيان دمشق ومن أبرز الثائرين فيها، ولكن لم يعجبه الحال فرجع إلى دمشق، ويتوهم بعض الناس أن الجيش كان من القبائل، هو من القبائل أيام حصار المدينة، وحين تم الأمر لحكومة في المدينة كان الجيش من المرتزقة من كل الأقاليم، لأن الأمر أولاً كانت الرواتب فيه كثيرة فانفض كثيرون ولم يبق من الضباط إلا من كان مع الشريف جميل باشا الراوي الذي تولى رئاسة الحكم العسكري بعد شكري الأيوبي وابن عمه إبراهيم باشا الراوي، وكان معهم عزت بيك شامي وعبد القادر الديري وقاسم الديري، وسيأتي لهما ذكر يوم خرج إلى العيون يصحبهم الأمير محمد بن عبد العزيز أطال الله بقاءه، ليدخل المدينة في ضحى يوم السبت التاسع عشر من شهر جمادى الأولى أو الآخرة،، ضاع من ذاكرتي ذلك، وحين وصل الناس إلى بيوتهم لم يجدوا شيئاً مما تركوا وكان كثيراً فلا رياش ولا فراش ولا حنفيات ولا أدوات مطبخ، وكل ذلك ضاع لم يسرقه العسكر وإنما السراق من غير العسكر، كأنما كل من قدم لم يجد شيئاً فتكلف الكثير بينما العمل قليل. |
ولكن في أول الأمر كان الذهب يجري في أيدي الناس حتى قالوا إن شخصاً بقي في المدينة ولم يخرج منها فإذا عنده صفيحتان مليئتان بالذهب، وكان كريماً ما بخل على أحد بعون من هو؟ إنه عبد المعين كاتب يرحمه الله، لم يمت إلا وهو في كل صلاة في المسجد النبوي يرحمه الله. |
نوع الحكم: |
لم يكن يمسك بالقوة ليردع الجناة وليأمن الناس فقد ورثوا من فخري باشا جبلاً من التمر أخرجوه من المخازن ووضعوه في آخر سوق التمارة والحبابة أمام مسجد الغمام وأمام البلدية، فأهل المدينة ليسوا في حاجة جاءهم الخبز من القصيم والخير من ينبع، أما التمر فكان يشتريه أناس يصنعون منه الخمر والعرق، كان مادة المسكرات، في المدينة أربعة حكام. الديوان يرأسه أول الأمر حامد حمد الله ورشيد أفندي ثم انتهى إلى عبد الله عمير، فلم يحكم وإنما هو يراقب والرقابة لا تفيد، والحاكم الثاني العسكري بعد جميل الراوي كان عبد المجيد وقد كان خيراً من كل أولئك، والحاكم الثالث وكيل الإمارة والشريف أحمد بن منصور كان رجلاً طوالاً حليماً عاقلاً ما مد يده بضر إلى أحد وكان رئيس ديوانه أخونا محمد حسين شويل، فالطيبة فيه كانت عوناً لطيبة أحمد بن منصور، وكان صديقاً لصديقنا صاحب الفضل علينا صالح الإبراهيم القاضي من كبار شيوخ عنيزة، فقد كانت هذه الصداقة أيام حصار المدينة فيها الحماية والرعاية لأهل القصيم وأكثرهم من عنيزة، فكان صالح القاضي عوناً للحصار بأدب وكتمان، له صلة لا يعرفها أحد إلا هو، بإبراهيم النشمي وعبد المحسن الغر ودغيمان الذي كان صديقاً ومعيناً لمحمد بن بليهد يرحمه الله. |
ففي أول الأمر كان صالح بن عقل وهو الكبير قد طوع شرق المدينة وما انقطعت صلته بمن كان معه من أمثال دغيمان وغيره، ولدغيمان ذكر في صحيح الآثار تأليف ابن بليهد محمد لا عبد الله، فصداقة صالح القاضي لأحمد بن منصور كصداقة عبد العزيز الخريجي وابن أخته محمد بن خريجي للشريف شحات كان فيهما الحماية لأهل نجد، وقد كاد يفسدها عبد العزيز الحجام يرحمه الله، لا أذمه لأن الوفاء له كزوج لابنة خالي من الرضاعة سليمان الأطرم يمنع الذم، ولكن التاريخ فيه المذمة لكاتب لا يذكره. |
كان عبد العزيز الحجام أطلق أكثر من رصاصة من بيته على من يمر أمام البلدية فيقتل، ولكنا لم نعرف ذلك إلا بعد لأن الحجام وأباه كانا من التابعين لضاري بن رشيد الذي ابتعد عن نجد ولجأ إلى المدينة ثم رحل إلى العراق هو وابن أخيه يرحمه الله، واعتز الحجام يكلؤه هو وابناءه الأمير محمد بن عبد العزيز لأنه أصبح من تابعيه أيام إمرة سموه في المدينة. |
لقد كان القتل لا يخلو منه يوم والحاكم لا يتصرف، في ضحى يوم وأمام مكباس المناخة قتل ابن سمرة من شيوخ بني رشيد ولم يمسك أحد بالقاتل وبعد ساعتين أو أقل قتل واحد من ولد محمد في حوش درج وذهب القاتل، وبعد العصر من ذلك اليوم قتل أحد الرحالة يجري وراءه ثلاثة يأوي إلى قهوة محمود تحت بيت البري يهرب من قاتليه يندس في أحد الكراسي يلحق به الثلاثة يقطعونه والناس جالسون ولا يتحركون. |
لقد ابتنى والدي بيتاً في بلادنا في القاضية على المجار والبركة وكنا ننام في السطوح لم يبن للسطوح درجاً بل صنع سلماً نرقى عليه ثم يسحب السلم معه ليرقد معنا حتى لا يرقى علينا أحد، والبندق بجانبه إذا سمع خشخشة يطلق رصاصة حول هذا المخشخش ليهرب، وحكاية عيسى العقيد الأحمدي التي تتبرأ قبيلته منه لأن حذيفة شيخ الأحامدة أقسم يميناً ألا يوجه إلى الطير في جهة المدينة رصاصة يصيده، عيسى العقيد هذا كان حول أحد يسلب الناس فلم يرسل الحاكم إليه جنوداً يمسكونه وقد حدثت حكايتان، فالحكاية الأولى أن عبد الحفيظ محروس يركب فرساً ينزل إلى المدينة من الزهرة بستانه الكبير فسلبه عيسى العقيد، المشلح والساعة والعقال والثوب والفرس وتركه ينزل إلى المدينة لا يستره إلا القميص والسروال ولكن كان في المدينة (فضي الحويفي) ابن عم سعد الحويفي شيخ ولد محمد علي للراس، فعلم فضي بذلك وذهب إلى عيسى العقيد لا يحمل إلا سيفاً ورد لعبد الحفيظ محروس كل ما سلب منه وإذا الناس في المناخة ينادون (بيض الله وجه فضي الحويفي). |
أما الحكاية الثانية فهي حكاية الريس علي يماني، وكان رجلاً ضعيفاً قصيراً لا سلاح معه، قابله العقيد ليسلبه فإذا هو يمسك به يعاونه من معه يذهب العقيد بلا رجعة، وقبل ذلك ولا أريد أن أنسى كان السيد هاشم مدني ابن زين العابدين مدني هو وصديقه محمود ديولي يطلعون إلى المصرع يحمل كل منهما بندقة.. أم خمساً.. أم ركبة يتحدّون عيسى العقيد فلا يقترب منهما. |
نادرة: |
خلت المدينة من أثاثها ورياشها وكان والد زوجتي أم ابنائي سافر هو وزوجته وطفله إلى الشام، فلم يكن يطيب لهم عيش فرحل إلى حلب ثم إلى الأناضول وفي مدينة (الديتول) استأجر طاحونة يطحن القمح، وكما يقولون (يا يدي فكي حلقي) ورجعوا إلى المدينة بالجوع والعري وسكنوا بيتاً في باب المجيدي لم يجدوا إلا الخسف وليس مع محمد أبو داعوس صهري قرشاً يأتي بشيء لزوجه التي كانت حاملاً، خرج إلى السوق يريد أن يكون صبياً عند فران فهو من المعلمين، لم يجد شيئاً ولكن كانت جدة أبنائي المريضة الآن في بيتي وقد نيفت على التسعين قد أصابها طلق النفاس ولا شيء في البيت لا فحم ولا بصل، بل ولا ماء فرأت وهي في عذاب الطلق في أعلى الجدار أمامها شيئاً يتراقص حسبته دابة فنهضت تتثاقل وأمسكت به فإذا هو حبل جرته وإذا هي تمسك بصرة فيها ذهب عدته فوجدته خمسة وثلاثين جنيهاً ذهباً، نادت زوجها أعطته المال فتح فرناً، كان في هذه الصرة الغوث. من وضعها؟ لماذا لم يسكنوا إلا في هذا البيت؟ لماذا تحرك الحبل؟ لا أقول إلا أنه الله يعين المساكين. |
|