شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
طيبة.. رحلة في الزمان والمكان (14)
ذكريات التلميح لا التجريح
حين قال الشريف عبد الله: حتى أنت يا حذيفة..
كان شوقي نائحة العرب أما شكيب أرسلان فهو نائحة شوقي!
والذكريات ليست إلا جغرفة للأرض، أرض المدينة كما أنها مشاهد تاريخية، ليس منها أن تكون مذكرات شخصية، فلن أقحم نفسي متحدثاً عن شخصي وإنما هو الحديث عن المدينة المنورة في عهد الدولة العثمانية العهد الحميدي والعهد الرشادي ثم عهد الأشراف ثم العهد لهذا الكيان الكبير المملكة العربية السعودية، فالذكريات تاريخ من التاريخ عن الأحوال والاتصال والانفصال والرجال وكيف ابتليت بمن حولها وكيف طاب لبعض أهلها أن يعيشوا الفصام بلا خصام ما أشد قربهم لبعض حين لا تكون المادة جراية أو صدقة وما أقوى فصامه حين تكون المادة أحباباً يتقاربون وبالعنعنات كثيراً ما يتباعدون.. أكتب هذه الذكريات فيها (( الأنا )) وإنما كلها الـ (( نحن )) .
والذكريات التي كتب فيها التلميح لا التجريح، وقد يكون فيها التفريح، للذين كربوا، أما التجريح فلن يفيد شيئاً عن الذين أكربوا، لكنها تبيان لما وقع، وتبيان لما نحن فيه، فالوحدة التي نعيشها والأمن لا يمكن إلا أن نتباين بها ولا نبين عنها لله إنما البين هو هذا التلميح عن الماضي.
أمة واحدة.. دين واحد.. ولغة إن توحد بها لسان الأكثرية عرباً، فقد توحد تحت راية قرآنها كل من أسلم، فكيف لا نحن إلى ماضي الوحدة فتحاً مبيناً، وفتحاً أعظم وإمبراطورية واحدة.
لا بد أن نَحِنُّ إلى هذا الماضي من خلال هذا الوجع وهذه الفجيعة التي لا نغالي إذا ما قلنا إن عهد الطوائف بعد سقوط العباسيين خير من عهد الأمة العربية الآن، بل ومن عهد الأمة الإسلامية الآن.. نصبوا ذواتهم فانتصبوا لأمرهم.. ولكنه لم يخضع واحد منهم ليكون المنصب لقوة طاغية عليه.. أو لقوة يحسبها الناصرة له.
إن وحدة الجزيرة الآن المملكة العربية السعودية، ومجلس التعاون، نبراس يرتفع به الرأس ويطرد الوسواس، اجتمعوا ليجمعوا وأجمعوا ألا يتفرقوا، وتلك حلية أتخفف بها ولا أخاف عليها لأن الرجال إذا ما أخلصوا يستطيعون التخلص من عقابيل ((الأنا)) إلى العقبى المنتصرة بحول الله وقوته، وكما قلت الإِسلام ينتصر دائماً بالحرب عليه.. لأن قوة النصر له هي من قوة الله حافظ الذكر.
والعرب نزعوا السلاح منهم وهم أبناء العم وما كان فخرهم إلا لأنهم أبناء العم، لكنها الصحراء لكنه بيت الشعر.. كلاهما الصحراء وبيت الشعر، أم ولود وسعي ودود فما زالت عروبة الصحراء وحرارة الشمس تحت بيت الشعر هما القوة التي تعيد للعربي تاريخه.
لقد ذهب الكثير من كل شيء.. في السياسة والرئاسة ولكن بقيت لأمة العرب إمبراطوريات ثلاث.. اللغة الشاعرة والأرض الحنون من الخليج إلى المحيط والحضارة الوسيط التي رضعت من كل ضرع حضاري وزرعت في كل أرض حضارته.
إن هذه المقدمة هي ((الأنا)) لا أعتذر عما كتبت وإنما أقول للذين ما زالوا انفراديين أو الذين يتبرأون من ماضيهم هكذا كنتم الوارثين لعظمة الفتح المبين والفتح العظيم والوارثين للخذلان الذي لم يكن إلا عظمة جردها الطغيان من اللحم الذي يكسوها.
فخري باشا
ونعود إلى فخري باشا، لماذا حصر نفسه في المدينة والحجاز ليس في يده ونجد إن لم يعلن الحرب البطل عبد العزيز بن عبد الرحمن، فقد كانت نجد بكل قبائلها وبكل خيرات قصيمها ويمامتها وأحسائها لا تصل إليهم، فالرجال كانوا ليسوا معه والخيرات ليست ترد إليه على الجمال السود.
يمرون بالدهنا خفافاً عيابهم
ويرجعن من دارين بجرّ الحقائب
لو أنه لم يحصر نفسه في المدينة وكان عوناً رديفاً لجميل باشا يمسك بالأردن وفلسطين لاستطاع أحمد فؤاد وأركان حربه الألماني أن يعجز الشريف فيصل وهو في العقبة ولورانس عن تخريب السكة ولحجز الحويطات وبني عطية وبني صخر والرولا وبلي عن أن يكونوا حرباً على جمال، فخري حصر نفسه في المدينة وجمال حصر نفسه في دمشق، ولست رجلاً عسكرياً أتكلم عن التكتيك والاستراتيجية وإنما التاريخ هو الأب للتكتيك والاستراتيجية، لو أن فخري نزح بجيشه الجرار واحتل معان وعمان، لأخر المرشال ((اللنبي)) أن يحتل القدس حتى قال الكلمة المثيرة تثيرنا حتى الآن ((اليوم انتهت الحروب الصليبية)) لأن جمال كان كالسلطان إِسماعيل ولأن جمال وفخري وأحمد فؤاد وحتى ياسين الهاشمي لم يكونوا كصلاح الدين.
ولو جلس في معان لحمى القدس ولربما حاز مجد حطين بصورة أقوى بالسلاح الذي معه، من يوم حطين، ولكنه انحصر في المدينة يفرغها من أهلها.
الأمانة
وطلب جمال باشا وهو محصور في دمشق مبلغاً من المال يرسله فخري إليه، وسأل فخري مع من يرسل المبلغ، فالسكة الحديد مقطوعة وأي ضابط تركي مهما تنكر لا يستطيع أن يصل بالمال إلى جمال، فلم يجد أمامه إلا السيد طه حسين عثمان والد أستاذنا السيد حسين وأخينا السيد ياسين طه، ناداه فخري: خذ هذه أربعة آلاف جنيه ذهباً عثمانياً أوصلها إلى جمال باشا، فتمكن السيد طه بهذا التكليف أن يرسل أهله إلى مكة لا يرحلون إلى الشام، ينقذهم من الجوع، وأخذ السيد طه المبلغ أربعة آلاف جنيه تشغله عن النوم يلبس اليقظة كما لبس الأمانة يصل إلى نجد، ففي عنيزة صديقه عبد الكريم الخريجي وتلميذ عبد العزيز الخريجي وابن عبد الكريم محمد الخريجي، يشتري بضاعة بمعونة الخراجة ويركب الفلاة محروساً بالدليل ويصل إلى دمشق، باع البضاعة وكان فيها الغوث للجياع فبضاعة القصيم.. تمر.. وحنطة، فالقصيم سميتها من قبل وهي تصدق هذه التسمية الآن ((أوكرانيا جزيرة العرب)) أي أم الحنطة بأنواعها أم التمر بأنواعه أم السمن بأنواعه أم اللحم بأنواعه وكان جمال باشا يحزم حقائبه يريد أن يذهب عن دمشق يحتلها فيصل بن الحسين كرمز عربي ومعه لورانس كانوا يسمونه ((ملك العرب غير المتوج)) كان جمال يربط حقائبه وإذا السيد طه يستأذن عليه فعنده برقية من فخري أنه أرسل له المبلغ.. واستقبل السيد طه وتسلم المبلغ وهو راحل عن دمشق فعجب جمال كيف يصبح العربي أميناً، فقال كلمته المشهورة ((أبيت يا سيد طه إلا أن تثبت أن في العرب أمناء)) كأنما هو نسي ثبات ياسين الهاشمي معه وثبات شكيب أرسلان له، لكن هذه الأمانة لم تجعله يسأل عن غيره من العرب، فأسعد شقير كان هو الذي يضع رقاب العرب بين يديه، وياسين الهاشمي أسير القسم العسكري وشكيب أرسلان تلميذ جمال الدين من رجال الجامعة الإسلامية كانت أمانة السيد طه نصراً للخلق وثناء على العربي..
نادرة
وأحب فخري تفريغ المدينة أكثر وكان الاتحاديون قد نفوا ما كنا نسمع اسمه ((أشرف بيك)) وتعرفه العامة بلقب ((ولد الكشي)) أحب فخري أن يتخلص منه وأن يفرغ المدينة من شبابها فكلفه أن يجمع جيشاً ليس فيه تركي واحد فجمع أشرف بيك الشلاوية والعربجية، قالوا لي إن منهم الدلوقة وأبو حلمة والحمزاوي وحذيفة النحاس صاحب هذه النادرة، كان في جيش الكشي أشرف، وحذيفة النحاس هو من البيت القديم من بيوت المدينة التي كانوا فيها قبل عهد الأتراك وأيام حكم الجمازيين ذوي حسين، هم أهل حوش خير الله ويوجد اسم النحاس على عائلة حديثة العهد يحترفون هذه الصناعة يسكنون زقاق الطيار ولكن في حوش الرشايدة وهناك نحاس آخر اسمه أحمد والد تلميذنا وصديقنا خالد نحاس الذي كان من ضباط الجيش السعودي، أوضحت ذلك لئلا يلتبس على أحد ما أذكره عن حذيفة النحاس.
وسار أشرف بما جمع من الذين هم رجال العصا والمشكلة، أي الفتوة لا من رجال البندق والمدفع.. سار أشرف إلى العيون شمال المدينة يريد أن يهاجم الشريف عبد الله بن الحسين المخيم في وادي العيص الحاجز للسكة الحديد.. فلم يكد أشرف بيك يصل ومن معه إلى أدنى وادي الحمض حتى لقيه ((رجاء بن خليوي)) بمن معه من ولد التميمي الذين هم من رؤوس بني سالم وفرعها ميمون.. فاجأهم رجاء وأنا أعرفه كان رجلاً طوالاً محترماً فأسر أشرف وكثيراً من الذين معه ورجع الآخرون إلى وطنهم وكان من الأسرى عمنا حذيفة النحاس، لأننا كنا نقول له يا عم، كان رجلاً يرتزق فعنده عربة يقودها حماران أسودان ((فلفل وكمون)) هو سماهما لأنه كان رجلاً ظريفاً، يحمل على العربة ما يشتريه بعض الناس لبيوتهم من الأرز والحنطة، وهو يعرف كل بيت وأمين على ما يحمل، ومثل الأسرى أمام الشريف عبد الله بن حسين فإذا هو يرى حذيفة النحاس لأنه يعرفه من العلاقة القديمة فقال الشريف عبد الله ((حتى أنت يا حذيفة تحاربنا)) وكان حذيفة رجلاً بسيطاً فأجابه جواباً ذا حدين ((يا سيدي أنت تعرف المثل.. كل عيش النثراني وأضرب بثيفه)) لأنه ألثغ يلثغ بالسين يجعل السين ثاء، هذه الإِجابة لا يدري أنها شتيمة، فالشريف عبد الله كان حليف الإِنجليز هو وصاحب الرسائل بينه وبين السير هنري مكمهون التي احتفظ بها في كتاب ((مقدورات العراق السياسية))، وعود كانت لعبة لم تنفذ بل الذي نفذ هو وعد بلفور ومعاهدة ((سايكس بيكو)) سايكس إنجليزي وبيكو فرنسي، وضحك الشريف عبد الله من إجابة حذيفة وأكرمه وأطلق سراحه.
الغفلة
وما كانت لدى فخري معلومات كافية عما يجري في المدينة، مع أن عنده غالب باشا شعلان وله صلة قوية بمحمد عبد العال وبغيره الذين تقربوا إليه وأعانوه، ما كانت لدى فخري باشا أجهزة استخبارات، فقد وصل إلى المدينة الشيخ كامل القصاب والسيد محب الدين الخطيب بلباس البدو، دخلوا إلى المدينة وكان الشريف علي والشريف فيصل فيها فانسرقوا بليل إلى العوالي ومنها وصلوا إلى مكة فتولى القصاب مديرية المعارف وتولى محب الدين الخطيب إخراج جريدة القبلة.. ولكنهما ما استطاعا البقاء كما لم يستطع عزيز علي المصري ويوسف ياسين وخير الدين الزركلي البقاء فرجع كل منهم إلى بلده إلا محب الدين الخطيب خال أستاذنا علي الطنطاوي فسكن مصر وأخرج لثقافتنا مجلة الفتح والزهراء وسلسلة الحديقة وعلي الطنطاوي يعرف الأكثر، يعرف كيف أسس محب الدين المطبعة السلفية وكيف أصبح الصديق الصدوق للملك عبد العزيز والصديق الذي كان للأمير شكيب أرسلان يوم عاد أبو غالب ابن ماء السماء إلى القومية العربية، فكل أصدقاء شكيب كانوا أصدقاء محب الدين الخطيب، أمين الحسيني والتاجي الفاروقي وإن تباين نوعاً ما مع محمد علي الطاهر ركيزة النشر في جريدة الشورى لشكيب أرسلان ولي رجاء أوجهه لعلي الطنطاوي أن يصور لي قصيدة الأمير شكيب أرسلان في رثاء شوقي والقصيدة الأخرى في رثاء ابن عبد الحداد عبد القادر الشيبي، أرجو الطنطاوي أن يرسلها إلي، فإنهما يستأهلان النشر في هذه الأيام، فلئن كان شوقي نائحة العرب فقد كان شكيب النائحة على شوقي.
الجريدة
وأسس فخري باشا جريدة الحجاز، فقد وجد مطبعة الكلية الإسلامية التي جلبها صناع هذه الكلية التي لم يتم بناؤها شكيب أرسلان وعبد العزيز جاويش وعبد القادر مغربي وبعون ومدد من كامل الخضر، وكانت الجريدة الحجاز يرأس تحريرها السيد حمزة غوث ولكن الفعال فيها بدر الدين النعسان من أهل الشام ولعلّه لبناني، وكان العمري وعبد القادر الشلبي الطرابلسي ينشران فيها الهجو والحملة على الشريف، أبقت هذه الجريدة على حياة الطرابلسي والعمري يعيشان في المدينة وأعطت لحمزة غوث المكانة والشهرة وكان أهلاً لها، لم يطيقوا بقاءه في الشام حين سافر إليها هو وولده عبد القادر وترك ابنه الصغير أخانا ناصر غوث عند خاله أحمد حواله، وسارت به الأيام وسار به ذكاؤه إلى أن كان من خدام الملك عبد العزيز معاوناً لإمارة المدينة ومفاوضاً في العقير وسفيراً في العراق وإيران، كان رجلاً يعرف موطئ قدمه لم يبق عند مصطفى كمال ولم تدم علاقته بالشريف أحمد السنوسي ولا بابن الرشيد وإنما هي دامت بما ألزم نفسه من الأدب والإخلاص للملك عبد العزيز يرحم الله الجميع.
ومما يذكر أن عبد القادر الشلبي والشيخ العمري لم ينلهم سوء ولم يعاقبوا من الأشراف لموقفهم من جريدة الحجاز.
لا أدري أهو احترام لأنهم علماء أم لأن الضباط من الشاميين كانوا حماة للطرابلسي وأصدقاء العمري من بني عمرو مقبول ومقبل السراني كانوا حماة له.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1736  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 694 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج