طيبة.. رحلة في الزمان والمكان (9) |
الملك عبد العزيز لم يصادر ملك أحد من الأشراف |
والذكريات ليست إلا جغرفة للأرض، أرض المدينة كما أنها مشاهد تاريخية، ليس منها أن تكون مذكرات شخصية، فلن أقحم نفسي متحدثاً عن شخصي وإنما هو الحديث عن المدينة المنورة في عهد الدولة العثمانية العهد الحميدي والعهد الرشادي ثم عهد الأشراف ثم العهد لهذا الكيان الكبير المملكة العربية السعودية، فالذكريات تاريخ من التاريخ عن الأحوال والاتصال والانفصال والرجال وكيف ابتليت بمن حولها وكيف طاب لبعض أهلها أن يعيشوا الفصام بلا خصام ما أشد قربهم لبعض حين لا تكون المادة جراية أو صدقة وما أقوى فصامه حين تكون المادة أحباباً يتقاربون وبالعنعنات كثيراً ما يتباعدون.. أكتب هذه الذكريات فيها ((الأنا)) وإنما كلها الـ ((نحن)). |
السيد أحمد أسعد: |
وليس أحمد أسعد أول الرجال عند السلطان عبد الحميد إذا نظرنا النظرة العامة بالنسبة لشؤون الدولة العثمانية وإنما هو أول الرجال بالنسبة لما فعل في الحجاز وفي مصر.. كان طوال حياته التي عاشها - أيام السلطان عبد الحميد - مكلفاً بما ينبغي للحجاز أو بما يريده السلطان عبد الحميد وفي مكة كان الشريف عون الرفيق عبدلياً من أبي نمي استطاع أحمد أسعد أن يسحب صلته بمصر لأن أسرة أبي نمي العبدلي كانت ذات علاقة قوية بأسرة محمد علي وبكثير من المصريين لأن محمد علي هو الذي نصب محمد بن عون بدلاً عن الشريف غالب.. ولكي يحافظ الشريف عون الرفيق على إمارته لم يجف مصر كل الجفوة وإنما هو تعلق بأحمد أسعد فإذا هو يخطب ابنة السيد أحمد أسعد وأحسب أن اسمها فاطمة زوجاً للشريف عبد العزيز بن عون الرفيق.. كانت هذه المصاهرة التي أعطت للشريف عون الثبات على إِمارته فلم يعزل رغم كثرة الشكوى منه إلى السلطان فأيما شكوى وصلت إلى السلطان عبد الحميد يراها أحمد أسعد برغبة السلطان وآخر شكوى وصلت (إلى المايين) كانت مضبطة وقعها أعيان مكة عرفت منهم عن طريق الرواية عميد آل الشيبي لا أدري أهو عبد القادر أم غيره والشيخ عابد مالكي ومن إليهم أخذ المضبطة أحمد أسعد وأرسلها للشريف عون فإذا الشريف يدير الأمر بحكمة فلم يدع أحداً من هؤلاء الذين وقعوا المضبطة بل أمر محمد عبد الواحد الكاتب والد درويش كاتب أن يخبر هؤلاء بأن الشريف علم عنهم فخافوا بطشه وخرجوا إلى الطائف.. وهنا العجب.. كيف أمنوا في الطائف هل لأنه تركهم أم لأن نفوذه ليس قوياً على الطائف.. على ثقيف.. على بني سفيان.. على النمور سيان ولكن عون أقسم أن يرفعوا الأقلية عن الأكثرية أو المقلين عن الكثيرين.. |
تجنبت ذكر الكلمة نصاً سمعتها من الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن تغمده الله برحمته وهو يدفع عن نفسه أن يكون مثل من سبق وجدير بي أن أؤيد ذلك فعبد العزيز بن عبد الرحمن لم يصادر ملك أحد من الأشراف ولم يرزأ أحداً منهم بسوء حتى أبناء عون حينما كشف أمرهم خرجوا بسلام ومعهم ما يملكون وآل غالب لم يصادر لهم شبراً من الأرض بل فعل العظيم من فعله دعاهم أن يرجعوا إلى مكة من الأناضول.. أبناء عمهم لم يرجعوهم وأرجعهم عبد العزيز وأعطاهم ما يملكون فإذا هم في العزة يعيشون وفي الوطن لا يغتربون. |
أحمد أسعد ثبت عوناً في إمارته طول حياته ومات عون في أواخر عصر عبد الحميد وفي جدة كان مع الأفندي عمر نصيف يساعده ينصره على موسى بغدادي حليف العبادلة فمكث عمر نصيف السيد في جدة يصاهره أحمد هزازي والحاج زنيل وبيت طبيله والمغربي لقد صنع أحمد أسعد لعمر نصيف الشيء الكثير وقد رأيت الأفندي محمد حسين نصيف وكان له في جدة وفي العالم الإسلامي وعند آل سعود ومشايخنا مقام كريم رأيته الوفي لأسرة أحمد أسعد. |
أما في مصر فهي العجيبة والعهدة على الرواة سمعنا أن الخديوي إسماعيل لجأ إلى أحمد أسعد ليصدر فرماناً من السلطان بحصر وراثة الخديوية في إسماعيل وبنيه فلم يتول الأمر في مصر بعد إسماعيل إلا بنوه توفيق وابنه عباس وحين خلع عباس - على يد الإِنجليز - تولى السلطان حسين كامل لأن الإنجليز ألغوا الخديوية وأحدثوا السلطنة ثم تولاها الملك فؤاد بن إسماعيل ثم ابنه فاروق ((وتلك الأيام نداولها بين الناس)) إن ذلك يدل دلالة أكيدة على خطورة ما صنع أحمد أسعد ولا أريد أن أنسى أن الملكة دينا ابنة الشريف عبد الحميد بن عبد العزيز بن عون كانت جدتها بنت أحمد أسعد. |
وفي المدينة المنورة ارتفع قدر بعض الأسر الذين كانوا لأحمد أسعد أصهاراً أو أصدقاءً وللإنصاف لم يضغط أحمد أسعد على الأسر القديمة وإنما هي الأسر الجديدة التي ترسخت لها أقدام في المدينة هي التي ارتفعت بنفوذ أحمد أسعد ولا حاجة لذكر الأسماء حديثها وقديمها. |
ودالت الأيام وفي عهد الأشراف فرغت - يد السيد أبو السعود بن أحمد أسعد - فإذا بابنه هاشم مفتش في البلدية وإذا بالسيد عبد المحسن أسعد وحسن أسعد يعيشون في مصر فتناسلوا هناك لأن القصر في مصر حفظ لأحمد أسعد صنيعه. |
ولا أنسى مرة أخرى أن الخديوي إسماعيل عندما تلقى الفرمان وهب السيد أحمد أسعد خمسة عشر ألف فدان من الأرض الجيدة فرفض قبولها أحمد أسعد وقال: لا آخذ أجراً أو رشوة على عمل كنت الوسيط فيه لدى السلطان. |
وفي هذا العهد - عهد المملكة العربية السعودية أقص خبرين عن أبي السعود أحمد - أو هما أخبار ثلاثة. |
فالخبر الأول كان في حفل زواج ابنة السيد أحمد أسعد على محمد رضا والد السيد أحمد رضا وأرسل الشريف عون من يمثله وموسيقاه على رأسها يوسف قطان ويذهب عمر نصيف يستقبل الضيوف كأنه من أهل البيت فقال أبو السعود لعمر نصيف (خلي الشيخ يوسف قطان يدخل مع الضيوف) فقال عمر نصيف لا.. خليه يحافظ على مقامه فيما هو موكل إليه). |
والخبر الثاني وفي هذا العهد الميمون في أوائل الخمسينات الهجرية وصل إلى المدينة يوسف قطان وابنه عباس ورغب أن يشتري أرضاً في المدينة ولعلّكم لم تعرفوا أن عبد الله باشا باناجه ويوسف قطان وبعض العبادلة كانوا أصحاب ملك في مصر وبواسطة السادة آل المدني زين العابدين وإخوانه توسطوا عند أسعد إبراهيم أسعد فاشترى حصته من أرض السبيل أمام باب الشامي أمام شيخ النمل أمام سقيفة بني ساعدة وعند كتابة الصك يبيع أبو السعود أسعد حصته من السبيل كان القاضي السيد أحمد البرزنجي فعز عليه ألا يعلم أبو السعود أسعد عن هذا الذي يقسم أرض السبيل قسمين فبصورة وبأخرى أجل كتابة الصك لليوم الثاني وأخبر أبا السعود أسعد عن الصفقة وما كاد القاضي ينص الإِفراغ بيع النصف ليوسف قطان حتى أوقف أبو السعود أسعد نصف السبيل مشاعاً فأوقف ما يملك ليعطل القسمة تباع لما يملك ابن أخيه كبرياء وأي كبرياء مع أنه كان في حاجة ماسة إلى قيمة هذا النصف لو باعه وبلغ التعصب المديني يحيى أبو السعود أسعد ولكن الملك عبد العزيز عوض عباس قطان بأرض المرادية على عدوة بطحان ((أبو جيده)) وعلى الشرق من حزم العنبرية. |
أما الخبر الثالث ففي ضحى يوم كنت أجلس عند الصديق صلاح الدين عبد الجواد في دكان أبيه في سويقة فإذا أبو السعود أسعد وصل إلى حيث نجلس قادماً من جهة المسجد وإذا أبو أحمد سعود دشيشة قادم من جهة باب المصري إلى المسجد فأمامنا والشارع ضيق تحاذى كتفا الرجلين فلم يقرئ سعود دشيشة السلام على أبي السعود ولم يقف ليحييه حتى إذا مر خطوة التفت أبو السعود أسعد ينظر إلى سعود دشيشة نظرة محترقة حارقة.. إنها خصومة محمد ظافر وأحمد أسعد بعد أن زال كل شيء لهما بوفاة السلطان عبد الحميد فسعود دشيشة كان لمحمد ظافر والأيام دول.. |
المدرسة وخريجوها |
وقلت أكثر من مرة إن الأمية قد انمحت من المدينة قبل أكثر من مائة عام.. مدرسة إعدادية.. وثماني عشرة مدرسة تحضيرية.. وأكثر من خمسة عشر كتاباً، ومدرسة دار المعلمين كل هذا الكم مضافاً إلى المسجد محا الأمية فإذا أبناء المدينة يحملون عبء الوظائف في اللاسلكي ومشروع الخرج والسكة الحديد ووزارة الدفاع وفي مصالح أخرى.. الأمية حين انمحت أصّلتهم والقسوة حين اشتدت أرسلتهم.. |
إن الذين تخرجوا من المدرسة الإِعدادية كانوا طليعة الرجال في المدينة. لم تحتج وظائف الدولة إلى مجلوب أو متقاعد ولعلّي أسرد أسماء الذين تخرجوا من هذه المدرسة من الفوج الأول جميل أحمد، ماجد عشقي، محمود أحمد، صالح كردي، أكلوراني، إسماعيل حفظي، حامد حمد الله.. وبعدهم طالب توفيق، عباس توفيق، عبد الله توفيق وبعدهم حسين طه، أحمد أبو بكر حمد الله، محمد علي طه، محمد مغيربي، عبد القادر عبد الجواد وبعدهم مصطفى عطار، صالح طوله، محمد خاشقجي، علي حمد الله، أحمد زارع سنده، كامل هاشم.. كل هؤلاء عملوا وكانوا الطليعة. |
وأحب أن أضع تعريفاً ليس هو الترجمة لواحد من الذين ذكرتهم والذين خرجتهم المدرسة فأصبحوا الرجال أدوا الواجب نحو أنفسهم وما تأخروا عن تحمل ما ينبغي لمدينتهم، أحب التعريف لهم بالقدر الذي عرفت به كلهم رأيتهم وعرفت أكثرهم معاشرة أو مصادقة أو سماعاً. |
ماجد عشقي |
السيد ماجد عشقي ما كان يصلح صاحباً وإنما هو الصالح بكل الصدق صديقاً، ابتعد عن الكثير واقتربت منه قلة تصادقه عقله أقوى من عاطفته، لأن عاطفته حصرها في الحب العظيم فاقتصرت على هذا الحب، تزوج هذه الحبيبة وهي ابنة زين العابدين توفيق أبو السيد ماجد خاله، فهي من نسل عمته، أحبها، سعد بها، لكنها ماتت نفساء في أيام قاهرة يوم احترقت القلعة في باب الشام.. يومين متتالين قذفت قنابلها على البيوت التي هي قريبة منها (زقاق جعفر، حوش العبيد) كان الحريق لم يتجه إلى سمت الجنوبي، ولم يغرّب ولم يتشامل، ماتت الزوجة فبقي السيد ماجد ثمانية عشر عاماً لم يتزوج ثم تزوج ابنة أستاذنا الشيخ قاسم أنديجاني فهي أم بنيه الآن، وحين تخرج السيد ماجد عين مديراً للمدرسة الرشدية في جدة، ومصادفة غريبة - أو هي حبيبة - أن يتولى إدارة مدرسة جدة اثنان.. صديقان ومن زقاق جعفر الأول ماجد عشقي في عهد الأتراك والثاني السيد أحمد صقر في عهد الأشراف، وأصبح الاثنان بعد زميلين كأستاذين لنا.. |
وحدثت للسيد ماجد طرفة، حانت الإِجازة وعزم على الرجوع إلى المدينة، أحب الرجوع سريعاً.. لم يركب الجمل من جدة إلى المدينة فالمراحل طويلة لعلّها تبلغ أكثر من ثمانية أيام، فعرف أن السفينة الشراعية مسافرة إلى ينبع، فأراد أن يختصر الزمان.. هي ليلة من جدة إلى ينبع في السفينة وأربع ليالٍ من ينبع إلى المدينة، ذهب إلى السفينة وقد طلع الهلال، رأى الهلال على وجه أحد مودعيه فتفاءل برؤية الوجه الجميل ولكن لم يصل إلى ينبع إلا بعد ثمانية عشر يوماً! لأن (الحاية) أي الريح عاكست السفينة الشراعية. |
وجاء يوم وإذا هذا الشاب أصبح رجلاً كبيراً قيمة ومقاماً يحييه السيد ماجد عشقي، يكتم الضحكة في صدره ثم يقصّ عليّ هذه القصة، قلت له لقد شاب، وحين رأيته الآن لم يكن الهلال، مرضت بذات الرئة كان يزورني وفي آخر زورة قام ليترك المكان إلى الزائرة (المحترقة) التي أحرقت المرض عني. |
لقد كان السيد ماجد ذواقاً، فحين خرجت أزور المدرسة وأنا في دور النقاهة قال: كانت تلك الزائرة هي العافية للعافية، وحين احترقت لم أخبره لأني لم أرد نكء جراحه الأولى التي ما نساها إنما هو يتناساها. |
حامد حمد اللَّه |
لعلّه من الفوج الأول من الذين تخرجوا من المدرسة الحميدية. هو من أهل ينبع من بيت حمد الله وزارع أخاه علي حمد الله وأبناء عمه آل زارع، رأيته في ينبع أيام فخري باشا حينما سافرنا إليها، ابن عمه أبو بكر حمد الله كان مدير المدرسة. رأيت حامداً أبيض طوالاً كان في ينبع مديراً للسوقيات وحسين باسلامة رئيساً للبلدية بعد عبد القادر عبده والسيد مصطفى الخطيب القائمقام، السوقيات هي تموين الجيش الشريفي، سواء ما يسمونه عرض الشريف علي في ((الفريش)) أو عرض الشريف عبد الله في ((وادي العيص)) أو عرض الشريف فيصل يوم تشامل حتى العقبة وبعد العقبة كان التموين له عن طريق آخر، ولكن كيف أصبح مديراً للسوقيات؟ |
يتسلم كل ما يصل إلى ينبع عن طريق العون الإنجليزي من المال والدقيق والسكر والشاي وما إلى ذلك. كان المدير الأول للسوقيات صادق باشا يحيى المصري الذي أصبح فيما بعد وزيراً للحربية المصرية، وضاق الحسين بن علي به كما ضاق بعزيز علي مصري وكما ضاق بكامل القصاب فقال الحسين يرحمه الله من لي بحجازي، يدير السوقيات فكان حامد حمد الله هو الذي أمسك بها. |
والغريب أنه ما ترك ثروة وراءه ولقد تولى بعد ذلك رئاسة ديوان أمارة المدينة قبل عبد الله عمير أو قبل رشيد أفندي، أما أخوه علي حمد الله فكان في الديوان مسؤولاً عن البرقيات والشفرة، حامد حمد الله مدير بنك القاهرة وعلي حمد الله والد حامد حمد الله الذي كان سكرتيراً لوزير المالية للمملكة العربية السعودية حتى عهد معالي الوزير محمد أبا الخيل.. |
|