شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
طيبة.. رحلة في الزمان والمكان (4)
المسجد أول جامعة في الإِسلام
المسجد - السكة الحديدية - ضم المدينة للشام
والكلام عن المسجد النبوي يشتمل على كثير مما ينبغي ذكره بل ومما يجب له، فالمسجد كان مدرسة جامعة وللصلاة وهو الصلة لأن صلاة الجماعة تتقوى بها الصلات بين الذين يصلون فيه، والمسجد في بدء الإِسلام كان منار العلم فيه تعقد حلقات الدرس ويتعلم الجاهل ويتخرج العالم ويهتدي بالعلم (( الذين يسمعون القول فيتبعون أحسنه )) .
فالنبوة على حراء (( اقرأ )) كانت المدرسة الأولى.. والرسالة على الصفا كانت المدرسة الثانية، أما المدرسة الثالثة فقد كانت على الصفا أيضاً، فهي في دار (( الأرقم بن أبي الأرقم )) المشرف على الصفا حتى قالوا لو أن أحداً مد يده من الطاق في دار الأرقم لانتزع قلنصوة المنصور وهو على الصفا.
أما المدرسة الرابعة كبرت واتسع فيها العلم فهي الجامعة الأولى في الإسلام أعني المسجد النبوي.
إن المسجدين المسجد الحرام والمسجد النبوي، والمربدين مربد البصرة والكوفة قد طبعت بصمة كل جامعة من هذه الأربع على كل خريج من مدرسة أو جامعة.
فعلى الأزهر بصمة المسجدين والمربدين وعلى الجوامع في تونس والجزائر والمغرب وحتى قرطبة في الأندلس، الإِمام الأول، المعلم الأول لهؤلاء هو الإِمام في المسجدين والإِمام في المربدين وحتى كل الجوامع والجامعات شرق السويس وشرق بحر العرب لم تكن إلا والمسجدان والمربدان كانوا لها وتكون علم عالمها حين كانوا بها.
إن المسجد النبوي يعرف الكثير من القراء سير الأئمة الذين كانوا فيه فلا حاجة لي تدعوني أن أذكر قارئاً بهم، غير أن ذكرياتي عن علماء المسجد وأئمة الصلاة فيه أذاكركم بها مذكراً بمرحلتين: مرحلة أن سمعت عن علماء المسجد في العهد العثماني ومرحلة أن رأيت فيما بعد.
فقبل أن أرى أو أن أسمع وبعد العشرينات إلى الثلاثينات من سني الهجرة، عرفنا كيف كثر العلماء في المسجد النبوي ومن هم، فمن المغرب كله حمدان بن الونيس، العزيز بن الوزير، عبد الحميد بن باديس، البشير الإِبراهيمي، وعمر حمدان المحزري، والطيب العقبي والشيخ الحبيب، والخضر بن ما يأبي الحكني الشنقيطي، الألفا هاشم والفلاتي، والمالي والشيخ حميدة، محمد الطيب الأنصاري المعروف بالتمبكتي. ومن الهند عبد الباقي الأنصاري، حسين أحمد خليل أحمد صاحب ((بذل المجهود في الشرح على أبي داود)).
ومن مصر الشيخ العايش، والأخميمي، ومحمود شويل، ومصطفى صقر، ومحمد صقر وحسن الشاعر، ومن ((القصيم)) صالح الزغيبي، محمد العلي التركي.
ومن الشام عبد القادر الطرابلسي الأول، عبد القادر الطرابلسي الشلبي الثاني وجمال الدين القاسمي في زورة لم تطل أيامها.
ومن أفغانستان حبيب الرحمن الذي أفاد الكثيرين: أما من هم من أهل المدينة فالمفتي الداغستاني وأبو بكر الداغستاني وجعفر البرزنجي وأحمد البرزنجي وابنه زكي البرزنجي وإبراهيم البري وابنه عمر بري ومحمد زاهد وقبلهم مأمون بري وابن أخته عمر الكردي الكوراني حفيد الشيخ إبراهيم الكردي الكوراني الذي انتهى إليه السند العالي والذي أخذ عنه شيخ الإِسلام محمد بن عبد الوهاب ثم ((حمد كماخي)).
كان المسجد النبوي بسط حلاه وتقواه على هؤلاء العلماء كانوا أعلاماً ولا بد أن نأتي بطُرف عن بعضهم عرفناها.
حمدان بن الونيس قرأنا عنه ما كتبه أمير البيان أبو غالب شكيب أرسلان في حواشيه على الكتاب ((حاضر العالم الإِسلامي)) ترجمة عجاج نويهض، أحد الذين أشبعونا بالترجمة عادل زعيتر، فتحي باشا زغلول.
كان الأمير شكيب قد وصل إلى المدينة المنورة ومعه من مصر عبد العزيز جاويش أحد زعماء الحزب الوطني وعبد القادر المغربي أحد الأعلام مغربياً وشامياً، جاءوا إلى المدينة ليؤسسوا الكلية الإِسلامية، وبدأ البناء بالفعل، ثم الأساس، وارتفع بعض سورها، ولكن العمل توقف حين بدأت نذر الحرب العالمية الأولى، لم نقرأ لعبد العزيز جاويش ولا لعبد القادر المغربي ما كتبوا عن علماء المسجد.
إن الأمير شكيب أرسلان أعجبه حمدان بن الونيس حتى أكاد أزعم أن هذا الحديث الذي كتبه في حاضر العالم الإِسلامي لم يشتهر لدينا على الأقل إلا من صنع شكيب حين تكلم عن ابن الونيس، فالحديث هو يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على القصع.. قالوا أمن قلة يا رسول الله، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم لا، ولكن غثاء كغثاء السيل إنما يدرككم الوهن.
قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟
قال عليه الصلاة والسلام: حب الدنيا وكراهية الآخرة أو كما قال حب الحياة وكراهية الموت.
أعجب الأمير شكيب بابن الونيس وأعجبه الشيخ حسين أحمد شيخ الجامعة الهندية الإِسلامية جامعة ديوباند. وحسين أحمد هو ابن المدينة أيضاً حتى أطلقوا عليه حسين أحمد المدني وأخوه السيد أحمد ((الفيض آبادي)) مؤسس دار العلوم الشرعية وأخوه جميل أحمد أول من ابتعث من المدينة المنورة إلى الآستانة في أواسط العشرينات. وهنا ينبغي أن أستدرك على الذين ظنوا أن عبد الرؤوف صبان هو أول مبتعث من الحجاز لأن قبله جميل أحمد وقبله أيضاً حسين طه وأحمد أبو بكر حمد الله، كما كان قبله محمد المغيربي وعبد القادر عبد الجواد.
عبد الرؤوف ابتعث إِلى مصر عام 1328هـ بعد حج الخديوي عباس، فالخديوي عباس كان يقلد السلطان عبد الحميد يريد أن يجمع حوله رجالاً من هنا وهناك، كما أخذ من المدينة حسن ناصر بن دياب ناصر وكما التفّ حوله بعض الذين ظن أنهم يصلحون سنداً له أو دعاة للخلافة التي يطمع فيها، ولا أدري كيف كان ذلك كأنه لم يحسب حساباً للمندوب السامي كرومر ومن جاء بعده حسن أحمد وكما ذكر عبد الحميد بن باديس شيخ المسجديين الذين نهضت بهم الجزائر، فعبد الحميد بن باديس الذي نأخذ ما ذكر عن حسين أحمد، هاجر إلى المدينة فراراً من الاستعمار الفرنسي حتى إذا اجتمع بالسيد أحمد، قال له: لماذا جئت هنا وماذا تصنع؟ قال: أفكر لعلّ فرصة تسنح لشن الحرب على الفرنسيين.. فقال له حسين أحمد إذا انتصبت للجهاد فكن في أرض الجهاد.. ارجع إلى الجزائر.. وعاد عبد الحميد بن باديس وكان الشيخ الأول لثورة الجزائر.. فهو لم يكن عربياً عرقاً لأنه صنهاجي بربري، إذا أسقطنا عن البربر نسبهم الحميري من أنسال الحميريين جند ذي القرنين المصعب ابن الحارث اليماني.
فهو إن لم يكن عربياً عرقاً فهو المسلم معرقاً والعربي استعراقاً.. الله أكبر.. ألم يعرّبه القرآن؟
عبد الحميد بن باديس هذا الصنهاجي حين شبع من القرآن دافع عن بني هلال فبعض من هم هناك يذم بني هلال وسليم بأنهم خربوا حين عبثوا بقرطاج.. فقال هذا القرآني العربي يدافع عن العرب.. لئن قيل إنهم خربوا فلنقل: إنهم عرّبوا. لقد صدق، فالفتح الأول لم يعرب الأكثرية، من المغرب وإنما الذي عرب الكثرة فبنو هلال وبنو سليم، ولا ننسَ من تناسل من إدريس بن إدريس بن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط.
أما جمال القاسم العالم السلفي صاحب التفسير فقد اتصل بعالم المدينة حينذاك أحمد البرزنجي صلة توثقت بينهما وقطع صلته بعبد القادر الشلبي حيث اختلفا في المشرب، ذلك السلفي والثاني ماتوردي حتى إنه قسا عليه في مذكراته.
لقد ترك هؤلاء بصماتهم على طلبة العلم في المسجد، وما دامت الذكريات تتسع لبعض الطرف فلأتوسع، كنا في بستان العمرانية قبل الظهر جماعة من الأصدقاء نقيل هناك وكنا نسمع أغنية محمد عبد الوهاب ((علموه كيف يجفو فجفا)) فإذا الحارس الذي يخطرنا بمن نخافه أو من نستحي منه ونحن نسمع الأغنية أخبرنا وهو يسرع الشيخ إبراهيم بري.
فأسرع أخوه الشيخ عبد العزيز بري يرحمه الله يسكت الأغنية وقمنا نحيي الشيخ إبراهيم بري فلما جلس قال: أعيدوا ما كنتم فيه لقد سمعت شيئاً أعجبني.. فأعدنا الأغنية فقال:
إنه أحمد شوقي.. إنه محمد عبد الوهاب.. وخطرت على بالي سابقة لمعاوية بن أبي سفيان كأنما إبراهيم البري ابن العقيق قد ورث عن عبد الله بن جعفر ابن عمه، قال البري كما علمنا أنهم من ولد محمد بن الحنفية بن علي بن أبي طالب. ورث حلي العقيقي يوم كان عبد الله بن جعفر بن أبي طالب حارس الفن، كل مجلسه طرب وزاره معاوية بن أبي سفيان ومعه عمرو بن العاص وفي زعمهما أو عزمهما أن ينكرا على عبد الله بن جعفر هذا الترف. هذا الطرب وحين علم ابن جعفر بحضور معاوية وعمرو بن العاص أسكت الغناء - كما فعلنا - حتى إذا أخذ معاوية مجلسه قال لعبد الله أعد ما كنت فيه فارتفع صوت لا أدري أهو صوت طويس أو عزة الميلاء من وراء ستر فاهتز معاوية طرباً، فقال له: عمرو هوّن جئت تنكر عليه، فقال معاوية: دعني فإن الكريم طروب.
السكة الحديد
ـ ووصل القطار يجري على سكته الحديدية إلى المدينة المنورة فإذا هو بعد يحدث التطور.. كثرة المهاجرين.. تنويع الآكال كثرة المجلوب من الشام كالبرتقال والبطيخ اليافاوي والدقيق ((الفرخة)) وحنطة الجولان وأنواع الياميش، كأنما المدينة أصبحت سوقاً لخيرات الشام.
الدقيق ((الفرخة)) له عرق تصنع منه الفطائر فإذا هو يأخذ من المدينة ميزة وهي صناعة قوس الرق أي الفطائر وأنواع البوريك والمطبق.. كانت المدينة تمتاز بهذا لأن حنطة المعية التي هي من نبات المدينة أو من نبات عالية نجد لها عرق يصنعون منها الرقاق والفطائر حتى قال أهل مكة إن أهل المدينة يصنعون الفطائر.
كان ذلك حيث لم يصل إلى المدينة الدقيق ((الفينو)) فالامتياز ليس من صنعة الصانع فحسب وإنما هو من مرونة الدقيق من دقيق المعية. وحين كثر الدقيق الأبيض أصبح كل من هب ودب مطبقانياً يعني ((أهله سيبوه والجن استلقوه)) فأول التطور حرب على المعية كان الدقيق الأبيض من الشام، ثم الدقيق الأبيض الفينو من الأرض التي صنعته.
واحتفلوا بقدوم القطار.. وعز علينا وقد كنت طفلاً أن نعرف من حضر يشارك في هذا الاحتفال من الأقطار العربية والمسلمة.. غير أن صلة صديقنا الشيخ محمود شويل علمنا منه أن من الذين حضروا الاحتفال كانوا علي كامل صاحب اللواء، شقيق مصطفى كامل زعيم الوطنية في مصر ولطفي السيد صاحب الجريدة لسان حال حزب الأمة، والشيخ علي يوسف صاحب المؤيد الذي كان مصرياً وخديوياً، ومحمود شويل حين عرف ذلك لأنه اتصل به واقتنصه علي يوسف فاختاره مراسلاً للمؤيد.. لماذا كان ذلك؟
لطفي السيد ((مصر أمة وحدها)) لا شأن له بما يجري في المدينة وعلي كامل ((مصر الخلافة العثمانية)) لا يحتاج إلى مراسل في المدينة أما علي يوسف فلهوى الخديوي أحب أن يقتني مراسلاً كما هي رغبة الخديوي في جمع بعض الرجال حوله.
إن السكة الحديدية لم يقتصر تطويرها على الدقيق وعلى بضائع الشام وإنما جاء معها تطور أكبر نكتبه بعد.
صلة المدينة بالشام
وكانت المدينة تقليدياً تابعة لشريف مكة لا نفوذاً له وإنما هو شيء من التنفس والحرص على وحدة الحجاز.. فعزم الاتحاديون وبتطور السكة الحديدية أن يفصلوا المدينة عن مكة فما انتدبوا تركيا وإنما كان مندوبهم علي رضا الركابي، ضابطاً من نوابغ السوريين تولى رئاسة الوزارة بعد في الشام وفي الأردن.. كان من الأذكياء لكنه لم يؤخذ بالقومية، فقيمته الشخصية أن يكون عثمانياً.
جاء إلى المدينة وسعى إلى الكبار من أهلها، فالقدامى من الأسر لم يلبوا طلبه والمحدثون منهم كانوا له.. ولم يشذ عن الأسر القديمة إلا الشيخ أبو الحسن السمان، فهؤلاء وافقوا علي رضا ووقعوا مضبطة فيها طلب فصل المدينة عن مكة وضم المدينة إلى الشام والحجة هي سرعة الاتصال.. القطار والتلغراف.. فالتلغراف وصل إلى المدينة عام 1318هـ وكان في خفارة علي ناصر.. وتم فصل المدينة. والواقع أن ذلك قد يسَّر كثيراً من الأعمال بينما شريف مكة الحسين بن علي يرحمه الله قد غضب فعاتب السمان لأنه ابن لصديقه، كان مرًّا في عتابه وقاسياً في شكيمته ولكن لا حول ولا قوة له فمضى الأمر.
ولا بد لي من أن أستطرد في بعض الذكريات عن الطرائف والمواقف لعلماء المسجد النبوي، ليكون التمام على ما سبق.
فالسيد حسين أحمد كان في المدينة ولعلّه لم يزمع الخروج منها يذهب إلى الجامعة المسلمة (ديوبند)، ولكنه لسبب تصورت أني علمت فدونت، بينما الواقع أنه لم يكن ذلك هو الحق، كنت أظن وهو في المدينة، وقد اتسعت صلاته بعلماء المسجد ينصح بن باديس ليعود إلى الجزائر، كما سبق أن ذكرت ويعجب الأمير شكيب أرسلان به، كنت أظن أن (إحسان الله) قد كتب تقريراً عنه إلى المخابرات البريطانية، فإذا هم يتربصون به، يقع في قبضة أيديهم، يُنفى إلى مالطا، وكان هذا الظن خاطئاً، والصحيح أنه جمع أموالاً تبلغ أكثر من مليون روبية، فذهب بها إلى الطائف عوناً للباشا التركي ضد موقف الحسين بن علي، فحكومة الشريف هي التي سلمته للإنجليز.. ينفى إلى مالطا لأنه وقد كان في المدينة لا تصل إليه يد الإنجليز.. ومن هو إحسان الله؟‍..
إنه رجل من مسلمي الهند بقي مدة ثمانية عشر عاماً في المدينة المنورة بواباً على باب النساء أحد أبواب المسجد النبوي، بينه وبين الصديقين الأخوين عبد الحق النقشبندي وعبد الحميد عنبر قرابة من ناحية النساء، فكانت هذه القرابة الساترة لحاله، لم يعرف أهل المدينة عنه إلا أنه البواب على باب المسجد، ويا للغرابة التي دهشت رجالاً من أهل المدينة، كانوا في دمشق حين رحلهم فخري باشا من المدينة، منهم زين صافي وزين مدني، وبعض الشباب أسعد طربزوني إبراهيم شاكر وغيرهم حتى إذا احتل فيصل بن الحسين دمشق حين نزح عنها جمال باشا وحين دالت الدولة على حكم الأتراك، وحتى إذا رأوا المرشال الإِنجليزي ((اللنبي)) داخلاً دمشق ليوطد الأمر لفيصل رأوا البواب على باب النساء إحسان الله ضابطاً كبيراً يدخل مع ((اللنبي))، أدهشهم ذلك يقيم في المدينة بواباً لمدة ثمانية عشر عاماً.. بينما هو من رجال المخابرات البريطانية وأحد الضباط الكبار في حاشية المرشال البريطاني، أهو ذكاؤه كتم أمره، أم هي الغفلة، حتى إن الباشا التركي سواء كان بصري أو فخري لم يعرفا عن إحسان الله أنه رجل مخابرات بريطاني؟‍ وقبض الإنجليز على حسين أحمد ثم أطلق سراحه ليكون أحد شيوخ الهند المسلمة.
وزار مدرستنا في المدينة المنورة فحييته بخطب، وفي رحلتي إلى الهند بصحبتي للشيخ محمود شويل، زرناه في ديوبند وأعد لنا عشاءً لم أذق مثله أرزاً له نكهة وله طول لم نعرفه في المدينة فسألته من أين هذا الأرز؟ لعلّه قال لي إنه من (سهر أسبور) وكان من أهل الحديث غير أنه متعصب لأبي حنيفة كأنه من تلامذة الطحاوي أو محمد بن الحسن الشيباني، واختلفنا معه قال: أنتم العرب السبب في استعمار الهند: أسقطتم الخلافة فقوي نفوذ الإِنجليز في الهند. وأجبته: إمبراطورية الهند هي السبب في استعمار العرب، فالذي أسقط الدولة العثمانية هو خط برلين بغداد وبعض سلطانها على قناة السويس، فحين كان العرب في طريق الهند استعمر الإنجليز العراق وفلسطين وقبلهما مصر. ودَّعناه شاكرين ولم يأت الخلاف في هذه النقطة إلا ونحن نذكر له الخير.
وما دام الشيء بالشيء يذكر، ففي أواخر أيام الأشراف بقي في المدينة شيخه خليل أحمد ليكمل شرحه لأبي داوود، وسماه (بذل المجهود في شرح أبي داوود) أكمله في المدينة وكان ضيفاً صديقاً في دار العلوم الشرعية التي أسسها صديقه تلميذه أخو حسين أحمد، السيد أحمد الفيض أبادي، وكما أضيم السيد حسين أحمد لأنه نصير العثمانيين فقد أضيم خليل أحمد حين أغلق الشيخ عبد القادر شلبي الطرابلسي دار العلوم الشرعية في أواخر عهد الأشراف بحجة أنها مدرسة وهابية، والسبب أن خليل أحمد وحسين أحمد وكل جامعة ديوبند أهل حديث ينصرون مذهب أبي حنيفة، كما قلنا على طريقة الطحاوي، أما الشيخ عبد القادر شلبي وعبد الباقي الأنصاري وهو من لكناو، فقد كانا من قسم الأحناف، الذين لهم آراء ليست من الحب لرسول الله كما زعموا.
أما البشير الإبراهيمي، فقد زامله أستاذنا السيد محمد صقر يدرسان على الشيخ العزيز ابن الوزير الجزائري أو التونسي، ورجحت الجزائري لأن بيته الكبير في المدينة في زقاق البدور الذي كان اسمه في عهد النبي (المناصع) والذي علمت عائشة أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله - كما هو نعت الإِمام مسروق لها - حين علمت بلغو الإفك من عمتها وهي ذاهبة للمناصع تقضي الحاجة، إن بيت العزيز بن الوزير وراء المدرسة الإِعدادية ثم الراقية ثم المناصرية وعلى طريق بيت الرفاعي كان القيم على البيت وحافظ المكتبة الكبيرة هو أستاذنا (العريف محمد بن سالم) الجزائري العقبي.
البشير الإبراهيمي توثقت صلته بالسيد أحمد البرزنجي، ومن مزايا البشير أنه صاحب عيون البصائر التي حجزها أحمد بن بيلا مع أن صاحبها كان من زعماء ثورة الجزائر، ولعلّ الشاذلي بن جديد قد احترم البشير الإِبراهيمي، فوزير خارجيته طالب الإِبراهيمي هو ابن الشيخ البشير، كان همّ البشير أن يلتفت العلماء إلى دراية الحديث، فليس لهم حاجة في الرواية لأن كتب السنة قد دونت وطبعت، فالرواية شغل يفخر به الرواة، أما الدراية فعنها ينتشر الفقه ويعرف ما ترمي إليه السنة، وكان ينازع في ذلك السيد الشيخ عبد الحي الكتاني، وإبان الثورة وبعدها لجأ البشير الإِبراهيمي إلى المملكة فأحاطه الملك فيصل بكل التكريم، فموقف محمد سرور الصبان مكرماً للبشير الإِبراهيمي، لم يكن إلا عن طريق تكريم الملك فيصل له، كان حاجاً ضيفاً على محمد سرور الصبان، وكان مفتي مصر السابق محمد حسنين مخلوف ضيفاً كذلك، جمعهما الصيوان في عرفات، وأخذ المستفتون من الحجاج يتوافدون يسألون مفتي الديار المصرية حتى إذا طرح السائل مسألته يسأله الشيخ مخلوف (إيش مذهبك؟) فإذا كان ينتسب إلى مذهب، أفتاه بقول المذهب، واشتد البشير يطلب من محمد سرور أن يغلق الصيوان لا يدخل أحد وقال لمخلوف: لماذا تسأل عن المذهب فأنت تعرف القاعدة الأصولية العامي لا مذهب له، المذهب للمفتي، إن رأى مخرجاً يسر عليه وإن رأى مسرفاً عسر عليه. كلمة حق ينتصر به الحق ولا يهزم المذهب وأراد طبع عيون البصائر فأعطاه محمد سرور أجرة الطبع ولكن البشير أنفق المال على من احتاج إلى مال، ثم طبعت عيون البصائر مرة أخرى.. يرحم الله علماءنا.
أما أحمد البرزنجي فقد كان المفتي ولكنه عزل لأن منافسيه وقد ذهب نفوذ أحمد أسعد بصولة الاتحاديين سعوا إلى عزله، حتى إذا تمت الصلة بينه وبين جمال الدين القاسمي، طلب من جمال الدين أن يسعى له يعود للإفتاء، ذكر ذلك جمال الدين في مذكراته، بقي أن نعرف هذه النسبة (البرزنجي) فالذين لا يعرفون أصل هذا النسب يحسبونه نسبة إلى (البرزان) أو (الطروبيته) التي ينادي بها الجنود (للكروانة) يعني العشاء أو الغداء، إن أصل هذه النسبة إلى الأكراد البرزانية في شمال العراق ولعلّكم سمعتم اسم زعيمهم مصطفى البرزاني، فهي في العراق برزاني، وفي الشام برازي، ومنهم بيت كبير في الشام كان من بينهم رئيس وزراء وفي المدينة البرزنجي على الطريقة التركية، هاجروا إلى المدينة من العراق، من القسم الكردي بينما هم من الأشراف فهم سادة وكانوا بيت علم، آخرهم قاضي المدينة طيب الذكر السيد زكي البرزنجي خال السيد عبيد والسيد أمين مدني، وإلى ما يأتي بعد.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1901  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 684 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

ديوان الشامي

[الأعمال الكاملة: 1992]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج