طيبة.. رحلة في الزمان والمكان (3) |
تركة محمد علي باشا في المدينة |
الإنسان ما له وما عليه..
|
ولعلّي أترك الذكريات عن الأرض جغرفة، لأكتب عن إنسانها ساكنها ومن حولها، كيف كانوا يعيشون الانفصام مع الحاكم والخصام مع البادية التي حولهم.. ومن هو صانع ذلك؟!
|
كم هي حرمة المدينة المنورة عظيمة في نفس المسلم.. عظيمة في صفحات التاريخ، سواء كان التاريخ المسلم أو التاريخ الآخر.. هي دارة الهجرة.. هي الدار والإِيمان (إن الإِيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها)، فهذه القيمة للمدينة المنورة كيف يتأتى أو يجوز لعربي مسلم صاحب سلطان، أو صانع فتنة، أن يهتك حرمتها؟ حتى لا يصح لي أن أقول ما من بلد أعطى عطاءها، إيواءً ونصراً.. وعلماً وفقهاً، كأنما هي ومكة المكرمة الحرز الحريز والذخر السرمدي لهذه الأرض جزيرة العرب كلها، بل وللمسلمين كلهم في أي مكان، أقول ما من بلد هتكت حرمته الفتن، كالمدينة المنورة. ومن عجب أن الهاتك لحرمتها وصانع الفتنة فيها وعليها كلهم من بنيها، لم يصلها برتغالي ولا صليبي ولا تتري ولا استعماري، إنما الذي قطع وصلها وكاد يمزق أوصالها والذي عقّ اتصالها ما كان إلا من بنيها!! السلطان في أمية فعل ذلك حين انشق عليه بعض أهلها، والسلطان من بني العباس فعل فيها أكثر من أمية، والقبائل حولها انفعلت وتفاعلت فإذا هي تفعل ما ينكره إيمانها وما يجفوه احترامها. |
وملوك الطوائف، وحتى بنو عثمان والفاطميون والمماليك كانوا يفخرون بها ويتأخرون عن نجدتها، لا من عدو أجنبي، وإنما هو العدوان من أهلها على أهلها، لقد سرقت الحجرة أكثر من مرة ونهبت أسواق المدينة أكثر من مرة، كل ذلك فعله عجز الحاكم هاشمياً علوياً وجمازياً، كل ذلك فعله القبلي حولها، لم يألفوه ولم يألفهم، يتأخر عن غزوها إذا ربّعت الأرض، حتى إذا جاع جاء نهاباً. |
فالقبائل غرب المدينة، قلّ أن تفعل ذلك، أما من كان شمالها فقد فعل بعض ذلك، وأما من كان شرقها فقد فعل كل ذلك، ومن الغرابة بمكان أن السلطان في مكة أو في المدينة كان صاحب فلسفة يزعم أن شراسة القبائل بينها وبين الحاضرة، مانع لطمع الأجنبي، يعني أن السلطان يخيف ملوك الطوائف حتى وصل به الأمر إلى أن يعتقد أن هذا الوضع وضع الفتن، وحرب القبائل هو الذي أخاف الاستعمار أن يصل إليها.. وما درى أن صلاح الدين الكردي الشامي المصري، والعراقي قبل ذلك هو الذي حمى الحرمين من الصليبي، وأن الملك المظفر قطز، الملك مرتين والعبد مرتين هو الذي حماها من التتار، طوعهم لذلك حماية الله للحرمين، شراسة القبائل وحربها لا تخيف الأقوياء من الغزاة، وإنما هي حماية الله قبل بينما حماة المسلمين خافهم المستعمر فلم يجرؤ على أن يصل إلى الحرمين. |
لكن هذه الفلسفة السلطانية، كانت من العجز بمكان. |
واستشرت الفتن، كل يوم نهّاب، كل يوم سالب، فإذا السور يُبْنَى، يحيط داخل المدينة والمسجد، يحجز النهابين والسالبين، إنهم بنوها هم الذين حين جاروا عليها جاروا على أنفسهم فإذا هم مزق تبدل الأسماء حتى أصبح النسب الجد يترك ليكون النسب الخلف. |
مقدمة طرحتها لأكتب عن تركة محمد علي. |
تركة محمد علي |
ولعلّ بعض أولئك من الناس ينكرون عليّ الرضا والثناء على ما نحن فيه الآن مع أنهم لو ذاقوا ما ذقناه، ولو كانوا من جيل الحمد، جيل التجربة نحن، لفرحوا بالرضا ولكان عملهم، تحت راية هذا الكيان الكبير ثناء لا بالكلام وإنما بالوئام تضيء على وجوههم بصمة الكيان الكبير، لتذهب وصمة الفرقة والتنابذ بالألقاب والتنافس بالغارات. |
لقد ترك محمد علي خديوي مصر، تركة أثقلت كاهل الحجاز كله. |
وكان ثقلها على المدينة المنورة أكثر.. كيف كان ذلك؟ كان ذلك على صورتين: |
1 - لقد ورثت المدينة عن حكم محمد علي بعض ما لم تستطع إزالته كالمخزن والأردب والوجاق. |
2 - الإتاوات والحضارات التي خلفها وراءه للقبيل الذي نصره. |
فالمخزن خمسة عشر ذراعاً في خمسة أذرع بالمقاس البلدي وهو بالمقاس المصري ستة أمتار في سبعة أمتار، يعني أن مساحة المخزن اثنان وأربعون متراً مربعاً، بينما هو بالمقاس البلدي خمسة وسبعون ذراعاً مربعاً، فالمقاس المصري هو أن المخزن يساوي واحداً من مائة من الفدان، يعني أن مائة مخزن سطحاً واحداً تساوي مساحة الفدان التي هي (ستون متراً في سبعين متراً) وقد بقي هذا المقاس، فإذا الأرض تباع في المخزن. |
أما الأردب فاسم مصري أيضاً يختلف في المدينة عنه في مصر، فالأردب المصري ثمانية عشر مداً، أي إن المد ست أُوقات، أما الأردب المديني فأربعة وعشرون مداً، وهذا الخلاف بين الأردبين عملية لقسمة الجراية (وهي أرادب من القمح حبسها وقفاً رجال أرادوا الإِحسان إلى المدينة). إِن الثمانية عشر مداً احتالوا بها بالوفر حيث جعلوا الأردب المصري أربعة وعشرين مداً مدنياً، فالستة أمداد في الفرق، كم تكون النتيجة في أكثر من عشرين ألف أردب؟ وفر كسرقة، ومع هذا فأرادب الجراية لا تصل إلى المدينة أو مكة إلا وقد سرق منها الأمناء عليها يقصبون بالقصبة كيس الحنطة يخرجون القمح ويضعون مكان ما سرقوا رملاً، واكتشف الحاكم ذلك فغيروا الأمين إلى أمين، وأصبح كما تقول العامة (مثل أخيك مثل عنبر تحله) يعني كلهم على ذلك. |
أما الوجاق فلا أعرف ترجمته إلى العربية، وفاتني أن أستعين بالأستاذ عزيز ضياء ليترجمه لي، ولعلّه حين يقرأ هذه الذكريات يتلفن إليّ بالترجمة أكتبها بعد، إن الوجاق الذي أعرفه هو موقد النار في هجرة العربي الذي يصب فيه القهوة للضيوف، يقول السيد لخادمه أو لابنه (شب النار في الوجاق) وفي نجد يسمون هذا الموقد ((الصلل)) فهل صلالة العمانية من ذلك؟ لا أدري.. |
إن محمد علي الخديوي أسس في المدينة من لهم حكم الزعماء، فكانت وجاقات أربعة.. السباهية، يعني الخيالة، لحمزة ظافر أولاً ثم سعود دشيشه ثانياً تنضم إليه بيوت من المدينة.. ظافر الدشيشة خوج وغيرهم..، والقلعجية، انتهت إلى عباس قمقمجي، يعني حماة القلعة، والنوباتشية حماة الأبواب انتهت إلى عباس برادة، والبيرقدارية يعني أصحاب البيرق (العلم أو البنديرة أو الراية) وانتهت إلى محمد سعيد حواله، فقد كان هؤلاء وبيت البري والكردي الكوراني وبيت عباس والنحاس هم أكثر تقادماً في المدينة المنورة، فكانت لهم هذه الوظائف، كما أحدث وظيفة (باب عرب) انتهت لدياب ناصر، وهو الذي ينتهي إليه أمر القبائل العربية، إذا ما اختلفوا يحكّمونه. |
كل هذا كان في المدينة من تركة محمد علي، وحين بسط العثمانيون سلطانهم على المدينة، فبسط السيد أحمد أسعد نفوذه عليها بل إن نفوذ أحمد أسعد قد انتشر على الحجاز كله، فالشريف عون كان به وعمر نصيف كان له، فاستأخرت البيوت القديمة فأصبح النفوذ للذين كانوا للسيد أحمد أسعد، بل إن نفوذ أحمد أسعد قد استحوذ على الخديوي إسماعيل، ودعوني أترك ذلك لتفصيل أتوسع فيه، أما فيما يخص الأمن داخل المدينة فإن الباشا سواء كان عثمانياً أو مصرياً فهم لا يتحركون إلا ونفوذ السيد أحمد أسعد أمامهم لأنه كان ذا حظوة عند السلطان عبد الحميد. |
من هنا اتسع الخصام بين بيوت المدينة الجديدة بنفوذ السيد أحمد أسعد والقديم الراسخ لما ورث، حتى إن ترحيل بعض أشياخ المدينة من بيت البري والداغستاني ومن إليهم، كان من عمل الباشا مسخراً بهذه الخصومة، أمسك بهم فنفاهم إلى الطائف، ومن المصادفات الغريبة أن يكون نفيهم إلى الطائف مواكباً لنفي مدحت لينقلوا رفاته إلى تركيا وجاء وفد أذن لهم الملك عبد العزيز بذلك، لم يعرف قبر مدحت إلا الصديقان محمد خوجه، وأخوه كمال خوجه دلوا الوفد التركي فنبشوا القبر وحملوا الرفات، تقاليد لا يقرها الإِسلام. |
أما أهل المدينة فقد وصلوا إلى جدة، ورغم أن نصيف كان نصيراً لأحمد أسعد لم تعبأ جدة بهذا الموقف فأغلقوا الحوانيت وأبدوا الحزن، فإذا آباؤنا في المدينة يحمدون لأهل جدة ذلك حتى ترسخ الحب بينهم، وحين مروا بمكة المكرمة لم يعبأ بهم الشريف عون فمروا لا يرون حزناً على أحد ومكثوا في الطائف حتى إذا سقط السلطان عبد الحميد أطلقوا سراحهم فإذا الأعيان من أهل الطائف بيت كمال والقاضي عرب ومن إليهم يفتحون أبوابهم، الغداء عند هؤلاء والعشاء عند هؤلاء والكرامة عند هؤلاء فإذا آباؤنا في المدينة يحمدون لأهل الطائف صنيعهم الجميل. |
وانتهى عصر عبد الحميد فانكمش نفوذ أحمد أسعد، وانتهى عصر عون، ومات عمر نصيف فإذا الاتحاديون الذين ثاروا على السلطان عبد الحميد يتغير بهم الكثير في الحجاز.. |
الاتحاديون |
ثاروا على السلطان عبد الحميد، شعارهم كان مقتبساً من الثورة الفرنسية، وهو (حريات.. عدالات.. مساوات)، ولم يطبق هذا الشعر لأن القومية الطورانية تنافي هذا الشعار، فالعرب أنكروا على الاتحاديين نزعة التتريك، فقد فتحوا في المدينة ثماني عشرة مدرسة، لم تثمر إلا فك الحرف، صنعوها للتتريك، أما المدرسة التي أثمرت، فهي التي أسسها السلطان عبد الحميد في باب المجيدي، ورثناها وكنت أحد تلامذتها، تخرج منها علماء في الرياضة والتاريخ وما إلى ذلك، كما أسست مدرسة سميت دار المعلمين، وكانت في الساحة في بيت اسمه (دار جونة)، كان ملكاً لبيت مظلوم باشا المصري وكان الوكيل عنهم في تأجيره هو أستاذنا السيد أحمد صقر، وهو من أعيان أشراف قنا الجمازيين المخادمة، فهم وأشراف العوالي بنو حسين يتصلون بالجد جماز، حتى إن الشريف (شحاذ بن علي)، زعيم أشراف بني حسن وقائمقام المدينة مدة الأشراف، استنجد بالسيد أحمد صقر، يصنع شجرة النسب لأن الشجرة التي لديهم احترقت يوم هتك فخري باشا العوال، نخلاً وإنساناً. |
مدرسة دار المعلمين فيها أعجوبة، لأن السيد أحمد صقر وزين بري كانوا رجالاً، تتلمذوا في المدرسة، وكان السيد محمد صقر طفلاً ابن السيد أحمد تلميذاً في المدرسة نفسها، ومن زملائه الدكتور العالم المصري عبد الحميد بدوي باشا، يوم كان أبوه يعيش في المدينة، لم نعرف ذلك من أهلنا وإنما عرفناه من كلمة الدكتور طه حسين، وهو يقدم عبد الحميد باشا إلى مجمع اللغة، فقد قال طه حسين (لقد حفته بركة المدينة حيث أول ما فك الحرف فيها). |
إِن الاتحاديين لم يحرصوا على بقاء الإِمبراطورية مزقوها ببقاء المركزية وبالتتريك، إن الثماني عشرة مدرسة ما نالت التتريك، وإنما كان النوال منها أن المدينة المنورة قد انمحت منها الأمية، من هنا اتسع المجال لأبنائها، كانوا للاسلكي ولسكة الحديد بين الرياض والأحساء ومشروع الخرج ولوزارة الدفاع والمالية، فما أكثرهم حين عملوا لكل ذلك. |
ـ الباشا.. الحاضر الغائب في المدينة |
ـ العدوان في المدينة.. من أهلها على أهلها.. |
ـ مدارس التتريك.. محت الأمية في المدينة! |
ولعلّي لا أهمل التاريخ، فالذي قاد الانقلاب العثماني زعيم للاتحاديين قبل طلعت باشا وقبل أنور هو محمود شوكت باشا الشركسي العراقي لأنه كان هو وأخوه حكمت سليمان الذي أحدث ثورة في العراق كانوا من موالي داود باشا الذي ثار على السلطان وأسس ملكاً في العراق وصك عملة على أحد وجهيها ((يا داود إن جعلناك خليفة في الأرض)) وانتصر عليه السلطان حتى إِذا أسروه رحلوه إلى المدينة المنورة، فبستان الداودية خارج باب الشامي كان باسمه ولا أدري هل الداودية في مكة مثل الداودية بالمدينة أم هو داود آخر. |
محمود شوكت استعرق عراقياً عربياً حتى إذا استترك قاد الانقلاب وكان عالماً رياضياً لأنه من سلاح المدفعية، أول ما تعلمنا الرياضة واحتجنا إلى جداول اللغرتمات لم نجد إلا نسخة واحدة عند الأخ محمد نيازي بالتركية مؤلفها محمود شوكت. |
الحاكم بلا سلطان |
والباشا التركي في المدينة، كان أشبه بالرمز لا يمارس سلطانه ليحفظ الأمن، يسمع بأن إبراهيم ملا من أعيان المدينة قد قتل السيد مالك مدني، من البيت الكبير، وأخوه السيد عبد الله مدني. والأخوة الآخرون والصهر لبيت أسعد والبرزنجي وأزبك والرفاعي، مكّن لهم نفوذاً قوياً. فلماذا لم يقم الباشا العقاب على القاتل؟، لقد عفّ السيد عبد الله مدني والد السيدين عبيد وأمين، أن يلاحق إبراهيم ملا، لا يطلب من الباشا العقاب، ولا يدعو حليفاً من القبائل يأخذ الثأر، عف السيد عبد الله وإخوانه عن ذلك، وأطلق سراح إبراهيم ملا، حتى إن بيت المدني رفضوا قبول الوجاهة وتركوا الأمر لئلا يتسع الشر. وحين مات عبد الله مدني أعلن السيد زين العابدين مدني العفو عن الثأر ليملك إبراهيم ملا الحرية، مع أنه كان محصناً بشجاعته وبحراسة عبيده، ولكن الأمن بالعفو كان فضلاً، قطع دابر الشر، الذي لم يقطعه الباشا، وقتل ولد أبي الجود أحد أبناء الحلواني فأعطوا العاني مدة من الزمن لا يأخذون الثأر، غير أن ولد أبي الجود هرب إلى خيبر حتى إذا تم العاني ذهب أبوه ليأتي به، وفي ليلة القدوم كان الاحتفال فرحاً في بيت أبي الجود، وكان البكاء في بيت الحلواني، غير أن الحلواني طلب من حليفه صالح الجدي من ولد محمد أن يأخذ الثأر من ولد أبي الجود، فركب الجدي الجبل ضرت من أحد، عرفنا اسمه (شكيم الديب) يعني مشفر الديب، ومر أبو الجود وابنه، هو علي الشداد والابن رديف فإذا صالح الجدي ومن مكمنه يطلق رصاصة يقتل أبا الجود، فإذا الفرح عند أبي الجود حزناً والترح عند الحلواني فرحاً، كل ذلك يجري ولا عمل للباشا، وكان هناك شاب مصري من الفيوم نشأ في المدينة له عضل قوي، وكان شرساً قتل اثنين ومشى بدمهما لم يثأر منه أحد ولم يعاقبه الباشا، وتسلط هذا الفيومي وكان صاحب طاحونة على حسين زيدان والدي، صبر عليه مدة عام وكان الوالد إذا (عزّل) الدكان يذهب إلى المسجد لصلاة المغرب، فإذا الشرير يثير الوالد بكلمة (زيدان.. حوش النبوت من كم الزعبوط)، يعيره بلغة الصعيد، صبر والدي عليه سنة، وفي ذلك اليوم صعد الوالد إلى العوالي ليقبض ثمن ما ابتاعه أصدقاؤه من مطير، وكان مروره على البربورية، فإذا هذا الولد يرفع صوته بالمعايرة فقال له أبي: (دحين أرجعلك) وقبض ثمن البضاعة ومر على شجرة إثل، قطع عوداً منها طوله باع ثقيل، لأنه أخضر فوضعه وراء ظهره وأقبل على هذا المعيّر، ويداه خاليتان، فالعصا وراء ظهره دفع نفسه قليلاً عليه ليتحرش به فنهض المعيِّر يسل خنجراً يريد أن يطعن حسين زيدان، فتأخر الوالد قليلاً وكان ذا عضل وقوة وسحب الأثلة يضربه على يده يكسر ذراعه يسقط الخنجر، وكال له ضربة ثانية ألقته صريعاً وجاء الناس (ليش.. ليش) قال: كاد يطعنني بالخنجر فالتقطت العصا مصادفة أدافع عن نفسي، كل هذا يجري ولا شأن للباشا به وما أكثر ما وقع من ذلك. |
وحكاية عن إبراهيم ملا يرحمه الله، فقد كان من المطاليب على الرغم من أنه من أسرة أفندية عشراؤه حمزة لبان والسحلول وصالح النانية وعبد المعين كعكي وعيد بنا وحسين عامر، كان من المشاكلة وصادف أن سال العقيق وخرج والدي ومعه ابن عم لنا اسمه سيد كرام يذهبان إلى العقيق كأنما أبناء النيل أحبوا أن يروا صورته في سيل العقيق، وفي وسط حرّة واقم. أقبل إبراهيم ملا وبيده الشون ومعه صديقه الشهاوي وإذا إبراهيم ملا يكرش العصا في الأرض يتحدى وكان أبي معه عصاة (شون مزقرة) أي معصبة بجلد في آخرها، فقال أبي لسيد كرام (أشغل الشهاوي وأنا لإِبراهيم)، وكان أبي رجلاً طوالاً قوي العضل والقلب وأخذا يتقاشعان يلعبان بالعصا، وكان الطول مكّن والدي من أن يهزم ملا، أطار العصا من يده فإذا إبراهيم ملا يقول جدع يا حسين.. يتعانقان.. |
ولكن الباشا وبحزم بيت الكماخي أنزل العقاب بخادم الكماخي وهو من التركستان قتل أسرة من بيت الكماخي، اغتالهم، فإذا الأب والأم والأطفال هلكوا حين اغتالهم هذا الخادم، وعلم الشيخ أحمد كماخي، أحد أفاضل المدينة وقضاتها فأصر علي بصري باشا بالتفتيش عن المغتال.. فتشوا عليه داخل المدينة فلم يجدوه.. لأنه ركب رجله فلم يجدوه إِلا في رابغ، أمسك به حسين بن مبيريك، وقد كان ابن مبيريك على وئام مع الدولة العثمانية، وجاءوا بالمغتال فإذا جمع من أهل المدينة يتحلقون في حلقة واسعة والقاتل وسطها معصوب العينين، ولا أدري كيف عرف أن الشريف علي بن الحسين وأخاه فيصل كانا واقفين في شرق الحلقة يشاهدان قتل المغتال، فرأيت القاتل وكنت أحد الواقفين يزحف مشرقاً يتدحرج ليصل إلى الشريفين، يطلب منهما الشفاعة فابتعدا عنه وأمسكا به وقطعا رأسه بالسيف، ومعنى ذلك أن الباشا أقام العقاب لا بوازع منه وإنما بإصرار بيت الكماخي.. |
|