عبقري الكلمة المجنحة وفنانها.. |
مزقت أكثر من عشرين ورقة أكتب أسطراً عديدة وأمزق الورقة، لست أدري كيف أبدأ وأكتب عن هذا الأستاذ العملاق؟ كيف انتقي الكلمات لأدخل إلى هذا العالم الممتلئ بكل فكر.. وثقافة.. وأدب وتاريخ وشعر وسياسة ولغة وأنساب.. ومراهقة!!)؟
|
نعم مراهقة، قد تتعجبون أن هذا الرجل الكبير سناً ما زال قلبه يرتع في خمائل الحب والعشق والجمال، ما زالت الغانمية والمحترقة وبنت الثلج وماسحة البلاط، كل أولئك وغير أولئك ما زلن يمرحن ويسرحن ويجبن فؤاده ووجدانه يتمتع هو بذكرياتهن وهن يتمتعن بحبه الكبير وقلبه العامر النابض بالحب. |
كأنه بشار عندما يقول (يرى الفؤاد ما لا يرى النظر) (والأذن تعشق قبل العين أحياناً).. بشار أعمى وهذا العملاق المارد أعشى..، عجباً وكل العجب أعشى ويعشق الجمال كيف؟ بقلبه وبأذنه. |
مازال يحب وأراني أقف أنشد أمامه ما قاله فكري أباظة: |
قالولي بتحب |
قلت باحب عقبالكم |
الحب مش عيب |
وانتو يا غجر مالكم؟ |
قالوا لي كبرت.. |
فال اللَّه ولا فالكم |
ده أنا بأرثي لكم.. |
وأبكي على حالكم |
باحب أي واللَّه |
وانتو يا غجر مالكم |
الطب بيقول لكم |
باطني وروحاني |
القلب يا خلق شيء |
والعمر شيء تاني |
فيه قلب شايب عجوز |
في جسم صبياني |
وقلب كله شباب |
ساكن جسد فاني |
باحب أيوه بحب |
وانتو يا غجر مالكم |
أنا خبير القلوب |
ولا فيش خبير ثاني |
فيه قلب تلقاه رُطَبْ |
والتاني حياني |
وقلب زي الملاك |
والتاني شيطاني |
وقلب زي الدهب |
وقلب براني |
باحب أيوه بحب |
وانتو يا غجر مالكم |
ياللي ادعيتو الهوى |
ليه تنسوا فارسكم |
وأنا عاجنكم، |
وخابزكم ودارسكم |
وأنا اللي من الحب |
كايدكم وفارسكم |
ماخدتهوش من الكتب |
ولا من مدارسكم |
باحب أيوه باحب |
وانتو يا غجر مالكم |
|
نعم مازال هذا المارد الفكري الثقافي التاريخي الأدبي العاطفي، مازال هكذا. |
ويقول هذا المارد (إذا اضمحلت فحولة الرجل تسعرت فيه أربع عيناه للنظر ويداه للمس وشفتاه للتقبيل وأذناه للسمع) وهذا هو يقول أيضاً، وهو يكره البغض والحزن (ليس عندي وقت للكراهية والانفعال، ولا للحب ولا للغضب ولا للحزن، فتلك أثقال تحملتني شاباً فقد كنت حملاً عليها ولا أستطيع أن أتحملها شيخاً فلست مطالباً بالوفاء لها) ويعود إلى الدموع ويقول (إن الدموع رسالة يبعثها الوجدان يستفيق بعدها العاشق، يكسب منها لذة الذكرى من عمق الوصال أو متعة من شقوة الهجر) وما أروعه حين يقول (المحب إنسان، ولا متعة لإنسان إلاّ أن يكون في حلبة المتناقضات، فالسرمدية على حال واحد إملال، وتقلب الأحوال فيها نضوج التجارب وتجارب النضج) ويقول (فالدموع شموع.. في كلا الحالين تضوع ولا تضيع.. لأنها ضوء جديد يشرق من الوجدان). |
يقول عبقري الكلمة المجنحة في فلسفته عن الياسمين (لعلّك لم تعرف من قبل أني أحب الياسمين اللون، بصفرته الناعمة في الزهرة الندية، ولا أحب الياسمين العطر، فالياسمين اللون أعتز به ولا أبتزه، وهو يذكرني بصورتها.. بيضاء قد ابيضت صفرة الياسمين في وجنتيها. أما العطر.. عطر الياسمين.. فما هو إلا عصارة أحالت الزهرة، وأرخصت جمالها، يبيعون عطرها بثمن غالٍ بينما الزهرة هي الأغلى.. قد لا أشمها ولكن لا بد أن أراها. |
فاللون عندي هو هي! |
إن عطر الياسمين تجارة، والجمال نسترخصه إذا ما كان يستحيل إلى تجارة (!!) فكم من الجواري في سوق النخاسة كن من الجميلات، بعضهن وردية وغيرهن قمحية والسيدة فيهن هي التي لها لون الياسمين ولكن بيعهن في سوق النخاسة نجاسة، لا نرى من اشترى إحداهن عن حب، وإنما عن متعة الذكر بالأنثى! |
أبعد عني عطر الياسمين! إنه يذكرني باستعباد الجميلة وقال.. وقال ذلك العملاق عبقري الكلمة المجنحة وفنانها ومازال يقول، ترى هذا الرجل الذي يخطر تياهاً في الرابعة والثمانين يقول مثل ذلك القول؟.. إنه الحب جعل من ذلك الكم الكبير من السنين الطويلة قمماً زيدانية شامخة مكسوة بالعواطف والأحاسيس الجميلة مجوفة بوجدان يدفع بهذه الأحاسيس والعواطف تسيل من أعالي القمم إلى سهول وأودية الحياة فتفرشها رونقاً من الجمال. |
إنني - وبكل فخر واعتزاز - شرفت بأن أكتب عن أستاذي وأستاذ جيلي والأجيال التي سبقتني الأستاذ محمد حسين زيدان، كما أن الشرف يزداد شرفاً عندما أقول إنني أنا الذي أملي عليه الأستاذ الزيدان ذكرياته التي بين أيديكم، وأقول بكل فخر وإباء وتيهاً إنني أحد تلامذة المدرسة الزيدانية زميلاً لكبار الكتّاب والصحفيين الذين تتلمذوا في هذه المدرسة، تعرفونهم ويعرفون أنفسهم. |
.. إنه شرف كبير وصلت إليه ومنحني إياه إكليلاً مضمخاً بالأبوة والأستاذية أضعه وساماً على عنقي، وأعذروني إن وصفته بالعبقري وأكثرت من ذكر الكلمة.. |
تمضي كأنك فارس |
كل الفوارس يرهبونك |
وأراك بالودِّ الجميل |
تعفُّ عمن يجرحونك |
ترنو إلى الصفح الكريم |
أضاء مشعله جبينك |
ما أروع الخلق الرفيع |
إذا رعيت به شئونك |
تبكي الكرامة.. والدموع |
الحمر قد غطت جفونك |
تبكي على تلك الأصائل |
حين تستهوي شجونك |
|
أخيراً أيها الأستاذ العظيم.. أقول لك شاكراً هذا الشرف الذي طوقتني به: أنت كذلك دائماً وكل ذلك، تمد يدك للشباب تساعدهم. |
ما أعظم يدك البيضاء تمدها لي تشرفني بها كاتباً عنك.. |
|
|