شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مقدمة
بقلم الأستاذ عبد الله جفري
جون كرواك: أديب أطلقوا عليه في أمريكا صفة: كاتب الغضب، ولكنه كان يكتب عن الأحلام كثيراً، وكان يهتم بالشباب، ويردد: طالما أنني أرى نفسي (أحياناً) في هذا الشباب، أو أحس بهم في تفكيري.. فأنا لن أشيخ أبداً. بل سأظل شاباً مهما بلغ بي العمر!.. ولكن الكاتب الأمريكي الغاضب الحالم الشاب (( كرواك )) لم يعمر كثيراً. مع ذلك بقيت كلماته تتردد، واعتبره بعض النقاد امتداداً للكاتب (( وليم فوكتر )) !
ومن كلماته التي تضخمت بعد رحيله.. قوله: الذين يحدقون إلى سقف الغرفة ينامون مبكرين!!
ولا بد أنها عبارة حزينة بترف، أو أن ترف التعبير الملحوظ في كلمات ((كرواك)) مستمد من زحام الإِرهاق النفسي، وهو بذلك يصنع التعويض أو المواءمة بين الحزن في النفس والترف في صياغة الكلمة.. كأنه يرسم ويُسقط قلبه، وأحياناً يرتفع بقلبه إلى استرخاءة الناس، ولكن.. لا المفكرون ولا الفلاسفة ولا الفنانون ولا الشعراء أصبحوا قادرين على التحديق طويلاً في سقف الغرفة، أو في سقف العالم كله!
ولكن ذلك كله لا يوصف بشعور الكآبة.. بل لا بد أن تنبعث من نفس الأديب الكاتب: ومضات من الأمل، ونبضات من الحب، وتأملات للحياة بالأماني!
وأحسب أن هذا المدخل يقربني كثيراً.. لأكتب من داخل صدر أستاذ جيلي، ((محمد حسين زيدان))، هذه المقدمة لأحدث كتاب يضم بعضاً من نهدات فكره، وبعضاً من غضبه، وبعضاً من أحلامه، وبعضاً من روحه الشابة!
ولكن ((الغريب)) في هذه المقدمة التي أصر الأستاذ زيدان: أن يكتبها تلميذ من تلامذته، وابن من أبنائه الكُثر الذين تعلموا واستفادوا ونهلوا من فكره ولمحاته وأدبه، فوجدت نفسي في موقف صعب وحرج، وحاولت أن أعتذر فلم يمكنني، بل قال لي:
ـ دعني أسمع وأقرأ مشاعركم، ودع هذا المخاض في جيلكم يمنحني حياة أخرى تمنع عن رأسي التفكير في نسيان الناس!
إذن.. فكيف أمنع عن نفسي هذه القيمة التي منحها لي.. لأكتب مقدمة كتاب من تأليف: مفكر وأديب ومؤرخ ونسّابة، وفنان كلمة؟!
إن صدر هذا الرجل مليء بالشجن، وبالتجارب، وبالحكايات، ويفيض دوماً بالمحبة للناس.. إن الضغينة عنده هي سياسة وليست شعوراً، والكراهية - في رأيه - هي ندادة وليست وجداناً، لكنه حين يسقط واحداً من نفسه فإنه يحتقره، وهو يقول: إن الاحتقار نسيان للإِساءة، فأنا أحتقر لئلا أحقد، ولئلا أعطي من أحتقره فرصة أن يكون ندًّا لي!
أما الحب عنده فهو الحياة، وهو المؤشر الذي يبقي على شباب الإِنسان مهما بلغ من العمر.
ودعوته إلى الحب.. دعوة إنسانية شاملة.. يستشرف منها توثق الأبناء بآبائهم وأمهاتهم، وارتباط الوالدين بفلذات أكبادهما. ونماذج المجتمع جماعة متماسكة تقدر على العمل والإِبداع والتطور، ونهضة العالم بالتركيز على صفاته الإِنسانية، ونبذ العنف والتدمير.
ودعوته إلى الحب.. دعوة عاشق ((واثق الخطوة)) يرى في من يحب شباب المستقبل، ورؤية الحاضر، وذكريات الماضي، فلا انفصام بين المراحل الثلاث في الحب، بل هي حزمة واحدة من العمر، ومن الرؤى، ومن الوجدان، ومن قدرة الإِنسان على الوفاء لصفاته النبيلة.
ومن دائرة الصدى في صدره تشع أحلى الكلمات التي يكتبها حتى اليوم عن الإِنسان في كل مشاعره.
ومن منطلق الفكرة في ذهنه تنبثق فلسفاته، وهو يكتب عن التاريخ، وعن الأبطال في مسيرة الدعوة الإِسلامية، وعن الرجال في صناعة الأمم والنهضات. وهو يكتب عن الفكر جامعةً، وكلمة، وكتاباً، وتوعية، وثقافة ترتفع بمكانة الإِنسان. وكان رأيي الذي قلته له من سنوات بعيدة أنت مفكر أكثر منك أديباً. ولكنه لم يهضم هذا الرأي مني.. بل قال: لا تفصل بين الفكر والأدب، فهما واحد، وهما معاً نضارة العقل، وارتواء الروح!
ومن نبض صدره يسري النغم دائماً في كلماته التي يرسلها حينما يكتب عن وجدان الإِنسان، وهو في مكابدة أحزانه لا ينكمش وإنما يتمدد كالضوء، ولا يسقط وإنما يركض كالزمن.. إنه لا يرتاح إلا حينما يضع رأسه على الوسادة في الليل..
أو كأنه يتذكر معي هذه العبارة التي قرأناها ذات صباح لكاتب ضاع مني اسمه: (إنني أحتمي بطفولة الليل.. تاركاً رأسي على ركبة الصباح، ولا ميعاد ينتظرني)!!
لحظتها - كما يقول - أطرد كل الشجون والأفكار والأحزان والمشاكل وأمتلك قدرتي على ذلك لأنام قريراً، ويبقى شباب الروح وشباب العقل. ولكني لا أرتاح طويلاً، فالراحة حينما تطول تتحول إلى تفاهة، ولا أسلّم نفسي للضياع، فالضياع ليس عشقاً إذا كان العشق كما يقولون يولد الضياع. إن كل ما يركض نحوه الإِنسان هو الوقود لتجديد الحياة، والوقود يأتي في الألم وكما هي فلسفة ((أرسطوس القورنتي)) التي عبر عنها جبران في قوله: ابتغوا اللذة في الألم، وابتغوا الألم في الحب!
والوقود يأتي في الفراق، وفي الارتفاع بالوجدان من تحديد التناول إلى شمول الوفاء للحظة، ولكلمة تقال، ولماضٍ، ولذكرى، ولموقف، ولخفقة!
فهل يمكن لنا أن نقول: إن هذا الرجل ما زال يحلم؟!
لا شك أن الإِنسان حينما يفقد أحلامه يشيخ ويموت.. لا تبقى له طموحات ولا أمنيات.
والزيدان عندما يتهيأ لإِملاء ما يكتبه في رأسه، وبلسانه، وعلى تعبيرات وجهه.. تشعر أنه يمتلئ حلماً ويفيض بعد ذلك. وقد يبلغ به هذا الفيض حدود الدمع، فتراه - فجأة - وهو يملي عليك كلمته ينخرط في البكاء. ولعلّي أسعد الناس بهذه الميزة منه، أو أكثر الذين يملي عليهم فيض نفسه وفلسفة فكره، وقد ألاحيه أحياناً وأوقفه عند عبارة لا تعجبني كقارئ مدمن عليه، فيناقش معي فكرتي.. إنه لا يغضب لذلك، لكن غضبه الشديد يتدفق وهو يكتب عن واقع العالم العربي.. وعن أحلام الإِنسان العربي في الحرية الشاملة لكل الأرض العربية، وعن تاريخه الطويل الحافل بالبطولات وبمواقف الرجال، وتشييد الأبطال.
يغضب من أجل الحب، ويغضب من أجل الحرية، ويغضب من أجل الصفة النبيلة في الإِنسان.
إن غضبه يترابط بفواصل الموت.. ذلك أن الأحياء لم يعد لديهم اكتراث كثير بالمحبة، حتى إنهم قبروها في مشاعر الموتى، ويضيع إنسانها في بحثه الدائم عن الحرية، وكرامة الإِنسان، والخوف من إهدار الصفة النبيلة التي تميز الإِنسان عن سائر المخلوقات.
حزنه العميم زاخر ببواعث الهوى، وبالحنين إلى الأمل، وبالغبطة بالتقسيط في عصر مرابي!
إنه يبتسم ويردد قائلاً: لقد كان سيد المرسلين جلَّ ضحكه التبسّم! رأسه تتطوح أحياناً حينما تتكاشف معاناة الفكرة، أو تتصاعد بالشجن من صدره إلى رأسه، فلا يقدر أن يجسد الفكرة، ولكنه يبحث فيها ومن أجلها ويضني صدره، وكل الخفقات الصادرة عنه، وثيقة إنسانية ترتاح بعض الحين في الأحلام، وتتجدد أكثر الأحيان في شباب روحه، وهو يواصل دراميته هذه. ويوحد بين الحدث والرغبة. وبين الاضطرار والشجب. وأجدني أستطرد خلفه بعض الوقت.. أحاول اللحاق بأفكاره، والتزامل مع شجونه، ويتلفت نحوي مبتسماً فيقول: إننا ننادي بـ ((العودة إلى الإِنسان)).. الإِنسان ينسلخ من نفسه من أجل أن يفقد نفسه، والشيء المفقود هي نفس الإِنسان من هذا الإِنسان المعاصر الذي تغربت عنه ذكرياته ونزفت الشقة فيه ومنه، وانشرخ الحنين في صدره لتمتلئ الشروخ بالرمل المبتل!
والزيدان يكتب بأسلوب متفرد بحيث تقرأه دون توقيع، فهو يجمع بين الأسلوب المباشر، والمخاطبة السريعة أو التلغرافية.. حينما يكتب في السياسة يفعل ذلك، وحينما يكتب النقد الاجتماعي أيضاً، ولكنه حينما يكتب التاريخ ويكتب الوجدانيات.. يعطيك عبارة مجنحة مموسقة.. عبارة تصويرية بالألوان، ومن رأيه أن التاريخ - وإن اعتمد على الحقائق - فلا بد أن يكتبه المؤرخ بعبارة وجدانية!!
وهو لا ينكر تأثره في مطلع تعشقه للأدب وللكلمة بعبارة ((الزيات)) وطريقة بنائه لها. ولكن هذا التأثر كان مبتدأه الإِعجاب بالأسلوب وبالمعالجة للفكرة، وتسمعه يردد أسماء فرسان الكلمة الذين أعطوا وأبدعوا أيام صدور مجلة ((الرسالة))، ولم ينطفئ إعجابه وتأثره حتى الآن بهؤلاء: محمد حسين هيكل، الزيات، شكيب أرسلان، الرافعي، العقاد، طه حسين. وقبل هؤلاء جميعاً فقد نهل من التراث وتوقف طويلاً عند أدب ابن المقفع والجاحظ، ونهج البلاغة..
وذات يوم كنت أجلس إليه نتحاور في أبعاد الكلمة المعاصرة عن الأسلوب الأدبي. وعن الصورة البيانية المتينة، وعن الكتابة الوجدانية..
ـ إنك ما زلت حتى الآن تشتاق إلى استعادة بعض عبارات الرافعي، فهل تستعيد شبابك بها؟
ـ قال: ومن قال لك إنني فقدت شبابي يوماً؟.. إنني شباب حتى الموت، ولكن بعض الحنين، وبعض الذكرى يأخذك من ممارستك إلى أحلامك المعلبة! إن الإِنسان يتشابه في عواطفه، ويتنافر في مادياته، فهل اسمعك الآن بعض ما تبقى في ذاكرتي من ذلك اللون الأدبي المهدر.. مما كتبه الرافعي ذات يوم؟
وقرأ: (أريدها لا تعرفني ولا أعرفها.. لا من شيء إلا لأنها تعرفني وأعرفها.. تتكلم ساكتة، وأرد عليها بسكوتي. صمت ضائع كالعبث، ولكن له في القلبين عمل كلام طويل).
الفرح بالجمال لذة تقتل نفسها، ولا يمسك على الجمال روح النعمة خالدة في القلب إلا الحزن به: كيوم الغيم.. ترى في سمائه قطعاً كأنها الهاربة من الليل تختبئ الشمس فيها ثم تسطع من بعد سطوعاً يخيل إليك أنها ما توارت في خيمة الغمائم إلا لتضنو غلائلها الشفافة وتتعرى. يريد الجمال المعشوق أن يثبت فينا فيغيب عنا. إذ كان بذله يفني منه على قدر ما يعطي، فإذا هو امتنع وعز مناله.. كان جماله في نفسه بمعانيه، وجمالاً فينا بالمعاني التي هي فينا، وكان له من اجتماع الحالتين حالة جمال ثالث هي في ألم الرغبة المستمرة، أو ألم الغيظ المجنون، ومتى خلق لنا الجمال من قصر الزمن طول الزمن، ومن المتاع بالحسن العذاب بتمنيه.. فقد ارتفع عن إنسانيتنا وجاءنا من ناحية سره الإِلهي)!!
وأضاف: ذلك في الزمن السابق، وقد كان منعماً بالعاطفة. رغداً بالحس، أما اليوم، فإن الإِنسان لا يبحث عن التعبير، ولكنه يمارس ويفعل بحيوانية.
وبهذه المناسبة.. تذكرت محاورة قديمة بين الأستاذ زيدان وبيني.. كان الطرف المتوثب والمشع فيها صديقنا الغائب مشعل السديري، فالتفت نحو الزيدان يقول له:
_ دعني أفلسفك ولو لم تسمح لي. أنت أروع ما فيك: معرفتك الواضحة لتحديات العصر الذي تحياه. كل الاتجاهات في نظرك تقودك إلى روما، شريطة أن تعشقها، وروما هي الغادة الحسناء، أو هي المثل الأعلى. إنك حينما تعجز من الولوج إلى شيء.. تذهب إلى نقيضه لتفتته، ثم تعود لتصنع منه تمثالاً رائعاً!
وإذا تحدثنا عن الزيدان كصاحب كلمة لها صدى.. فلا بد أن نتعرف على بعض إيجابياته من خلال مسؤولية الكاتب فيه:
ـ إنه أول كاتب تحدث عن العلاقات الإفريقية - العربية، وواكب ذلك فيما بعد مع رحلات المغفور له الملك فيصل إلى الدول الإفريقية في مناداته بدعوة التضامن الإِسلامي، وقال الزيدان حينذاك: إننا نكسب الكثير باستمالة إفريقيا إلينا، ودعمها مادياً، ومعاونتها على تطوير نفسها وواقعها.
ـ طالب بتأسيس الجامعة الإِسلامية بالمدينة المنورة، وواصل كتابته حتى تحقق حلمه هذا.
ـ دعا إلى تغيير اسم إذاعة ((صوت الإِسلام)) ووافقه الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز وأمر بذلك.
ـ ألحَ بعدم تزيين مكة المكرمة لأي ضيف قادم إليها، وكان يقول: إن مكة المكرمة مزينة بقيمتها، وهي التي تضفي زينتها على كل وافد إليها.. ويكفي أن زينتها تتمثل في هذا النور المشع من روحانيتها.
وبعد..
تلك هي قطرة الامتنان التي لا تجف في صدري نحو هذا الرجل الذي أوقف عمره منشداً للكلمة حيناً، وحزيناً معها حيناً آخر. هذا المفكر الذي أثرى أدبنا بثقافته الواسعة حتى وصفته بـ ((الموسوعة التي تمشي على قدمين)). وأغنى العبارة العربية بالعديد من الصور واللمحات، فجاءت ملامح مشرقة ووسيمة، وروى أفئدتنا ببوحه عبر الكلمات المجنحة والملونة كريش عصفور.
إن أستاذنا الزيدان لم يفعل مثل ((جون كرواك)) في اتجاهه الفكري.. ولكنه مثله في تطلعاته الشابة التي لا تترمد: ولم يكتب بأسلوب ((وليم فوكنر)) ولكنه مثله في تلك الرؤية الملاصقة لهموم الإِنسان. وهو يسمح لنفسه أن يحدّق في سقف الغرفة بعض الوقت لينام مبكراً، ولكنه حينما يصحو مع ميلاد كل نهار.. يجد الفجر في عينيه وصدره.. لأنه لم يفقد أحلامه، ولم يخذل أمانيه..
ولا أحسب أنني بالغت بما صوّرت به عطاء هذا الكاتب المبدع.. بل أجد تقصيراً نحوه، وأضع محاولة لقراءة فكر ونفسية هذا المفكر.. لكنها قراءة أتهجّى بها فعل الأديب والمفكر من أجل طموحات وأماني أمته!!
عبد الله جفري
 
طباعة

تعليق

 القراءات :816  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 730 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

يت الفنانين التشكيليين بجدة

الذي لعب دوراً في خارطة العمل الإبداعي، وشجع كثيراً من المواهب الفنية.