شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
شخصيات
• دخل سعد بن أبي وقاص بعد القادسية التي كان فارسها المرجي وقائدها الميمون.. وبعد إمارته للكوفة.. وفي أردائه شيء عظيم خؤولة النبي محمد عليه أفضل الصلاة والسلام والسابقة في الإسلام.. والحراسة للنبي.. والموقف العظيم في أحد.. وفتح الفتوح للمشرق كله.
دخل على عمر.. فإذا عمر يرى كل ذلك لسعد، يحسبه قد دخل عليه مدلاً به.. فرفع عمر ((الدرة)) على سعد.. لم ينله بها، رفع سعد يديه، فإذا عمر يخاف الدعوة المستجابة من سعد.. وإذا بعمر يثق بالدعوة المستجابة منه.
لا صراع في النفسين الكريمتين، لم يبق إلا اللحظة الخاطفة..
رفع سعد يديه ولم ينطق بكلمة.. بل ولم يزور الدعوة في نفسه.
وخاطبت نفس عمر نفس سعد.. وتكلم إيمان عمر مع إيمان سعد.. قال عمر لسعد: أتريد أن تدعو.. إذن لن تجدني بدعاء ربي شقياً؟!
سعد معه البراءة.. بدعوة النبي له.. لو دعا لاستجاب له الله اللًهمً سدد رميته واستجب دعوته فما دعا سعد على أحد إلا استجاب الله له.
وعمر في وجدانه الإيمان بالله.. والثقة به.. كأنما هو دعا الله حين ذلك أن يستجيب دعوته.
من هنا أريد أن أفقه الموضوع من فقه الموضع، فالاستجابة كانت لعمر.. ما دعا على سعد.. وإنما دعا الله ألاّ يدعو عليه سعد.. فصبّر الله سعداً عن الدعاء لئلا يصاب عمر..
من هذا المعنى الدقيق يعطينا التأكيد لاستجابة الدعوة لسعد.. وأعطانا اليقين أن عمر قد احتجب دعوة سعد.. حجبها الله عن أخوين أصبحا بنعمة الله إخواناً، لم يلبثا لحظة غل حتى نزعه الله من بينهما وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً حال عجيب.. لو تمكن المسلم من إيمانه لانتصر على نفسه أولاً.. ولانتصرت نفسه على الغل ثانياً.. ولأصبح في مأمن من الذين لهم سلطان سواء كان بالدعوة المستجابة أو حتى بالضربة الطاغية.
قال عمر لسعد.. يستحلب الصفاء من قلبه: رأيتك تتخطى رقاب الناس.. لا ترهب أمير المؤمنين.. فأحببت أن يعلم الناس أن سلطان الله في الأرض ينبغي على المحبين لله المؤمنين به ألا يتخطوا سلطانه!
ورضي سعد.. ذلك أن سعداً أحب الوالي لعدله.. وأحب الولاية راعية للأمة.. وأحب الولاء إخلاصاً للجماعة.
من هنا امتنع سعد أن يخوض الفتنة.. فمات بالعقيق يحمل على أكتاف الرجال.. يدفن في البقيع.. رضي الله عن عمر.. رضي الله عن سعد..
ـ كان طه حسين الشيخ الدكتور العميد ينكر الارتجال، ويرى أن الحارث بن حلزة اليشكري قد زوّر الرواة عليه المعلقة الهمزية.
آذنتنا ببينها أسماء
رب ثاو يمل منه الثواء
حتى إذا سمع الكاظمي عبد المحسن شاعر العراق يرتجل المئين بجرس ثابت اهتز إنكاره.
وجاء الذي زلزل هذا الإنكار فانقلب إلى تصديق ذلك الشيخ عقل.
سمعنا الرواة يذكرون كيف ارتجل أمام المرحوم الملك عبد العزيز في منى..
ثم زار المدينة، فجاء يزور السادة أمين الحسيني ورياض الصلح وبشير السعداوي وعزة دروزة في مجلسهم في بيت الأكابر السادة آل هاشم في الساحة. وكانوا منزلين ضيوفاً على الحكومة.
وكنا نزورهم فجاء الشيخ عقل، وأخذ مجلسه ثم انهالت عليه أبيات من الشعر. يرسلون البيت.. فينشد على روية الستين والسبعين بيتاً قصيداً محكماً رائعاً.
وأخذت أرسل هذا البيت لابن معتوق الموسوي:
هذا العقيق وتلك شم رعانة
فامزج عقيق الدمع من عقيانه
فأنشد وأنشد.. فما قدر واحد أن يسارعه يكتب عنه. ولم تكن الشرائط المسجلة قد وصلت.
ثم أنشدت بيت الشاعر المكي ((سحراً)).
ظبي جاوى قد سباني
لفظه الدر الأنيس
ثغره كنز اللآلئ
ريقه أنقر منيس
فأسرع كبارق يرسل الستين والسبعين على هذا الروي ونحن نسمع ولا نقدر نكتب.
وكانت ليلة فيها سمر لطيف.
ولم أدر من قال: هذا برهان الصدق في الارتجال.. فما يصنع المنكرون.
أحسب أن المتكلم كان عزة دروزة يرحمه الله.
وهذا المبادع أو المبادعة بين شعراء باديتنا قد نماهم إليه عرق في صناعة الارتجال.
إن العربي قال الكلمة شعراً وهو أمي. وهذا يعني أنهم يرتجلون. يسمعون ويحفظون ويروون ويدون الرواة هذا الديوان شعراً.
فإنكار الارتجال قد سقط، وإنكار الحفظ ساقط، فلا زيف ولا صناعة نسب بها صانعها الشعر لفحل من الفحول.
• أحمد بن أبي داود عربي ضاق بالشعوبية في بلاط بغداد، صبر عليها حتى تمكن عند المعتصم. لكنها كانت قد أرضعته لبانها فتمكنت منه.. جعلته معتزلاً يقول بما أنكره الأكابر من علماء السنة.. من أمثال الفضل بن دكين أبي نعيم، والإمام أحمد يصمدان أمام الباطل، فلا يداوران تحويلاً له أو تحويراً..
وأحمد بن أبي داود كان طليعة عربية في فصاحة ولسان.. احترف المذهب للسياسة فاحترق قلبه في أحبولة السياسة..
صبر في كراهيته لمحمد بن عبد الملك بن الزيات حتى أحرقه في التنور. خلاف الساسة ومحترفي السلطان!!
عذاب، أي عذاب، تصنعه شهوات الرجال، تتخذ من مذهبها ذريعة.. تحرق لحم الإنسان في أتون نار!!
وكان الطليعة العبقري أبو عثمان الجاحظ منقطعاً عن أبي داود، إلى ابن الزيات.
وهذا لا يعجب قاضي القضاة، لا يعجبه أن يكون قلم الجاحظ وفكره في خدمة خصمه، فكراً بعد فكر، ونزهة المجالس في ترف العبارة!!
وطلب الجاحظ يريد القضاء عليه، ولا أحسبه أراد الهلكة له..
أحسبه أراد إرهابه لينضوي تحت لوائه، يجعله حاشية له..
وأمسكوا بالجاحظ يقدمونه في الحديد بين يدي ابن أبي داود..
معتزلي جعله مذهبه في خدمة السياسة والذات.
ومعتزله اسمه الجاحظ، جعله مذهبه في خدمة الفكر والكلمة والجماعة التي يريد أن تكون تابعة لفكره..
وكانت جولة صيال بين لسانين وفكرين ونزعتين مذهبهما واحد ومطلبهما مختلف.
فاسترخى الجاحظ للسلطان، وطلب المغفرة، وبرع في لحن القول بلسان وقلم هما السلاح في يد الإمام في البيان والتبيين صانع الكلمة البيانية.. وعفا عنه قاضي القضاة..
وعاش الجاحظ يعرج من كسر في رجله حين هرب من دار ابن الزيات..
ومات الجاحظ، فترك صيته لم يخفت، وأمانة في اللغة الشاعرة أدركها أحمد بن أبي داود.. ولو عاش لها، ولكنها تركته ليكون الجاحظ حياً يعرفه كل قارئ حرف.. بينما خصمه لا يعرفه إلا قلة..
ـ والشيء بالشيء يذكر.. فقد حدثني أستاذنا أبو تراب، وقد جاء ذكر لتفسير هذه الكلمة: ((لحن القول)).
ـ قال: انفلت من قلم الجاحظ غلطة في تفسيرها.. فقد كان يقول: يعني تكسر الكلام والثقة والأمانة به في نطق الكواعب الحسان والمغنيات.
فجاء صديق لم يسمعه أبو تراب، فقال للجاحظ: إنك تخطئ في هذا، إن المعنى هو تخريج القول وتشقيقه وتفصيحه ((لعلّ أحدكم ألحن بحجته)) كما في الحديث!..
فقال الجاحظ: صدقت، إنها فلتة، ولكن ماذا أصنع؟.. لقد ذهب الكتاب من يد النساخ إلى يد القارئين ليعلّق القول في أذهانهم، فلا أستطيع إزالته.. دعها، ولأعترف بذلك لعلّ من يقرأ التعديل يعتدل..
هذه حصيلة الكتب التي تسمونها ((صفراء)) يا قراء الورق الأبيض!!.
• أستاذنا السيد أحمد مصطفى صقر علمنا الكلمة البيانية. فقد كان يرحمه الله على قلة احتفاله من انشغال باله طليعة ذكية. يعرف من تاريخ المدينة الكثير والخفي. حتى لقد كان الأمين على النسب وشجيراته. يرد البيوت إلى أعراقها. خصوصاً إذا كانت علوية. حسنية أو حسينية.
كان يطلب أن نكتب في موضوع ما.. فلا يتركنا نمسك أقلامنا. إلا وأمسك نفسه يمشي في صالون الدرس يتخصر. كأنما الكلمة تضع له التيه والزهو، فإذا هو يتغير.. يتمعر وجهه، فإذا أعطيناه الورق، وقف يملي علينا وهو يمشي جيئة وذهاباً، يلقي ما زوّر في نفسه من كلام في الموضوع الذي فرضه علينا.
يلقي الكلمة حرفاً، حرفاً، كل حرف من مخرجه بجرس أغن له رنين، فإذا أكمله تصبب عرقاً من راحة النفس، جاء بهذا النفيس من القول.
وكأنه بهذا يعطينا التصحيح في الأذن والوجدان، ثم يأخذ الأوراق يعيدها بأرقام الصواب والخطأ، فلا تجدنا إلا وقد عرفنا الجيد من المخفق، لا من أرقام الأوراق، وإنما من الكلمة التي ألقاها علينا، كتبناها وحفظناها.
درسه ليس كما يتدفق به ثم يمضه، وإنما كيف يعرضه بالحوار ليسأل، يسأل ونجيب.
يعرف التركية كلها ما أغرقت لسانه فيها، فالأصالة وعمق الدراسة في طفولته على يد العلامة أبيه السيد مصطفى صقر حفظت لفظه وجرسه وقاموسه.
ضحوك لا يتبذل، غضوب لا يسرف، كريم، كريم على قلة. لقد عاش أيام الشظف، فأحالها إلى رغد فيما يظهر به علينا، ما حجب مجلسه ولا مائدته عن طاعم. فلعلّه أحد الذين عرفتهم، لا يحبون أن يأكلوا وحدهم.
طروب، لعلّ الرجل الثالث في المدينة اقتنى راديو، أهداه له تلميذه، ابنه وصفيه صديقنا أبو بكر ناظر رحمه الله. ولعلّه الثاني الذي اقتنى ((الفوتوغراف)) شراه من جدة، فقد كان وطيد الصلة بجدة وأهلها. فقد كان مديراً لمدرستي فيها في زمن مضى تتلمذ عليه كثيرون.
أذكر نادرة فيها شقوة النفس المحسة. ونادرة أخرى فيها فكاهة النفس المرحة.
كان جالساً في ((طاقة الصالون)) يطل على ((برحة)) الباب المجيدي فإذا جنازة بدوي تحملها ثلاث نسوة ورجل، فانقلب إلى القبلة يسترجع ويلبس مشلحه ويجري يحمل الجنازة، كانت جنازة مجدور يوم فشا الجدري في البادية.. كان الناس يهربون منها.. أما هو فقد أقبل عليها، تربية مسلمة!
• للتاريخ ارتباطه.. حلقة تلو حلقة، وله أسبابه.. حدث وراء حدث، كأنما الشيء متصل به، ناتج منه، معزو إليه، مرتفع به، أو منخفض.. فيه عملية التوالد أو التوليد.. وضع يحتم وضعاً، ومقدمة تتلوها نتيجة!
من هنا قالوا: التاريخ يعيد نفسه، ومن هذه قرروا حتمية التاريخ!!
ما لا بد أن يقع لا بد أن يقع.. خذ مثلاً هؤلاء الرجال الخمسة وعلاقتهم ينساح في الشرق من تخوم ((كاظمة)) إلى تخوم الصين.. له مقدمات كان حتماً أن تأتي بالنتيجة! هؤلاء الرجال الخمسة في التاريخ القريب من الفتح تلاحقت الأحداث بهم أو عليهم أو عنهم.. لا نريد أن ندخل قضاعة وما ملكت في العراق، وما امتلكت من الأرض، ونريد أن نبعد عن المناذرة، وكيف كانت الركيزة لهذا الفتح في بواطن الأمور رغماً عن ظواهرها التي حاربت بها الفتح.
عدي بن زيد العبادي عرف الأكاسرة والقياصرة، وأراد أن يحدث شيئاً فما مكنته الأسباب، أو تغلبت عليه الأسباب حتى في مرثيته التي رواها خالد بن صفوان يتحسر على الضيزن.. كان يحذر من المناذرة مما فعلته ابنة الضيزن.. خانت أباها، وراء عشقها.. عشقت ((سابور ذا الأكتاف)) ففتحت له الطريق ليقضي على ملك عريض كان للعرب في العراق!
حقيقة واقعة تزيدها الأسطورة جمالاً.. التزيد فيها خير من التنقص لها.. فليست الحقيقة وثيقة نذهب بها إلى محكمة العدل الدولية وإنما الأسطورة توثق، ووثوق ترتفع بها همم الرجال من جمال الشعر فيها، وجلال الشاعرية.
وحاجب بن زرارة التميمي عشق الفرس.. أحبهم، لعلّه كان يريد شيئاً من وراء ذلك حتى إنه سمى ابنته باسم فارسي ((دوختوش)) تركيب مزجي دوخت: البنت، ونوش: الحلو، أو السكر، فلم يصنع شيئاً لما طلب - أعني الشيء المباشر لما طلب - أعني الشيء المباشر له، ولكنه صنع كل شيء غير المباشر.. طلبوا قوسه الوديعة عند هانئ بن مسعود الشيباني، فعز على هانئ أن يسلمها.. فصمد لقتال الأكاسرة.. لا أدري كيف لا يكون موقف هانئ، أعرق في الوفاء من موقف السموأل.. السموأل صمد لحرب قبيلة.. أما هانئ من أجل القوس صمد لحرب الإمبراطورية.. انتصر عليها في ((ذي قار)).. قالها محمد النبي صلَّى الله عليه وسلم. اليوم انتصف العرب من العجم وبي نصروا وكأنما انقضى دور عدي، ودور حاجب وهانئ، ليأتي دور شيباني آخر اسمه سيدنا ((المثنى بن حارثة)) الذي هون أمر الإمبراطورية على أبي بكر ((كنا نغزوهم فننتصف منهم وينتصفون منا قبل الإسلام)) فتولى قيادة الحرب.. استغفر الله.. قيادة الفتح!
وي؟؟.. حتى إن سلمى زوجته، وحتى فرسه هما كالمثنى أبتا إلا أن تكونا في القادسية من الفاتحين.. تلك كانت زوجة سعد بن المثنى، والفرس كانت تحت أبي محجن في اليوم الأبيض: الفرس فرسي.. والقتال قتال أبي محجن. قالها سعد.. سعد بني أهيب..
ـ خبر أذيع فلم أسمعه.. سمعته فجأة، تلقاه الصديق عبد الله جفري من الرياض.. من مكتب عكاظ حرصاً من هذا المكتب - لا يركن إلى إذاعته.. وإنما هو - أعني فهد العيسى - قد تَلْفَن به.
الخبر عن وفاة الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي هذه الديار - الكيان الكبير - المملكة العربية السعودية.
كان الخبر مفاجئاً لنا جميعاً.. لا عن إنسان يموت، كلنا صائر إلى ذلك.. لكن موت العلماء هو انتزاع العلم وفزع الدين، العلم لا ينتزع انتزاعاً وإنما يكون الانتزاع له بموت العالم.
لقد ارتج علي أن أتكلم.. برهة استوفي بها هدوءاً.. استرجع فيه ذكر الله بارئ النعم خالق الإنسان. قدر الموت عليه كما أعطاه الحياة.
وأرجعت النفس باسترجاع النفس حتى ذكرت كيف ينزع الرجال إلى الأشياخ يجدون عندهم الراحة في حل معضلة أو في إزالة مشكل فناديت: فناديت باسم الشيخ والغيظ جمرة تذيب دماغ الغيب والعقل ذاهل. وتذكرت دمعة حافظ على الشيخ السلف محمد عبده أرثي بها الشيخ الخلف محمد بن إبراهيم:
سلام على الإسلام بعد محمد
سلام على أيامه النضرات
لقد حملوا الفضيلة في الثياب على الآلة الحدباء.. ورجعوا يخافون الرذيلة في الإياب.. من فراق الأكارم الأوفياء.
لقد كان الشيخ من غراس الشيخ، علمه وأوصى به وتفرس له أن يكون من بعد أن يحفظ مكانه يقف على الثغرة التي كان هو فيها. فالشيخ محمد بن إبراهيم هو من غراس الشيخ الكبير عبد الله بن عبد اللطيف.. هو الذي صحت فراسته ليكون هذا البصير المبصر وريثه في الإمامة.. إمامة الدين والفكر والفتوى.. تغمدهم الله برحمته.
كان هيبة تمضي على الأرض.. غرسها الله له فليس هناك ما هو ألزم لحارس النفرة من الهيبة. فلقد كان قائماً على الأتباع.. يدفع الابتداع لا يشد الحبل لئلا ينقطع.. ولا يتراخى به لئلا تنقطع أخلاق الرجال.. كان مناعاً لكل ما هو شر من قديم أو جديد، لا يتمنع أمام ما هو صالح من طارف وتليد. مبغضاً لإثارة الخلاف غير بعيد عن الألفة. لا يتكلّف في هذا ولا ذاك. وإنما هو قد عرف زمانه وإنسان زمانه فسار بالهوينا لا يشتد ولا يتراخى. لا يتحدث ولا يتزمت.
لست في مقام الإطراء له.. ولست من العارفين لأجيد الرضاء.. وإنما أنا من المحبين.
ـ .. والرجال بناؤون إذا ما كملت أخلاقهم.. هدّامون إذا ما فسدت ضمائرهم!
ولقد جربت هذه الأمة طرازاً من الرجال، وهم الغالبون فيها الأكثرون، كانوا البنائين.. إخلاصاً في ضمائرهم.. صدقاً في إيمانهم.. تبتلاً في أعمالهم.. رهباناً بالليل.. فرساناً بالنهار!
ومضى في حياتها طراز أساء فأصبح اسمه في التاريخ منبوذاً!
وإرسال الحماسة إلى الناس قد يكون في الكلام عن البنائين، والمخلصين خيراً من كلمة عن الآخرين!
هناك رجال لهم مواقف.. تذكرنا بهم لنذكرهم بالثناء ولنتخذ منهم المثل المحتذى!
عاش سهيل بن عمرو في جاهلية، فلما أشرق نور الإسلام كان ألباً عليه.. خطيباً بارعاً يرسل الأذى.. يحارب الإسلام، وأسر في بدر مشركاً، أطلق بالفداء.. فقال عمر يخاطب رسول الله: ((دعني يا رسول الله أنزع ثنية سهيل.. يدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيباً أبداً..!)).
علم البشر، لكن علم النبوة قال: دعه فلعلّه سيقوم مقاماً تحمده!.
ولحق الرسول بالرفيق الأعلى فإذا هي الردة وإذا هي الفرقة، وإذا أصوات ترتفع في مكة.. كأنما تريد إعلان الفرقة.. فيقوم سهيل وقد أسلم خطيباً يسكن النفوس.. يدعوها للثبات نبايع أبا بكر، وإذا عمر يتذكر المعجزة فيقول: ((الله أكبر)).. أهي بشارة من النبي.. بإسلام هذا الكبير للموقف الكبير..؟!
إنها بشارة في دعوة لتكون معجزة:
وفي حنين يرتد الجيش اللجب.. لم تُغن عنه الكثرة، فإذا أبو سفيان يقول: إنها هزيمة لا يردها إلا البحر وإذا صفوان بن أمية - ولما يسلم بعد! - يرد على أبي سفيان.. يقول له:
ـ ((أتبشرني بظهور الأعراب؟.. لأن يربني رجل من قريش خير من أن يربني رجل من هوازن!..)).
أخلاق عالية ليست من العصبية، ولكنها من الحصافة.. هكذا يفعل كبار الرجال حتى لو قتل آباؤهم في بدر أو قتل أعمامهم في أُحد!..
سهيل بن عمرو يعظم في الإسلام.. لا يسأل عن موقف له في الحديبية، ولا عن مواقف أخرى لأنه الكبير، هداه إلى الخير عقل.. حتى أصبح أحد شهدائنا في اليرموك.. رضي الله تعالى عنه، وصفوان يكبر ويكبر حتى يكون الثقل في مكة.. كأنما هو شيخها!
مثلان.. تضر بهما لإيمان الرجال.. لا تأخذهما الأحنة ينتقمون لآلام ذاتهم، وإنما هم ينتصرون بذات أمتهم.
وهناك مثل ضربه التاريخ العربي وقع على الأدنى من حدود نجد، والأدنى من حدود العراق في مدينة الزبير.. كان شيخها إبراهيم العبد الله مستقلاً فيها يحوطها طوال أيام الحرب العالمية الأولى.. فلما قام حاكماً في العراق راوده "سير بير سيكوكسي" أن ينفصل بمدينة الزبير عن العراق كيانه، فأباها الرجل الكبير.. أي إنه رفض أن يكون أميراً على قرية ليكون مخلصاً لكيان لا يرضى أن يتمزق.
ذرية بعضها من بعض يكثر فيها الصالحون، وينبذ منها الطالحون من قوة الصهر بقوة الإيمان.. لتقوى أمة عاشت على الدنيا منتصرة على الباطل.. ناصرة للحق.. ناشرة للهداية!!
• مارتن لوثر كنج.. قتله رجل أبيض.. الرجل الأبيض قتل إنساناً.. أماً "مارتن لوثر" فقد مات ليقتل الحقد.. الحقد أراد "لوثر كنج"ألا يكون في البشر لئلاّ يكون في شعب الولايات المتحدة!.. ولكنه ما استطاع.. فقد قتله الحقد ليكون الحقد مقتولاً به.. في اللحظة التي أصيب فيها! إنسان ما كان ينبغي أن يقتل لكنه كصاحب رأي.. داعية سلام.. كان لا بد من أن يقتل! كلمات ثلاث سمعتها من الكلمات الكثيرات التي صكت مسامع الدنيا في رثائه... كلمة انديرا غاندي.. كلمة كارمايكل.. كلمة جاكلين كيندي. هذه الكلمات الثلاث لها طعم ومذاق، أحترمها.. حفظتها.. ولكن سأدلي بفهمي وسأؤيد ما أراه جديراً بأن يكون النتيجة أو الحقيقة لهذا الدم المراق.
ابنة نهرو قالت.. إن في قتل لوثر النكسة.. تحول دون الوصول إلى الضوء! كلمة مجنحة، ومليحة. ليست بالغريبة على أنديرا.. بل هي من طبيعتها لأنها عاشت في حضن أب تعلم من أستاذه غاندي اللا عنف!، لكني لست معها في النتيجة عن الضوء.. إني مع كلمة "كارمايكل".. قال.. الآن قد بدأ الضوء!.. نعم لقد بدأ الضوء.. لقد شدت أعصاب الشعب الأمريكي على الكارثة.. ليست هي قتل مارتن، وإنما هو القتال في الشعب الأمريكي كله.. أبيض قتل أسود.. السود يقتلون البيض!
إن الزعيم الزنجي كان خصيماً في الاتجاه لمارتن لوثر.. لوثر كان يسير على اللا عنف.. وكارمايكل يريد العنف. وقد انفتح له باب العنف، ولا أحسبه يتخطاه. العنف المباشر، وإنما يريد أن يتوطأه تهديداً لتستفيق نفوس البيض من أحقادها.. وجاكلين كيندي.. وهي أم أمريكية لا تحب الفناء لأبنائها، ما أرادت أن تسير بكلمة قتل مثل أنديرا غاندي. وإنما أرادت أن تفسر الكلمة لكارمايكل.. كأنما هي وهو في خط واحد وإنما الفرق في الأسلوب الأبيض والأسود..
ـ قالت جاكلين.. إن الشعوب التي تعيش على السيف.. أي تبني حياتها ومجدها بالسيف سوف تفنى بالسيف!
أليست هذه كلمة الزعيم الزنجي بأسلوب محذر لا بأسلوب يتوعد.. ليس من همي أن أرثي غاندي الزنوج ففي نفسي منه شيء.. كان يحارب العنف. ولكنه زار إسرائيل. وهي الطغمة التي تمارس أقوى أنواع العنف، لكنه على كل حال إنسان ما كان ينبغي أن يقتل.. لكي ينتصر كان ينبغي أن يقتل.
ـ في كتاب "إعلام الناس عن أخبار بني العباس" حكاية السقاء والأصمعي.. وفي جريدة البلاد أمس خبر قرأه كل الناس.. هو ذلك الإعلان في الصفحة الأخيرة لا المتأخرة.. ولا أسميها الثامنة.. فالثامنة صفحة في "عكاظ".
حكاية إعلام الناس - قالوا: إن الأصمعي إمامنا الموسوعة أحد حفظة الذكر ولغة الذكر يرحمه الله.. سمع سقاء يحمل قربة - يظهر أن القربة كانت شعاري - وأنتم يا جيل اليوم لا تعرفون القربة الشعاري.. قد أضاعها التنك أولاً وأضاعتها المواسير ثانياً وأضاعها ضياع المهن اليدوية.. كل شيء "براني" حتى القرب والمراوح والزنابيل أما "الجواني" فذهب.. أضاعه أهله.
كان السقاء يحمل هذه القربة.. وينشد هذا البيت:
وأكرم نفسي إنني لو أهنتها
وحقك لم تكرم على أحد بعدي
ويظهر أن السقاء الشاعر كان ذوّاق أدب.. عطشان كلمة.. ريان معانٍ، وسمعه الأصمعي وهو ينشد فأقبل عليه.. قائلاً سائلاً: يا هذا.. أي كرامة لك وأنت تحمل هذه القربة ؟!
فأسرعت المعاني على السقّاء الشاعر يقول للأصمعي: لقد أكرمتها عن سؤال مثلك.. وسكت الأصمعي ليرويها.. يلقن الدروس لسامعيه والرواة بعده والقارئين له.
ولعلّ صاحبنا الفتى المعلن في البلاد بما نصه "بكالوريوس إدارة أعمال من الولايات المتحدة الأمريكية يطلب عملاً لفترة الإجازة الصيفية تلفون "3263" لعلّه يُحِبّ أن يكرم نفسه.. جاء في العطلة يشم تراب أرضه.. يضمه حنان أم وأب فلم يرد أن "يتلقح" في البيت.. أو "يتصرمع" في طريق المدينة.. أو يفعل كما يفعل الفتيان إياهم فأحب أن يشغل فراغه بعمل. قد لا يكون في حاجة إلى الأجر.. وأنا باسمه ولا أعرفه أرفض أي عون له يأخذه وهو قعيدة البيت.. فوهم كبير أن هذا الفتى طالب عون.. إنه طالب عمل.
الذين تأخذهم هزة من النخوة.. متأثرين بالترف الفكري بهذا الشاب والوفرة في قوة أعصابه ينبغي لهم أن يفتحوا له عيونهم وآذانهم وقلوبهم لإيجاد المجال.. مجال العمل لهذا وأمثاله.. كفانا مثلجات.. كفانا سلع استهلاكية.. المجال في إحياء الصناعات اليدوية.. في توظيف رأس المال.. في صناعات ما أغنى التراب مجالاً لها.. مادة خام.
تحيتي لهذا الفتى.. ومعذرة لعكاظ.. تنشر إعلانه.. دون أن تدفع قيمة الإعلان.. لكن المثوبة لقاء الدعوة الخيرة شيء لا يقدر بثمن.
• القاضي عياض يرحمه الله أورد في ترجمته للإمام الشافعي محمد ابن إدريس المطلبي الهاشمي.. ملحاً ومواقف تخيرت منها ثلاثة..
ـ لما قدم الشافعي على الزعفراني نزل عليه، فكان الزعفراني يكتب للجارية ما يصلح من الألوان كل يوم لطعامه. فدعا الشافعي يوماً الجارية، ونظر في الكتاب، فزاد بخطه لوناً اشتهاه، فلما حضر الطعام أنكر الزعفراني اللون الذي لم يأمر به، فسأل الجارية فأخبرته، فلما نظر في الرقعة وجده بخط الشافعي، أعتق الجارية فرحاً بذلك.. أيهما الكريم.. أحسب أن الشافعي أكرم. لم يأنف أن يأكل من بيت صاحبه ما يشتهي، لأنه قادر أن يعطي صاحبه ما يشتهي، ثم هو الذي أعتق الجارية بما صنع وهي أعتقت نفسها بما صنعت.. تلك كرامة المعاني أرجحها على كرامة المادة!!
* * *
• وروى أن الشافعي كان عطيراً - يعني يتعطر حباً في الطيب - وكان غلامه يأتيه كل يوم بغالية يمسح بها الأسطوانة التي كان يجلس إليها. وكان إلى جانبه رجل متزهد، فعمد إلى عذرة - الغائط - فجعلها في شارب نفسه - يعني دهن شاربه وغاصه بالغائط - مضادة لما يفعل ويفعل غلام الشافعي بالأسطوانة. وكان يسمى الشافعي البطال..
فلما شم الشافعي الرائحة - يعني كانت أصص خراء - قال: فتشوا نعالكم، ثم قال: ليشم بعضكم بعضاً، فوجدوا ذلك بالرجل. فقال الشافعي: ما حملك على ما فعلت؟
ـ قال: رأيت تجهرك فأردت أن أتواضع لله!!
قال الشافعي: اذهبوا به إلى صاحب الشرطة ليعقله حتى نتصرف..
فلمّا خرج الشافعي أمر به فضربه ثلاثين درة وقال له: هذا أراه لجهلك، ثم أربعين، وقال له: هذا لتخطيك المسجد بالعذرة..
* * *
ـ قال الشافعي: من ولي القضاء ولم يفتقر فهو سارق، ومن حفظ القرآن نبل قدره، ومن تفقّه عظمت قيمته، ومن حفظ الحديث قويت حجته، ومن حفظ العربية والشعر رق طبعه، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه..
ملحوظة:
نقلاً عن ((ترتيب المعارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك" ج - 2 - تأليف القاضي عياض بن موسى بن عياض السبتي - نسبة إلى سبتة - جبل طارق - المطبوع في المملكة المغربية.
ـ قالوا: إن مالكاً بن أنس وصف أبا حنيفة بهذه الكلمة:
رأيت رجلاً لو قال لك إن هذه السارية ذهب لقام بحجته!.
وقد أخذها المنفلوطي فوصف "فارس نمر" هذا الوصف نفسه..
كاتب لو قال لك إن هذه السارية ذهب لقام بحجته!.
ويباح لنا أن نقلّد هؤلاء الأكابر فأقول في مشعل السديري في يومياته، وفي دفاعه عن شاكر النابلسي: إنه قال:
ـ قال لنا هذه السارية ذهب فقام بحجته!!
ـ في عهد التدوين يضيع الكثير. وفي عهد المطبعة والكهرباء ودور النشر يضيع الأكثر. أما في عهد الرواية والسماع فقد حفظت الرواية ودوّن السامعون في نواديهم الأكثر والأجود والأصلح.
ويظهر أن الوفرة تسبب الاتكال فالتواكل. وإن الفاقة تحض على الجد والجهد والحفظ والصون.
فكم من خبر طريف ضاع، وكم من ملحة ذهبت تذوب في إهمال، وكانت لا تذوب من نسيان.
وقرأت في الأغاني في أخبار المخزومي عمر بن أبي ربيعة. تحت عنوان ((المفاضلة بين عمر بن أبي ربيعة وقيس الرقيات)) ص 113 - ج - 1 - طبعة التراث!
أخبرني الحزمي، قال: حدثنا الزبير.. قال: حدثني محمد بن عبد الله البكري وغيره عن عبد الجبار بن سعيد المساحقي عن أبيه.. قال: دخلت مسجد رسول الله صلَّى الله عليه وسلم مع نوفل بن مساحق.. فإنه لمعتمد على يدي، إذ مررنا بسعيد بن المسيب في مجلسه وحوله جلساؤه.. فسلمنا عليه. فرد علينا.. ثم قال لنوفل: يا أبا سعيد، من أشعر؟ صاحبكم أم صاحبنا؟
يريد: عبد الله بن قيس، أو عمر بن أبي ربيعة:
فقال نوفل: حين يقولان ماذا يا أبا محمد؟.. قال حين يقول صاحبنا:
خليليَّ ما بال المطايا كأنما
نراها على الأدبار بالقوم تنكص
وقد قطفت أعناقهن صبابة
فأنفسنا مما يلاقين شخص
وقد أتعب الحادي سراهن وانتحى
بهن فما يألو عجول مقلص
يزدن بنا قرباً فيزداد شوقنا
إذا زاد طول العهد والبعد ينقص
ـ ويقول صاحبك: ما شئت!!
ـ فقال نوفل: صاحبكم أشعر في الغزل، وصاحبنا أكثر أفانين شعر!!
ـ فقال سعيد: صدقت.. فلما انقضى ما بينهما من ذكر الشعر، جعل سعيد يستغفر الله ويعد بيده حتى وفى مائة.
ـ فقال البكري في حديثه عن عبد الجبار.. قال مسلم: فلما انصرفنا، قلت لنوفل: أتراه أستغفر الله من إنشاد الشعر في مسجد رسول الله صلَّى الله عليه وسلم؟
ـ فقال: كلا! هو كثير الإنشاد والاستشهاد للشعر فيه!!
ولكن أحسب ذلك للفخر بصاحبه..
فهذا الإمام الجليل، وبقية الناس، قد أنشد الشعر وحكم فيه.
• كنت أقرأ في تاريخ بغداد ترجمة لإمام المسلمين قاطبة "محمد بن إسماعيل البخاري". فوقفت عند هذا الخبر: كان الإمام يملي "يكتب" يملأ المحبرة تلو المحبرة، يبري القلم تلو القلم، والسامعون، والناقلون يأخذون عنه.. يعجبون كيف يتحمل هذا الرجل ما يصنع في رواية الحديث، وصون السنة، وقتل الكذب على رسول الله صلَّى الله عليه وسلم!
ـ قال أحد تلامذته: لقد رأيته وقد أجهد نفسه.. ترك المحبرة، والقلم، والتحدث، واستلقى كأنما هو يستريح، فسألته: لماذا.. لم تكن هذه عادتك؟!
ـ قال: يا بني.. دعنا نستريح قليلاً، فلعلّ العدو يغامصنا - يشرع بعدوان علينا - فيجدنا وقد أعطينا أجسادنا الراحة لعلّنا نجد دفعاً في مقاومته!
عجيب!.. هذا الإنسان الذي شغل عمره بالكلمة الصادقة يقولها ويرويها يأبى إلا وأن يعمل العمل الصادق؟!. يصون به الصدق الذي يتبع.. فهو لا يترك العمل وإن شغل بالعلم.. لقد كان عمله في طلب الراحة صناعة الرباط كأنما هو في كل ثغر مسلم.. في كل أرض مسلمة.. في كل سجدة مسلمة.. يحافظ على أن يكون مرابطاً ليجاهد في سبيلها لحمايتها.. لا يكفي الصدق في القول، بعض حماية الصدق في العمل!
لو سأل الناس كلهم: هل يكلف محمد بن إسماعيل البخاري فوق ما يعمل في صيانة السنة أن يحمل السلاح ليحارب؟!
لو سئل الناس كلهم.. لقالوا: كلنا نحمله دون أن يحمله البخاري، لكن الإمام يعرف أن هؤلاء الذين يحبونه أن يستريح لا يحملون عنه السؤال في اليوم الآخر.. إنه يريد أن يحتمي من هذا السؤال.. يريد أن يزيد الأجر.. يريد أكثر من ذلك أن يعلم الناس معنى الرباط لمواجهة العدو إذا ما غزا ثغراً مسلماً!
لقد أعطتني سيرته هذا الخبر.. كما أعطته لغيري ممن هم أدرى ولكني أعطيه للناس أمانة الحرج أن أكتمها في وقت نحن في أشد الحاجة إلى أن نكون كلنا المرابطين.. فإن الثغور المسلمة قد احتلت، والعدو لم يشرع في الغزو، وإنما غزا واحتل، وانتهك، وطغى.
هكذا الإمام البخاري كان جندياً يرابط في كل أرض سكنها.. إنه يحمل السلاح لحماية العلم.. لحماية الدين!
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جرير المجامع
* * *
إني لأغمض عيني ثم أفتحها
على كثير ولكن لا أرى أحدا!
رجل واحد.. هذا قليل، لا بل هو كثير!!
هنا يتحكم الكيف لا الكم، والأمثلة كثيرة على ما يفعله رجل واحد أودع الله فيه قوة فائقة من قوة غير منظورة.
لا أريد أن أتحدث عن مثل من الشرق أو الغرب الآن.. من الصالحين والطالحين الذين آثروا في هذه الدنيا بعض ما أعطوا من الخير، أو كل ما زرعوا كثيراً من الشر.
المثال نضربه من تاريخنا: كان المثنى بن حارثة الشيباني رجلاً تمرس الحرب يغير ولا يمسكه عدو كأنما هو طليعة الفداء العربي الأولى، أصبحت بفقه أبي بكر قيادة فاتحة تستخلص الأرض العربية. وتنشر الهداية المسلمة. هذا الرجل الواحد المثنى بن حارثة طلب من أبي بكر المدد، فأرسل إليه رجلاً واحداً. قال عمر: أيستمدك المثنى فتمده برجل واحد؟!.. فأجابه أبو بكر: بالقوة غير المنظورة فيه.. الناظرة إلى كل القوة في القعقاع بن عمرو.. قال أبو بكر: إن جيشاً فيه هذا لا يغلب!
فراسة الصديق غلبت فراسة المحدث عمر.. كانت خبراً ثم صارت كرامة فقد قاد القعقاع مشاركة النصر في اليرموك، ومعركة كل النصر في القادسية.. قال في الرجل الواحد هذا القعقاع قائده سعد بن أبي وقاص يوم قاد ليلة الهرير ولا يلقى السيف من يده ليل نهار ((اللَّهم لم أمره، فأيده بروح من عندك)) هذا خبر ينكر القائد العام ما فعل قائد الكتيبة لتكون الكرامة لسعد انتصار القعقاع.
تذكرت هذين المثلين عن واحدنا الأول المثنى.. عن واحدنا الثاني القعقاع.. لأني قد رأيت الواحد في الثورة الفلسطينية: أبو عمار ياسر عرفات، وي! مالي غفلت.. كيف اجتمعت له هذه الأسماء الثلاثة؟.. عمار.. ياسر.. عرفات.
عمار كان صاحب قوة غير منظورة.. كان أحد المعذبين في الأرض، من أول السابقين حمل العذاب لأنه سيحمل الهداية لبنات في بناء المسجد، تراباً ثقيلاً في حفر الخندق، حملاً أثقل في صفين، حمله ليقتل، ولكنه حمله غيره حينما ظهرت بقتله الواضحة!.. ياسر: أول شهدائنا - أبو عمار!.. كأنما الاسم يلتقي بالاسم لتكون القوة غير المنظورة في قيادة فتح والعاصفة، ثم لتكون الساحة في فلسطين تكسب شعاعها من الساحة في عرفات.. عرفات موقف الحج، مدرسة تعلم الشهادة.. عرفات الساحة في فلسطين موطن الشهادة.. في عرفات ألسنة تعرب عن إيمانها في الساحة، في فلسطين قلوب وأيد وألسنة تعمل لإيمانها.. الإيمان في فلسطين ألاَّ يترك الفدائي سلاحه فإن لم يقتله عدو فسيقتله قاتل غدراً النكول والكفر ما قال عمار.. ما استطاع أبو جهل قتله ولكن أبا جهل نال ياسراً، وسمية.. ذلك أن عماراً كان يؤمن بعقل استطاع أن ينجو من براثن الختل.
أبو عمار الفدائي بالقوة المنظورة يتمتع بالقوة الناظرة.. عاطفة لا تسأل أن يسيل الدم، وعقل يريد أن يصون الدم لا يبذل إلا في سبيله.. لا يهدر من قبيلة. تلك حصافة الزعامة تجعل الرجل الواحد كل الرجال. أبو عمار يمسك القيادة يقول: ((ألف بندقية تزيدها نفعاً بندقية واحدة)) من هنا اكتسبت أن أقول عن الرجل الواحد بعض ما أعرف من منال كل ما لبسني من هذا الرجل في زعيم الفداء أبو عمار ياسر عرفات!!
ـ لم أكن أعلم عن خبر وفاته، لم أقرأه في جريدة.. وعجيب أن يموت علامة.. أستاذ كبير تنشر له المجلات الكبرى بحوثه وتعرفه المجامع ثم لا أرى حتى الخبر عن وفاته.. ما عرفت ذلك إلا من رجل كبير له وزنه يعتذر للدكتور فاضل قباني لأنه لا يعلم. وأخذ يواسيه بعبارات التعزية لفقده والده الدكتور خيري القباني رحمه الله.
عرفته أول ما عرفته حينما قرأت له في مجلات كبرى بحثه عن الخط العربي.. مصوراً الحروف التي يرى استعمالها خروجاً من الالتباس.. تتضح الكلمة دون سباق ولا سياق.. وكان أيامها البحث حاراً يقظاً أمام المجندين والرافضين والمناصرين والمقبحين.
وقرأ صديقي فهمي الخشابي يرحمه الله طرفاً من البحث فقال: إذا ذهبت إلى مكة يمكنك أن ترى الدكتور خيري القباني.. إنه سيبهرك بعلمه في التاريخ واللغة والأدب، ولم أذهب إلى مكة في تلك الأيام ولكني رأيت الدكتور خيري في المدينة ثم طال اتصالي به في مكة وفي الطائف.. فكان متعة لفكري.. موسوعة.. ليست المصندقة في الصناديق وإنما هي المتحركة إذا ما أثارها طالب علم يسأل.. وكنا جماعة الأصدقاء.. نتمنى أن يكون الدكتور خيري أستاذاً في جامعة.. لا طبيباً في مستشفى.. فهو من الأطباء الذين فتح الطب عواطفهم كعلم بالإنسان ليكونوا بالإنسانية.. فالمبضع والروشتة علاج الإنسان.. أما الثقافة والأدب فوقاية الإنسانية.
لقد فتح الطب عيون السابقين والمعاصرين للدكتور خيري على أمراض الإنسانية فأخذوا يعالجونها بتطبيب فكرها. دوهامل، سومرست موم، ديكنز حافظ عفيفي، إبراهيم ناجي، مصطفى محمود، يوسف إدريس.
وكبرت السن بالدكتور خيري فلم يعجزه فكره وإن ضعفت يداه.. هكذا عمل اليد قصير اليد.. أما عمل الفكر فرحب الامتداد.
يرحم الله الدكتور خيري لم يستوحش من غيابه عن الربوة ذات القرار فقد استعاض بالأنس بهذه الربوة على السراة اسمها الطائف.. كأنما أنا وهو نتعشق الأسطورة في الخبر تقول:
إن الطائف جنة من جنان الشام، قطعت منها، حملها الملك على جناحيه يضعها بين الشفا والهدا.. على سطح السراة.
يرحم الله الدكتور خيري وعزائي إلى أبنائه وذويه.. وأخص بالعزاء صديقه أستاذنا الحبيب الصديق الدكتور بشير الرومي - أمد الله في حياته.
• لماذا لم يقتلوه؟!
كان في إمكانهم أن يصدروا عليه حكماً بالقتل بدل السجن المؤبد في محكمة العدالة البشرية التي صنعت في نورمبرج!
ماذا يضيرهم لو قتلوا ((رودلف هيس)) كما قتلوا ((جورنج))؟!
تلك قصة ليس فيها عمد من الذين صنعوا هذه المحكمة، وليس فيها وازع التاريخ الألماني.. يأبى هذا الوازع إِلا أن يبقى مثلاً حياً مكتوباً عليه: وما زال الإذلال مرسوماً بالبقاء على ألمانيا المنهزمة. إن حياة هيس في السجن هي حياة المذلة المرهقة.. كان بقاؤه حياً إشارة بإصبع منه تشير إلى هتلر، وجوبلز المنتحرين: لقد أضعتما كل تاريخ ألمانيا بهذا الانتحار. كانت إضاعة فيها شرف لأنكما قتلتما نفسيكما، لو قتلوني لكنت أقل شرفاً منكم لكن سرمدية العذاب عليَّ هي في الوقت نفسه سرمدية اللعنة على الجبارين قاتلين ومقتولين!.. كأنما أنا الشاخص تنتشر اللعنة من شخوصي حباً.
إن الذين حرصوا على الحياة فوقفوا أمام هذه المحكمة قتلوا بطريقة غير شجاعة.. هم فقدوها لأنهم لم ينتحروا، والذين قتلوهم فقدوها لأنهم خافوا حياة المنهزمين.
ليس هناك جبن أشد من خوف المنتصر من المنهزم.. شعوره بالباطل يفقده لذة النصر. الحكم عليه بالظلم لعنة سرمدية.. أصبحت أنا المثل لها. لأسباب تافهة أبقوا على حياتي. لم يقتلوني أول الأمر كمعتمد على أرضهم.. افترضوا أني لاجئ، وافترضوا أن مشروعي للسلام بيننا وبينهم أنه صالح للاستعمال في وقت ما. وحينما لم يصلح افترضوا أني أسير.. أرادوا الإبقاء علي لذلك.. لعلّهم يستأهلون مدحة مؤرخ يثني على أنهم لم يقتلوا أسيراً.
أيقتلون الملايين، ويذلون الشعوب ثم يرغبون من مادح أن يرسل الثناء عليهم لأنهم لم يقتلوا رودلف هيس؟!
من هنا جاء الوازع الألماني من تاريخ هذا الشعب يمسك على حياتي ليعلم شعبي أنه مازال يعيش في الهزيمة. لست المعذب بألم الجسد ولا بألم النفس، وإنما أنا أصنع التعذيب لهؤلاء الذين قتلوا ألمانيا في شخص المنتحرين.. المقتولين والسجناء من أجل لعبة يهودية!
هذه اللعبة أصبحوا يمارسونها في الشعب العربي، ويستمرؤونها لأنهم لا يتوقعون أن تصنع محكمة مثل محكمة نوربرج.. تصنع الانتحار والقتل وعذاب السجن.. لكن الشعب الألماني لن يموت رغم الهزيمة.. لكن الشعب العربي لن يموت رغم الطغيان!!.
• .. ومات أبو رجاء.. أستاذنا أحمد حسن الزيات..
يرحمك الله فقد أمتناك الموتتين.. ميتة بالخبر الخاطئ كان دافعها أن نسمع عنك، لنُسمع عنك - بضم النون - وفاء الأستاذ.. فكأنما أراد الله في الموتة الأولى بالخبر الخاطئ أن تعرف قدرك عند قارئيك. وأنت بكبرياء الحي كرجل، وبفرحة النفس كإنسان قلتها كلمة.. رأيت كلمات الرثاء.. إنه لخطأ كبير أن يذاع موت إنسان لم يمت، ولكنه الخطأ المحبب الجميل.. شعرت به كإنسان أن لك في القلوب عيوناً تدمع. ترثيك. وكنت أحد الكاتبين.. ففرحت بعدها الفرحتين.. فرحة الحياة لك، وفرحة الوفاء مني.. الوفاء.. أتت من أكثر الناس تفقداً له، وفقداناً حتى لا أحسبك وقد مت الميتة الثانية يصدق الخبر عنها.. لا نسمعه إلا أخيراً.. كنت تنشد وأنت على فراش الوداع بيتي ((النواسي)):
وما الناس إلا هالك وابن هالك
وذو نسب في الهالكين عريق
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت
له عن عدو في ثياب صديق
الدنيا ليست هي العدو، فما أرادها أبو نواس إلا نجزاً.. مكاناً للمكانيين فيها.. تجرعت منهم وفاء ولا وفاء فيه. أعطيتهم من وجدانك تعلمهم اللسان.. اللسان المبين، فلم يعطك الأكثرون منهم شيئاً مما في أيديهم، ولا الشيء من قدرتهم، ولا المشاء من ألسنتهم.
وأردت نفسك في الموتة الثانية أن تستريح من عذاب القلم.. كنت تسير به مالكاً، ولا تسير - بتشديد الياء - من أحد مملوكاً به.
مملوكاً به! فأغلقت الرسالة، وحطمت القلم.. حطمت القلم حتى لو كتبت به! فليس ما كتبه الزيات بالتسيير هو الزيات باليسر!
لقد عابوا على المنفلوطي - فاتح الطريق أمامك - أن يكتب بأسلوب هذه البادية، فجئت أنت ترسخ قدم البيان ليكون أكثر من كاتب عرباً أعرابيين، ولقد أراد صديقك طه حسين أن يكون الوسيط بين نهج لطفي السيد ونهجك.. خضوعاً لرأي لطفي، أو تخضيعاً لمن حوله.. فإذا هو يكتب الشيء الكثير عن نهجك.. إخضاعاً منك له.. من عمل العاطفة بينكما.. يرسخها الوفاء، ولا يمسخها عدم الوفاء!
الذين عابوك يحسبون أن في قدرتهم قصر لغة الضاد على أسلوب غير مبين.. فإذا هم بالمران والممارسة، والمدارسة تقصرهم اللغة الشاعرة على أن يكونوا على الطريق.. لا فرق بين نهجك ونهجهم إلا في بعض الشكول والألوان!
أنت اليوم من موتانا، وقد أمرنا أن نذكر محاسن موتان.
ولقد أحسنت إلينا كثيراً.. كنت تحب لغة القرآن.. تنافح عنها.. تكتب بيانك جاحظياً كصنوك الرافعي.. وحتى الذين نازعوك لم يكتبوا أسلوبهم جاحظياً فأرغمهم العلم أن يكتبوا مقفعياً. وعلى نهج ذلك الآخر ((أبي حيان)).. كلكم نبع الدوحة الواحدة: لغتنا الشاعرة.. الدوحة الواحدة التي فقدكنهها أحد إخوان الصفاء ((عزيز أباظة)) حين قال ينافح عن اللغة: إن التطوير غير التدمير.. ولقد كنت مثله.. أو هو كان مثلك، تريدان التغيير للتغيير بالتغيير.. ولا تريدانه بالغرور للتغرير.. لقد أبت وعلى سنان أقلام مثلك هذه اللغة التي تنتصر فيموج بيانها كما أبت بك وبأمثالك أن تتكسر فيموج لسان الكاتبين بها.. فاللَّهم زد في حسناته لتمحو سيئاته فما هو إلا بشر.. لقاء ما أحسن إلينا إذ علمنا.. لقاء ما أحسن إلى اللسان العربي المبين!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1501  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 570 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ عزيز ضياء

[الجزء الثالث - النثر - مع الحياة ومنها: 2005]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج