عن الإسلام وتاريخه |
• وحينما أخذ الغرب عنا نحن العرب العلوم والفلسفة والأدب في كثير من صوره، وأخلاق الفروسية وصناعة السيف بدل البلطة ولعبة الكال ((الجولف)) وما إليها سواء أكان ذلك مما نقلناه وترجمناه وصقلناه، أم أنه افترعناه واخترعناه - لم ينغمسوا في تقليدنا في ما نلبس أو نأكل، أو في ما ندين به ونتمذهب له.. فاستنارت عقولهم وبقي وجدانهم يتبلور بما تصنع العقول وما تفرضه التقاليد وما تلتزم به البيئة، وما يحترم به الاعتقاد. |
وهم حينما أخذوا ((الرومبا)) و ((السنبا)) من موسيقى أفريقيا ورقصات الزنوج لم يلبسوا ((الكشكشة)) و ((النسعة)) ولم يخضعوا الطقوس من السحر والشعبذة، فلم يأكلوا لحوم البشر، وإن سفكوا دم البشر، وإن استرقوا الإنسان. |
والسابقون الأولون منا نحن المسلمين والعرب لم يأنفوا من الأخذ عن أمم سبقت علوماً وفلسفة وصناعة وخططاً ونقوداً وتدوين الدواوين. |
قال الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام، في تعليم لنا، يعلمنا تنظيم العلاقة بين الزوج وزوجه: بلغني أن الروم تفعله فلا يضرها أباح بذلك ما منع من قبل. |
أخذنا عنهم بجد الأولين، وأعطيناهم بسخاء المؤثرين. فلم يلبس ابن سينا وابن رشد والفارابي والمعري وابن حيان وابن الهيثم والخوارزمي زنار يونان. ولا مسوح قسيس، ولا قلنسوة المرزبان، ولا أمسك أحدهم بعصا الهرمزان، ولم يعوج لسان واحد منهم برطانة يتطرف بها، بل كان يجيد التراطن للترجمة والفهم، لسان أعجمي وقلب عربي ووجدان مسلم. |
فوضعوا العلوم، وضعوا التفوق، وغرسوا ((بالجوانية)) العمق الفوقاني، فلم يسخروا من أنفسهم بالزي ((البراني)) الزائف. وكنا بذلك الأمة الوسط والإنسان الوسيط بين قرون خلت وقرون تأتي وتأتي! |
وضعنا العلوم والأخلاق والتفوق موضع الاستفادة والإفادة.. فقانون الشيخ الرئيس مكث قروناً المرجع الأول للطب في الغرب كله. وحتى لقد قرر تدريسه في أكثر من جامعة. |
وجئنا نحن في القرنين التاسع عشر والعشرين فأخذنا كل شيء بالتقليد لا بالتجديد.. تخنفسنا كما تخنفس الصبية الضائعون.. ورقصنا كما رقصت علب الليل. فلم نجد إلا ضيعة. |
وجاء الضياع بالبدعتين، غربية في البرلمانات والانتخابات والأحزاب والدساتير. |
وشرقية بالحرية يخنقها طلب الخبز، وبالخبز لا تحققه الحرية ولن يكون دونها.. بالحزب الواحد المعلن عنه في يده سلطان ينكر على غيره أن يوجد، فإذا مستور تحت الرماد وتحت التبن، يخرج حيناً على غرة ليكون هو الواحد بسلطان منفرد، ليختفي حزب يخرج فيما بعد. |
بدعة الاستيراد، وابتداع في التقليد لن تكون فيه الأصالة. ولن يكون إلا هذا الشر، وهذا الخلاف. |
بدعة الغرب جرت فرقة الشعب على نفسه، وبدعة الشرق صنعت فرقة الأمة كلها شيعاً وأحزاباً. |
ـ أيام مسلحة من حقها علينا ألا نكتب إلا لها. |
ما لها نكتب لها؟.. |
لها قرآنها.. لها مبادئها.. أقول الصدق: تكتب لنا.. تبصر أنفسنا، فحتم علينا أن نحارب ((يهودا)).. ذلك الحتم فرض علينا أن نجاهد.. ذلك الجهاد فرض علينا أن نعقد مؤتمر قمة.. فهل كان فرد منا هو المسلم حقاً ليكون القاعدة لهذه القمة؟ |
المسلم حقاً لا يدعو إلى عنصرية.. لا يستل سيفه من أجل قبلية.. لا يجعل في مجتمعه تفرقة.. تجعل إنساناً يمتاز على إنسان.. تحت هذا شيء كثير نحن نفعله. |
الإسلام قاتل النعرات.. الإسلام فارض الجماعة.. حرب على كل فرقة.. |
ليس فيه قميص عليه الدم الكذب، وليس منه الذريعة بالقميص عليه دم صادق.. دم عثمان.. كل ما فيه إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (الأنبياء: 92). |
القمة المسلمة في يومها الرائع ستصافح.. تجعلنا ننشر بيض الصفائح.. تجعلنا ننشر لا سود الصحائف.. |
تلاحى عمرو بن العاص مع خصيم له. وما أبعد أبا عبد الله عن الغضب، ولكنه غضب، فنادى كأنه في أحضان العاص بن وائل، أو هو تحت راية حرب بن أمية.. نادى: يا لهصيص!.. نادى قومه، فأمسك به ابنه عبد الله.. ذلك الولد الخير: ماذا قلت يا أبتاه.. أدعوة الجاهلية تبغي؟.. دعها تحت قدميك كما وضعها رسول الله يوم الحجة.. حجة الوداع!.. |
فاسترخى عمرو، واسترجع عمرو، واستغفر عمرو، وقال: |
ـ ما كفارتها يا عبد الله؟! |
هي ذنب يسأل أن يكفر عنه.. هذا هو المسلم.. صاحب فتح الفتوح.. سواء في بيت المقدس أو على الفسطاط، فقال له ابنه عبد الله: كفارتها أن تعتق رقبة! |
فسمع عمرو نصيحة المسلم للمسلم، وأعتق الرقبة! |
لقد أضاف عبد الله إلى استغفار أبيه غفراناً جديداً لنفسه.. بالنصيحة لأبيه.. بالوقفة الصامدة يثبت حق الإسلام في إسقاط النعرات.. يثبت معنى الإسلام في أكثر من ذلك.. في إعطاء الحرية لإنسان.. |
هكذا المسلم.. القاعدة عبد الله بن عمرو، والقمة عمرو.. أما غير ذلك فشيء غير ذلك! |
• وتحدث إليَّ جمع كبير قال الكلمة الواعظة: لقد كنت أسأل ماذا يعني المسلم بدعائه هذا ((اللَّهم لا ترنا عجائب قدرتك)). |
حتى عرفتها في هذا الإنسان. وصل إلى تفوق في التقدم والحضارة والوقاية. ثم هو العاجز عن مقاومة ما سخره الله. كما هو العاجز عن الشكر. |
فالصواعق، والزلازل، والأعاصير، والفيضان كلها أو واحدة منها يقف أمامها الإنسان بكل ما لديه عاجزاً عن المقاومة والصمود. |
فأخذت العظة أرويها لصديق عالم، فقال: لقد قرأتها لكابر من أكابر العلماء. |
فالإمام الأخلاقي ذكر فيما قرأت له أنه سمع عجوزاً تدعو على ظالم ظلمها فتقول: |
((اللَّهم أرني فيه عظائم قدرتك)). |
فأخذت أذوق معناها الكبير حتى إذا مضى يوم أو يومان فإذا بي أسمع عجوزاً ثانية تدعو فتقول: ((اللَّهم أرني فيه عجائب قدرتك)). |
وحفظت الاثنين. أيهما أمكن وأشمل وأدق، وبعد أيام وجدتني أميل إلى الأخيرة فكل عجيبة عظيمة، وليس كل عظيمة عجيبة، فالهلاك بالطامة والصاخة والقارعة والصاعقة أمر عظيم، ولكن أليس العجيب العظيم الإهلاك بالقمل. هذه الحشرة الدقيقة بماذا أهلكت. أو بقرصها ومصها؟ أم بالشيء الأدق تحمله. ميكروب الحمى.. تيفوس أو الراجفة، والضفدع حيوان صغير كالقمل أهلكت به اليهود! بماذا أهلك؟ |
لقد أهلك بما يحمل من ميكروب، جرثوم مبيد. |
فاللَّهم إن يهود جاءت بكل قوى الإنسان المارد.. فأرنا فيها عظائم قدرتك، وعجائب قدرتك يا ولي المؤمنين وناصر المسلمين. |
ـ من ظهيرة أمس هبت رياح على تهامة، فقامت بعض قطع من السماء.. فسألني أحدهم جازعاً من الغبار: إيش هذا؟.. قلت له: إذا غبرت تهامة أمطرت سماؤها، اللَّهم اجعلها رياحاً، ولا تجعلها ريحاً! |
غريب هذا الحديث.. فالريح الواحدة من مهبها الواحد.. تبعثر السحاب. |
والريح المتعاكسة تسوق السحاب إلى بلد ميت.. هي اللواقح.. بقوتها تسوقه.. بحملها إلى ذرات الغبار تكثفه ليمطر، ولقد جاء في العلم الحديث ما يفسر لنا هذه الأخبار، والآيات البينات.. |
يقولون: إن المطر تحمله رياح إستوائية جنوبية، فإذا اصطدمت برياح مضادة تساقط المطر، فهي إذن رياح سائقة، وملقحة. |
ويقولون: إن الغبار إذا ثار بقوة الرياح. أو أثير بعمل الإنسان تكثف السحاب كأنما هو يثقله حتى تأتي الرياح تنزله. |
وفي استقراء التاريخ قرأنا أن الهنود الحمر في أمريكا كانوا يستنزلون المطر.. يتحينون حتنه.. فيثيرون الأتربة، بالحيوانات.. يعملون على تصاعد الغبار حتى يتكثف السحاب فينزل المطر.. يعني أن هؤلاء الهنود الحمر عرفوا سر المطر الصناعي بالتعامل مع السحاب على هذه الصورة.. قبل أن يصنعه الشعب الذي حل محلهم بالطريقة العلمية.. ما ترك الأول للآخر. ومن سنة هذا الإسلام الاستغاثة.. دعامتها الأولى الدعاء إلى الله، ويتخذ العارفون وسائل لذلك.. فخروج الحيوانات والأطفال لاستجلاب الرحمة هو أيضاً أحسبه في ما أظن عملاً لإثارة الغبار. وهذا عمر رضي الله عنه تأزم الأمر في عام الرمادة، وعزم على الاستغاثة، وقبل أن يستشفع بالعباس قال للعباس: ارقب لنا نوء كذا.. كأنما هو أراد أن يتحين الحتن - الوقت - ليجأر بالدعاء.. فالرحمة من الله قبل كل شيء. والرياح والسحاب من وسائل الرحمة. |
جدير بنا أن نتخذ الوسائل المفيدة بالعمل المفيد لنستدر الرحمة من الله، يحب الرجل العامل. والإنسان الذي يفكر في آيات الله، ويكره الرجل البطال!! |
• وجلس بجانبي - وقد كنت أذعت حديثاً مسلماً عن بطل من أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلم في ((صوت الإسلام)) وسلم ثم تكلم. |
ـ قال: ابنتي سمعت حديثك فأعجبها. |
ـ قلت له: ذلك لأنها مسلمة. |
وانتظرت أن يتطرى وجدانه بشيء من إيمان ابنته، ولكنها الفجيعة! |
الفجيعة أن قال بلهجة ساخرة: مسلمة! مسلمة! خليك بلاش كلام. |
وأحسبني دهشت، ثم تركته لا أجيب بل انصرفت عنه أتحدث مع غيره. |
((شنشة أعرفها من أخزم)). |
وسيأتي يوم ينكشف فيه الغطاء عن أمثال هذا المسخ المتورم. |
ـ قلت لفتى مسيحي في بلد عربي: سلامات.. سلامات.. اليوم أسافر. |
ـ قال: أتسافر إلى بلدك مهد العروبة، مهد الذين فتحوا وعمروا؟ إذا بلغت منازل صناع التاريخ اقرئهم سلامي.. |
ـ قلت: أتعرفهم؟ أتحبهم؟ |
واكفهر وجه الفتى، أربد، وقال: اسمع إذا أخرجنا عظمة محمد من مجد إنسانيته، وعمل شريعته، وفضائل رسالته ماذا يبقى لكم أنتم أيها المسلمون.. وماذا يبقى لنا نحن العرب؟ |
إن عظمة محمد البشر في اعتقادي (يعني اعتقاده هو) أمر لا جدال فيه من هنا أحبه كعربي ولو كنت نصرانياً. |
وإن عظمة محمد كرسول الله في قلبك المسلم ينبغي أن يكون الحب لتوطيد الإيمان. |
الإيمان بالرسالة، صدق الدين، والحب للرسول، صدق الإيمان في وجدانك. |
ـ قلت له: هذا شيء تغرق في تفاصيله، لكن التحديد في قوله عليه الصلاة والسلام.. |
لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله وولده. |
إن حب المسلم لرسول الله معناه الطاعة والتقوى والأدب. |
وليس هو طقوساً ولا كهنوتاً ولا وسطاء.. وإنما هو توحيد الله، أشرف المقامات ليزداد الإيمان بالطاعة والحب والأدب. |
هيا بنا نؤمن ساعة إذا بصقنا في وجه من يسخر من إسلامنا، إن الذين في طبعهم سخرية إلى هذا الحد، أن يكونوا ساخرين من أنفسهم يعيشون في غربة وكربة من نظرتنا إليهم تقصيهم وتقمع رؤوسهم، لا مجد لهذا البلد دون إسلامه، ولا مجد لأهله إلا بكونهم المحمديين المسلمين. |
وقال: هذا قولي، هذا حبي. |
ـ وأعوذ بالله من الرعب أن يقذف في قلوب الرجال فيهلكون أنفسهم بالرهبة والخوف، فالاستكانة والقتل!! |
وأسأل الله أن يقذف الرعب في أفئدة العدو، أي عدو لهذا الدين. لهذه الأرض. لإنسانها الباني حياتها بحياته، كأنما هو قد خلق لها وخلقت له. فجاء الأفاكون الأفاقون ينزعون الأرض من تحته شبراً فذراعاً إلى الفراسخ والأميال، وأعانهم الذين تألبوا على الإسلام، يتداعون علينا كما تتداعى الأكلة على القصعة.. صدق رسول الله صلَّى الله عليه وسلم. |
الرعب.. الرعب.. قتال النصر.. هازم الأمم.. معطل السلاح.. هو سلاح العدو كأحسن من سلاحه المصنوع في يده. |
فمن جوامع الكلم قول الصادق المصدوق سيدنا محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام: نصرت بالرعب. |
الرعب يجعل الرجال طلاب سلامة، يفرون من الموت في ساحة الشهداء وبحر السلاح، إلى الموت حتف أنوفهم كما تموت الحرة المربوطة بأوتاد تقيم على مذلة كما هو الوصف لعير الحي يشج فلا يرثي له أحد: |
ولا يقيم على ذل يراد به |
إلا الأذلان عير الحي والوتد |
هذا على الخسف مربوط برمته |
وذا يشج فلا يرثي له أحد |
|
ـ قرأت لأمير البيان أبي غالب شكيب أرسلان هذه الحكاية قصها فيقول: |
ـ غزا التتر العراق وعاثوا في ربوع الرافدين - وكانت قلوب الناس قد خلعها الرعب - فدخل تتري على جماعة بلغوا العشرين وأكثر.. |
ـ فقال: أنتم هنا.. أنتم هنا.. سأذهب أحضر سلاحي فأجيء لأقتلكم.. |
وسكتوا عنه، أكل شجاعتهم الرعب.. كأنما هم أغنام لا تفهم، تنظر السكين من جزارها. |
ورجعت نفس واحد منهم.. فقال: ما هذا؟ هل نصبر عليه حتى يقتلنا؟ وشد من عزم الرجال وتربصوا حتى إذا حضر تناولوه وتناوشوه فقتلوه ونجوا. |
هكذا الرعب نفذته دعاية وغفلة ونكوص ودعة وسلبية ممعنة في الهرب من طلب السلامة وكراهية الموت!! |
وهكذا الانتقام تصنعه كلمة من شجاع صادق في قلوب رجال ينفع فيهم الكلام الصادق المؤمن. |
|