رُدّي السلام على فَتَاكِ المُغْرمِ |
إني حَمَلْتُكِ في دَمِي وعلى فَمي |
هذا الترابُ مُحَـبَّبٌ عِنْـدي، فـإنْ |
أكْفُرْ برابِطةِ القَرابة أُجْرمِ |
أنا حَفْنةٌ مِنْهُ وإن يكُ والدي |
يَرْقَى لبَكْرٍ، أو لِتَغْلبَ يَنْتَمي |
سَنواتي الأولى بِظلِّكِ عِشْتُها |
أنْعِمْ بِفِرْدَوْس الجَمال وأكْرمِ |
ما زِلْتُ أذْكرها بلَهْفةِ والِهٍ |
ولسوفَ أذْكُرها بقَلْبِ مُتَيَّمِ |
سُقْياً لأيامِ الطُّفولةِ، إنَّها |
فَجْرُ الحياةِ بوَجْهِها المتبَسِّم |
قَدْ تُسْأمُ الأيامُ رَغْمَ جَمالِها |
وتَظَلُّ دانيةَ الجَنَى لَمْ تُسْأمِ |
هِيَ والسعادةُ تـوأمٌ، فـإذا انْقَضَـتْ |
فقُلِ السـلامُ علـى شَقِيـقِ التَّـوأمِ |
هَيْهَاتَ يَذْهَبُ طَيْفُهـا مِـنْ خَاطـري |
آلَيْتُ أحْبِسُه ولَمْ أتَنَدَّم |
لَمْ تَفْرِضِ الأزْهار في دَرْبي، ولا |
جادَتْ عليّ بقَطْرةٍ من بَلْسَمِ |
لكنَّها جَعَلَتْ فؤادي جَنَّةً |
بَشّتْ لكلِّ مُرَمَّمٍ ومُهَدَّمِ |
ألْهَمْتِني الأدب ازْدَهَتْ أعْطافُه |
لولاكِ لَمْ أكُ بالأديب المُلْهمِ |
أدبٌ يَمُتُّ إلى الجَديد برُوحِهِ |
وإلى القديمِ بمستواهُ المُحْكَمِ |
أدَبٌ تَفِيء النَّيِّرَاتُ لِظلِّه |
وعلى شواطِئِه البَلابِلُ تَرْتَمي |
لم يُغْرِه مالٌ ولَمْ يَسْتَهْوِه |
جاهٌ، ولم يَمْدحْ لِقَصْدٍ مُبْهَمِ |
لانَتْ شَكيمَتُه ولكنْ لَمْ يَهُنْ |
واشْتدّ لكنْ قَطُّ لَمْ يَتَهَجَّمِ |
خُلِـقَ الأديبُ لكـيْ يَكـون مُعَلِّمـاً |
ًفإذا التَوى فالوَيْل لِلْمُتَعَلِّمِ |
* * * |
يا جَارَة النَّهْـرِ الـذي لَـمْ يَجْتَريء |
غازٍ عليه، لأنْتِ جارةُ زَمْزَمِ |
لما أتَيْتُك بَعْدَ سَبْعِ مَراحلٍ |
آمَنْتُ بالفِرْدَوس، لا بجَهَنَّمِ |
ومَحَوْتَ مِـنْ ذِهْـني المَدائـنَ كلَّهـا |
إلاَّ دِمَشْقَ، فحَبْلُها لَمْ يُصرَمِ |
هذي المفاتِـنُ في الحَواضِـر والقُـرَى |
نَزَلَتْ عليـكِ مِـنَ السَّمَـاءِ بِقُمْقُـمِ |
ماذا أعدّدُ؟ هَلْ يُعَدّ الرَّمْلَ أو |
تُحْصَى ملايينُ النُّجومِ بمَرْقَمِ؟ |
أَنَّى التَفَتَّ استَقْبَلَتْكَ حَديقةٌ |
تَزْهُو بألْفِ مُغَرِّدٍ ومُرَنَّمِ |
تَلْقَى الصباحَ ببَسْمَةٍ وتحِيَّةٍ |
وتَبُشُّ حتى للمَساء المُظْلِمِ |
حَلَفَ الربيعُ لَيَلْزَمَنَّ جِوَارَها |
سِيّان إنْ يُكْرَْم وإنْ لم يُكْرَمِ |
حَوَتِ الزُّهورُ تَعَدَّدَتْ ألوانُها |
وتضاحَكَتْ لِمُوَدِّعٍ ومُسَلِّمِ |
وتشابَكَتْ تَحْـتَ التـرابِ جُذورهـا |
فعبيرُها وبهاؤها مِنْ مَنْجَمِ |
لا يَعْتَدي شَوْكٌ على وَرْدٍ، ولا |
تَغْتَاب زَنْبَقةٌ كرامَة سِمْسِمِ |
حُسْنٌ يُقيّد في الفَصيح لِسَانَه |
ويَحُلُّ عُقْدَة ذي اللِّسانِ الأبْكَم ِ |
ولَرُبَّما اسْتَهْوَاك فيها جَدْولٌ |
يَشْكو هَواه بأنّه المُسْتَرْحِمِ |
يَجْرِي وَئيداً كالضَّرير تَعَرّجَتْ |
خُطُواتُه ووَهى، ولَمْ يَسْتَسْلِمِ |
أو كالغريبِ تَلَعْثمتُ كلماتُه |
خَجَلاً، ولولا ذاكَ لَمْ يَتَلَعْثَمِ |
يَرْوي حكايتَه بأفْصَحِ لَهْجَةٍ |
ويُعِيدُها حيناً بلُكْنَةِ أعْجَمي |
ويَئِنُّ مَجْروح الضُّلوع، وقَلْبُه |
لَمْ يَحْتَرِقْ وَجْداً ولَمْ يَتَألَّمِ |
يَبْدُو على بُعْدِ المسافةِ أرْقماً |
لكنَّه لَمْ يَحْوِ سُمَّ الأرْقَمِ |
* * * |
ولَقَدْ تَـرَى خَلْـفَ الحديقـةِ رَبْـوةً |
لَبِسَـتْ قميصـاً مِنْ نَسيـجِ العَنْـدَمِ |
حَلِمَتْ بأنْ ستكـونُ طَـوْداً شامخـاً |
لكنَّها بَقِيَتْ برَبْعِ السُّلَّمِ |
تَلْتَفُّ آونةً بجُبّةِ راهِبٍ |
وتَلوحُ ثانيةً بِعِمّةَ مُسْلِمِ |
خَفَضَتْ لِزَغْلُـول الحَمَـامِ جَناحَهـا |
ولَقَدْ تجـورُ علـى جَنـاح القَشْعَـمِ |
تَتْلُو الصلاةَ لربِّها في قَلْبِها |
اللهُ في قَلْب المُصلّي، لا الفَمِ! |
كَمْ في البريّةِ مَنْ يَبيعُ صَلاَتَه |
وصِيَامَه بالفِلْسِ أوْ بالدِّرْهَمِ |
* * * |
ولَرُبَّما اجْتَذَبَتْ خُطاكَ مدينةٌ |
أبْراجُها مَوصولةٌ بالأنْجُم |
يَجِدُ الغَريبُ بها فِراشاً ناعماً |
وتَوَدّ لَوْ جادَتْ عليه بأنْعَمِ |
عَقَدَتْ مَداخِنُها بساطاً أرْبَداً |
في الجوّ بَيْنَ مُرَقَّطٍ ومُقَلَّمِ |
تَلْهُو الرياحُ به فتَنْثُرُه إذا |
هَجَمَتْ، وتَعْقِدُه إذا لَمْ تَهْجُمِ |
هذي مَفاتيحُ الثَّراء لأمّةٍ |
تَمْشي علـى حَـدِّ الصِّـرَاطِ الأقْـومِ |
لولا الصناعةُ لَمْ تَقُمْ مَدَنِيّةٌ |
كلا، ولا قالوا استَفِدْ وتَعَلَّمِ |
إنَّ الشُّعوبَ بَقاؤها برُقِيَّها |
فإذا ارتَقَتْ لَمْ تَنْقَرِضْ أو تُرْغَمِ |
لا فَرْقَ في الأقدارِ، إنَّ صَغيرَها |
ككبيرها، وأرَقّها كالأضْخَمِ |
وإذا الزَّعامةُ لم تَكُنْ بنّاءةً |
فالوَيْلُ ثُمَّ الوَيْلُ للْمُتَزَعِمِ |
لَو واكَبـَتْ رَكْـبَ التطَـورِ جُرْهُـمٌ |
لم تَنْدَثِر أبداً قَبيلة جَرْهُمِ! |
يا جَـارةَ الفِضِـيّ فَضْـلُكِ غامـري |
وإذا جَزَعْتُ ففـي جَناحِـك أحْتَمِـي |
عَلَّمْتِني أنَّ الحياةَ جَميلةٌ |
مَهْمَا بَدَتْ في صُورةِ الُمتَجَهِّمِ |
وجَعَلْتِني أجِدْ القَناعَة ثَرْوةً |
عَزَّتْ على الطَّمّاع والمُتَحَكِّم |
ونَضَحْتِ قَلـبي بالبَشاشـة والنـدى |
فحنَا على جانٍ وبَشّ لمُجْرِمِ |
فإذا مَدَحْتُك لم يَظُنّ مكابرٌ |
أني مَدَحتُك كي أفوزَ بِمَغْنَمِ |
وإذا ارْتَويْتُ فَمِـن غديـرك أسْتَقـي |
وإذا شَبْعت فإن حَقْلَك مَطْعَمي |
وإذا انْحَنيتُ على تُرابِكَ لاثماً |
فلَقَد لثَمْـتُ المِسْـكَ يَمْلأ مبْسَمِـي |
وإذا انْتَسَبْتُ فأنتِ مَهْـد طُفـولـتي |
وكبيرُ أجْدَادِي خَليفة "بُرْهُمِ" |
لولاكِ لم تَسْتَهوني جِنِّيَةٌ |
صبَّت حلاوةَ رُوحِها في عَلْقَمِي |
سَمْراءُ ليِّنَة القوامِ تَأَلَّقَت |
أدَباً وتَرْبيةً ولُطْفَ تَبَسُّمِ |
لم أهْوَها إلاّ لِفَرْطَ سَوادها |
لَيْسَ السَّوادُ بمَأْخَذٍ أوْ مَأْثَمِ |
مِنْ وَحْـي عَيْنَيْهـا مَـلأتُ بَيـادري |
فـإذا اغْتَنَيْتُ فـذاكَ فَضْـل المُلْهـمِ |
قابَلْتُها عَرَضاً وحَيّتْ فانْتَشَتْ |
رُوحي، وكانَتْ قَبْلَها في مَأْتَمِ |
ومَضَتْ تَجاذِبُـني الحديـثَ فخِلْتُـني |
أُصْغي لَصَوْتِ البُلْبُلِ المُتَرَنِّمِ |
طافَتْ على الشعراءِ تَذْكرُهـم علـى |
قَدْرِ الإِجادة لَمْ تَزِدْ أوْ تَظْلُمِ |
وتناوَلَتْ شِعْري بنَظْرة ناقدٍ |
يزِنُ الكلامَ بِفطْنَة وتَفَهُّم |
تَهْتَـزّ مِنْ طَـرَبٍ إذا وَقَعـتْ علـى |
حُسْنٍ وتَعْبُـسُ إنْ تَغُصْ فـي طَلْسَـمِ |
فَعجِبتُ كَيْفَ تُحيط قارئةٌ بما |
يَعْيا به باعُ الأديبِ المُعْلَمِ |
ووَدِدْتُ لو شِعْـري استـدارَ قِـلادةً |
في جِيدِ سَيِّدةِ الجَمال الأسْحَمِ |
* * * |
قالوا أتَنْسـى الشـامَ؟ قُلْـتُ أُحبُّهـا |
حُباً تَمَلّكَني وخالَطَ أعْظُمي |
لكِنْ أأرْخصُ تُرْبَة ذَهَبِيَّةً |
أغْلَتْ على حَـرَم الكرامـةِ أسْهُمِـي |
فَتَحتْ لشاعِرها خَزائِنَ قَلْبِها |
فجَنَى وَوَزّعَ باليَدَين وبالفَم |
غنَّى فأطْرَبَ زَيْنَباً في مَكةٍ |
وتراقَصَتْ في القُـدْس مُهْجَـة مَرْيَـمِ |
يَهْوَى الجمالَ، قَريبَه وبَعيدَه |
والقُبْحَ إنْ يَصْمُتْ وإنْ يَتكلَّم |
أفْنَى على الفُصْحـى سَحابـة عمْـره |
ما حيلتي وجُذورها امْتَصّـت دمـي؟ |
إنْ تَغْفُ إحْدى مُقْلَتيَّ قَريرةً |
أغْفَتْ شَقيقتَها على الشـَّوكِ الدَّمـي |
قَلْبي تَقَسَّم بَيْنَ تلكَ وهذه |
يا وَيْحَ قَلْبٍ في الهَوَى مُتَقَسَّمِ |
لي في ثراكِ – تبارَكتْ ذَرّاتُه - |
زَغْلولتي الأولى التي لَمْ تُفْطَمِ |
جاءت تُنَضِّرُ بالرَّجاء حَديقتي |
وَمَضَتْ بعُمْـر الـوَرْدِ لَـمْ تَتَبرْعَـمِ |
وثَلاثةٌ مِنْ إخوتي لَمْ أَحْتَملْ |
مِنْ حَقْلِهـم غـَيْرَ الشَّـذا والبَلْسَـمِ |
ورِفاقُ دَرْبٍ هَلّلوا لقصائدي |
ثُمَ انطَوَوا لا يَرْحمونَ تألُّمي |
كنْتُ القَوِيَّ بِهـمْ وكانـوا مَفْزعَـي |
واليَوْمَ بِتُّ كَهَيْكَلٍ مُتَهَدِّمِ |
أبْكي لِفُرْقَتِهمْ، وأحْسَبُ أنني |
أبْكي علـى نَفْسـي وأحْضُـر مأتَمي |
أشَفَى السِّـراجُ علـى نِهايـة زَيْتِـه |
ونَبَا الحُسامُ وكانَ لَمْ يَتَثلَّمِ |
شَتّان مَنْ حَيّا بوَجْهٍ ناضرٍ |
طَلْقٍ، ومَنْ حَيّا بوَجْهٍ أقْتَمِ |
* * * |
يا مَنْبَتَ الأحرار أنْتِ خَميلةٌ |
ماجَت بآياتِ الجَمالِ الأعْظَمِ |
لكنّ طَيْرَك أجْدَلٌ وحَمامةٌ |
والفَرْقُ بينهما بَعيدٌ فاعْلَمي |
سُنِّي لكلِّ جَريمة قانونَها |
وصِلِي الفَضيلة تَشْـفَ نَفْـس المُنْعَـمِ |
لا يستوي كُفْرٌ وإيمانٌ ولا |
يُجزَى الـبريء بمِثْـلِ ذَنْـبِ المجُْـرم |
لا تأخُذَنّكِ في الشقيِّ هَوادةٌ |
مَنْ لَيْـسَ يَرْحَـمُ غَيْرَه لَـمْ يُرْحَـمِ |
بِئْسَ العَدالـةُ لَـمْ تَجـىءْ في وَقْتِهـا |
ما حاجـتي لِلْغَيْـثِ بَعْـدَ المَوْسِـمِ؟ |
ليس الذي يُعطـي بقَلْـبٍ ضاحـكٍ |
مثلَ الذي يُعطي عطاءَ تبرُّم |
اقْبِضْ يَدَيك وحَيِّني ببشاشَةٍ |
أمْنَحْك أجْرَ المُحْسِن المُتكرّم! |
* * * |
أنا ذاهـب يـا رَبِّ فاكْـلأْ صِبْيَـتي |
واجْعَل خُطاهـم في الطريـق الأسْلَـمِ |
أطْعَمْتُهم ذَوْبَ الفؤاد وصُنْتُهم |
بالمُقْلَتَيْن والحَشَاشَة والدَّمِ |
إملأ بأنْوار الرجَاء قُلوبَهم |
إنَّ الرَّجاءَ عُلالةُ القَلْبِ الظَّمِي |
لا تَجْعَلَنّ الحِقْدَ مِنْ أخْلاقهم |
الحبُّ يَفْتَحُ كلَّ بابٍ مُحْكَمَ |
لا يَرْكُضوا خَلْفَ الغِـنَى، ولْيَرْكُضـوا |
خلف الفضيلة يَظْفَروا بالأكرم |
علِّمْهمُ أدبي وأرْشدْهم إلى |
دَرْبي، فإن النَصْرَ للمُتَعَلِّمِ |
علِّمْهُم أنّ البَشاشةَ نِعْمَةٌ |
مَنْ لم يَبُشَّ لجارِه لم يَنْعَمِ |
علِّمْهمُ أنّ التَّعالي آفةٌ |
مَوْصومةٌ مَوْصولةٌ بجَهَنَّمِ |
علِّمْهُم أنْ يَخْدمُوا أوْطانَهم |
لا يَضْحَـكُ البُسْتـانُ ما لَـمْ يُخـدَمِ |
إني اعْتَصَمْتُ مِنَ الإله بمَعْقِلٍ |
لَمْ يَنْصَدِعْ وبقُوةٍ لَمْ تُهْزَمِ |
دَوْري انتهى فلْيَبْدأوا أدْوارهم |
شاخَ العُقابُ فجاء دَوْرُ الهَيْثَمِ! |