ذِكْراكَ مِلءُ جَوانحٍ وخَواطرِ |
سَخِرَتْ بعادِيَة الزمانِ الساخِر |
خَطَرَتْ علـى الأرْواح نَفْحـةَ جَنّـةٍ |
وَسَعَتْ إلى الأسماع نَغْمةَ شَاعِرِ |
تَحْدو زَغاليلَ النسورِ إلى العُلا |
وتُثيرُ غصَّاتِ الرَّعيلِ العابِرِ |
واهاً على هذا الرَّعيـلِ! لَكَـمْ بَنَـى |
مَجْداً، وكَمْ أعلَـى صُـروحَ مفاخِـرِ |
حَمَلَ العُروبةَ رايةً ثمَّ انطَوَتْ |
وطَوَى جَناحيْه ككلَّ مُسافرِ |
لَمْ يَبْقَ منه غَيْرَ جَذْرٍ نائمٍ |
تَحْتَ التُّرابِ، وغَيْـرَ جَـذْعٍ ناخِـرِ |
ذَهَبوا، ولكنْ لَمْ تزلْ آثارُهم |
تُنْبي عَنِ الماضي بنَبْرةِ حاضرِ |
لكأنَّهمْ لَمْ يَنْظِموا أو يَنْثُروا |
في الغَرْبِ مَلْحَمَـةَ الكِفـاحِ الصابـر |
لكأنَّهمْ لم يَحْمِلوا أفكارَهمْ |
للناسِ نورَ بَصائرٍ وبَواصِرِ |
لكأنَّهم لم يَزْرَعوا أقدامَهم |
أوْ يَغْرِسوها في قُرىً وحَواضِرِ |
لكأنَّهم لم يَرْفَعوا أعلامَهم |
فَوْقَ الثريّا بَهْجَةً للناظِرِ |
لكأنَّهم لم يَنْتَضوا أقلامَهم |
للفَتحِ فَتْحِ سرائرٍ وضمائرِ |
لكأنَّهم لَمْ يَحْزَنوا لنَوائبٍ |
لكأنَّهمْ لَمْ يَفْرَحوا لِبَشائرِ |
كانَتْ لهم – ثم اضْمَحلّـتْ – دَوْلـةٌ |
زَهْراءُ تَرْفُلُ بالبيانِ النَّاضرِ |
يتسابَقُ الشُّعراءُ والكتّابُ في |
حَلَباتها تَحْتَ الأريجِ الثائِرِ |
لَمْ يَخْلُقـوا أدَبـاً، ولكـنْ جَـدّدوا |
شَتّان بَيْنَ مُخَضْرَمٍ ومُعاصِرِ |
لَمْ يُنشِئوا لُغَةً، ولكنْ ولّدوا |
ما كان فيها مِنْ عَقيمٍ عاقرِ |
لم يُبْدِعوا صَرْفاً، ولكنْ صرَّفوا |
شَمْسَ المعاني بالكَلامِ الآسِرِ |
رَبَطوا بأوتادِ النُّجومِ جَناحَهم |
وتَمَسّكوا بعُرَى الزَّمانِ الدائرِ |
جَعَلوا صَحائفَهمْ مَنائرَ للهُدَى |
والفَنَّ، لا لِمُزايدٍ ومُهاتِرِ |
الحَرْفُ نُورٌ، فَلْيَكُنْ مُتَلألئاً |
ما حاجـتي للنـورِ تَحْـتَ سَتائـر؟ |
كَمْ في الصَّحافـة مِـنْ دَعِـيٍّ واغـلٍ |
بِاسْمِ العُروبةِ والجهادِ مُتاجِرِ |
يَتَلَصّصُ الأخْبارَ ثم يُذيعُها |
شَوْهاءَ حافلةً بكِذْبٍ ظاهِرِ |
إني بُليتُ ببَعْضِهم، فوَجَدْتُهُ |
حَرْبَاءَ، لكنْ في سَماجةِ هاذِرِ |
أثْنَى على "خُلُقِـي الكريـم" عَشِيّـةً |
واغْتابَني قَبْلَ الصباحِ الباكِرِ |
فنَبَذْتُهُ وجَعَلْتُ بابي دونَهُ |
كَيْ لا أراهُ، ولا يُلمَّ بخاطِري |
وغَسَلْتُ قَلْبي مِنْ رواسِبِ وِدَّهِ |
لا عُذْرَ يُقْبَلُ للصَّديقِ الغادِرِ |
* * * |
يا ثاوياً يَعِظُ الرَّجالَ بصَمْتِهِ |
أكْرِمْ بآياتِ الخطيبِ الباهِرِ |
الله يَشْهَدُ ما ذَكْرتُك للنَّدَى |
إلاّ اخْتَنَقْتُ بدَمْعيَ المتناثِرِ |
أيامَ تبـذُرُ لا لنفسِـكَ، بَـلْ لكـي |
يَجْني الأُلَـى قَطَعـوا طريـقَ البـاذِرِ |
تُغْضي عَنِ الزاري بعِفّةِ قادِرٍ |
وتَميلُ عنهُ بابتسامةِ عاذِرِ |
شِيَمٌ، فتَحْـتُ بهـا القُلـوبَ وَرِثْتَهـا |
مُنْذُ الطُّفولةِ كابراً عَنْ كابِرِ |
* * * |
يا فَخْرَ سوريا وفَخْر ترابها |
لمَّا حَنَوْتَ على ثَراها الطاهِرِ؟ |
مَدَّتْ إلَيْـك يـداً فَمُـدَّ لهـا يَـداً |
عُـرِفَ ابـنُ جُلَّـقَ بالوَفـاءِ النـادِرِ |
شَرَفاً دمشـقُ! لَكَـمْ أناخَـتْ فاتحـاً |
وَعَنَتْ لها قَهْراً إرادةُ قاهِرِ |
طَلَعَتْ على الدنيا بهَيْبةِ عالم |
وعلى مَنابرِها بهَيْئة شاعِرِ |
شابَتْ على مَرَّ الدُّهـورِ، ولَـمْ تَـزَلْ |
تَلِدُ البُطولةَ للزَّمانِ العاقرِ |
* * * |
يا ابنَ الذين تَبَتّلوا لتُراثِهم |
وَجَلَوا محاسِنَهُ بريشةِ ساحِرِ |
طوّقتَ عُنْقي بالوَلاءِ فَخِلتُني |
في صَفَّ "شَوْقي" أو مَقامِ العامـري
(1)
|
زَعَمَ الذين عَمُوا بصائرَ أنَّني |
كرّسْتُ شِعْري للغَزال النافِرِ |
كَذَبوا… فأزْهاري تعدَّدَ لَوْنُها |
وسُلافتي طابَتْ لكل مُعاقرِ |
وطنِيَّتي فَوْقَ الظُّنونِ، ومُهْجَتِي |
لعشيرتي، ولحُلْوتي، ولزائري |
وزّعْتُ قلبي بالتَّساوي بيْنَهم |
وأرَحْتُ – ثم حَمَدْتُ ربي – خاطـري |
أشْرِفْ عليهم مِـنْ سَمائِـكَ يَرْعَـووا |
إنَّي على ثِقةٍ بأنَّك ناصرِيِ |
* * * |
يا ابنَ الشآمِ بَكَـى عليـك حَمامُهـا |
أفْدِي حماماتِ الشآمِ بناظِرِي |
كانت حياتُك دَفْتراً لِمَفاخِرٍ |
مِلءَ العُيونِ، ومَجْمَعاً لمآثرِ |
لا ثَوْرةٌ لِلحقَّ حاميةُ اللَّظَى |
إلا بسطت لها يمينَ مُناصِرِ |
لَمْ يُلْهِكَ التَّطْوافُ عَنْ طَلَـبِ العُـلا |
بَلْ كـانَ واسطـةً لِشَـدَّ أواصِـرِ
(2)
|
* * * |
العُرْبُ كُلُهُمُ برأيِكَ أسْرَةٌ |
رَغْم اختلافِ مَواطنِ وعَشائِرِ |
الضَّادُ تجْمَعُهم، ويَرْبِطُ بينَهم |
هَدَفٌ وحُلْمٌ، واشْتراكُ مَظاهِرِ |
آمْنتَ بالإسْلام فاعْلَوْلََى له |
حَرَمٌ يَمُدُّ بساطَهُ للناصري |
حَرَمٌ تغضُّ له العُيونُ مَهابةً |
ويَهُزُّ عاطفةَ الغريبِ العابرِ |
لولا التعاوُن ظَلَّ حُلْماً شارِداً |
إنّ انقسامَ الرأي صَفْقَةُ خاسِرِ |
يا إخْوتي في الدارِ لا تَتَخاذلوا |
الدارُ سائبةٌ لَوَحْشٍ كاسِرِ |
إنْ لم تُفيقوا مِنْ طويلِ رقادِكمْ |
آلَتْ حُقوقُ النائمينَ لِساهِرِ |
أطْفالُ غزَّةَ بالحِجارةِ شَرَّدوا |
جَيْشاً تَدَجَّجَ بالسَّلاحِ الوافِرِ |
فابْنُوا علـى الإيمـانِ يُفْلِـحْ سَعْيُكُـم |
لَمْ تَكْـبُ عَزْمَـةُ مُؤمـنٍ ومُصابِـرِ |
* * * |
رُحْماك يا ابنَ الأكرمـينَ، فمُهْجَـتي |
نَهْبٌ لعاديةِ القَضاء الجائِرِ |
يَتَخَطّفُ الموتُ الزُّؤامُ عَشيرتي |
وَيْحَ الضَّعيـفِ مِـنَ القّـويَّ القـادِرِ |
لَمْ يَبْـقَ منهـم غَيْـرَ بَعْضِ خَرائـبٍ |
مَنْ ذا تَراه بَعْدَ حينٍ ذاكري؟ |
نَضِبَتْ بعَيْـنيّ الدُّمـوعُ، فإنْ يَمُـتْ |
خِلٌّ، فما دَمْعي عليه بهامِرِ |
يا مَعْقِلاً للفَضْلِ زَلْزَلَهُ الرَّدَى |
ذَهَـبَ التَّـرابُ إلى التُّـرابِ الدائِـرِ |
لكنَّ ذِكْرَك سَوْف يَبْقى رايةً |
خَفّاقةً في قَلْبِ كُلَّ مُهاجِرِ! |