شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الأدب الحديث في الحجاز (1)
يقترن تاريخ فجر الأدب الحجازي الحديث بتاريخ الثورة العربية الكبرى، تلك الثورة التي نفثت في الشعوب الناطقة بالضاد روح الحياة والتجدد فسرت فيهم سريان الكهرباء في أسلاكها وتمشت في مفاصلهم كتمشي البرء في السقم، وقد يفوق اثر تلك الثورة في إيقاظ الحجازي وإذكاء مواهبه وشعوره أثرها في غيره من أبناء البلاد العربية الأخرى، ولعلّ صحائف الأدب خير ما يمثل هذا الأثر وذلك الانقلاب الذي طرأ على التفكير والشعور الحجازي في العهد الحديث. فمنذ ربع قرن تقريباً لم يكن الأدب الحجازي سوى بضع منظومات وكتابات سقيمة المعنى واهية السبك ملتوية الأسلوب يدور أكثرها في نطاق ضيق من المديح السخيف والغزل والتشطير والتخميس على نمط ليس له من مبرر سوى ذلك العقم الأدبي الذي منيت به الأفكار في تلك الحقبة المشؤومة. وإلا فأَي إنتاج ينتجه أولئك الذين يتناولون بيتين أو أكثر من الشعر بالتشطير والتخميس فيعمدون إلى تمطيط معناها وتفكيك أواصرها وحشوها بما يناسب وما لا يناسب من الألفاظ المترادفة والتراكيب المرصوفة، وليت ما كان يستهوي أدباءنا في ذلك العهد شعر قيم يستحق منهم ذلك الجهد والعناء. اللَّهم لا: فأي قيمة أدبية لأمثال ذينكم البيتين:
ومكاريا أبصرت في وجناته
ورداً يلوح وجلناراً يقطف
أخذ الكرى مني وأحرمني الكرى
بيني وبينك يا مكاري الموقف
فكم أديب وأديب استوقفه هذان البيتان فعالجهما بالتشطير والتخميس، بخ بخ لهذا المكاري الذي فتن عشرات الأدباء فهاموا به محاكاة وتقليداً وأبوا إلا أن يقفوا منه ذلك الموقف وما هو بموقف الأديب، وإن (فورد) المخترع العظيم لو علم المنزلة التي شغلها هذا المكاري من أدب الحجاز حيناً من الزمن لندب جد سياراته، ولنعى حظ شهرته الأدبية. إن أدب التخميس والتشطير أيها السادة أدب عقيم إذا جاز لنا أن نستعير له لفظة أدب، وإن هذا النوع من النظم ينبغي أن يعتبر في نظر العقلاء سخفاً وعبثاً إن لم يكن مسخاً لصور الأدب وتشويهاً لجماله الفني.
أجل، لقد أجمع جهابذة الأدب وأعلام البيان على أن العاطفة والوجدان هما قوام الشعر وعنصر الحياة فيه، وأن النظم المجرد عن العاطفة أشبه شيء بلغو الكلام يلقى لغير غاية وغرض مقصود. وأي عاطفة يختلج بها قلب يهيم ويتصبب بشخص لا تجمعه به ألفة ولا سابقة وداد. إن هذا الضرب من المتأدبين يذكرني بذلك المغفل الذي سمع أحد المارة يترنم بقول الشاعر:
يا أم عمرو جزاك الله صالحة
ردي على فؤادي أينما ذهبا
فلم يلبث أن علق قلبه بأم عمرو وأخذ يتنسم نسيمها ويتنشق أخبارها حتى إذا سمع يوماً آخر يقول:
لقد ذهب الحمار بأم عمرو
فلا رجعت ولا رجع الحمار
عد ذلك بمثابة نعي لمحبوبته الوهمية فاغتم لذلك واكتأب أشد الاكتئاب. فلا أدري أنقول نحن اليوم بدورنا لذلك النوع من أدعياء الأدب: لقد ذهب.. على أنني لا أغمط ذلك العهد حقه فأقضي على كل أثر فيه، فقد نجد بين أنقاض تراثه قطعاً صغيرة هي على قلتها وضآلتها - تدل على شاعرية ملهمة وعبقرية في التصور على أنه لم يحفظ لنا من تلك الآثار إلا القليل النادر وهو إلى ذلك مبعثر في الصحف والدفاتر مطوي في بعض الصدور. وبدهي أن مثل هذه الآثار الضئيلة لا يمكن أن يعتبر مقياساً يعتد به لأدب عصر من العصور. هذه جملة حال الأدب في الحجاز قبل بزوغ فجر النهضة الحديثة.
أما أدب اليوم، فهو وإن كان أدباً فتياً ما يزال في الطور الأول من أطوار نموه ونضجه، فهو ماضٍ في طريقه إلى الأمام سائر بخطوات ناجحة موفقة لا يسع المنصف تجاهلها أو الغض من شأنها. ويرجع الكثير من الفضل في ذلك إلى آثار أدباء العربية العصريين التي تجاوب صداها في الشرق العربي، فكان لها أحسن الأثر في توجيه الأدب العربي وتلقيحه بلقاح الحياة والطرافة والتجديد. وقد كان أثر أدباء المهجر من السوريين أقوى وأظهر في أدبنا الحديث حتى عهد قريب. أما الآن، فقد بدأ يتحرر قليلاً من قيود التقليد وأخذ يشتد ساعده، وإن كنا نجد لنفثات أقلام الأدباء المصريين أثراً متميزاً فيه في السنوات الأخيرة.
وإن مظاهر التجديد والابتكار في أدب اليوم ليست مقصورة على التجديد في الديباجة والأسلوب، بل إن في مقدمة ما يعنى به أديب اليوم انتخابات الموضوعات الاجتماعية والوطنية والأدبية الفنية واختيار أمثل الطرق وأوضحها لعرضها في صورة خالية من التكلف والتزييف.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :652  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 81 من 112
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج