شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الشعراء الذين تأثرت بشعرهم (1)
كثير هم الشعراء الذين أحببتهم وأعجبت بهم، ولست أزعم أني تاثرت بواحد منهم تأثراً خاصاً فيما صدر عني من شعر ونثر ضئيل المحصول زهيد القيمة، لأني لا أدعي لنفسي منزلة في الشعر تضعني في صف الشعراء الذين يتميز شعرهم بطابع خاص وسمة واضحة الملامح.
ولعلي لا أظلم نفسي ولا أخدع القارىء الكريم إذا أنا أعلنت هنا بأن قرضي للشعر لم يكن سوى نزوة من نزوات الشباب كانت بمثابة صدى للمحيط الذي اندمجت فيه عندما كنت طالباً في الأزهر ودار العلوم، فقد كان هذا المحيط حافلاً بالشعراء الناشئين وميداناً فسيحاً لهواة الأدب من الطلاب المصريين والشبان الوافدين على مصر للدراسة في معاهدها العالية من أبناء الأقطار العربية، ولما كنت واحداً من هؤلاء الشَّبان، فقد جذبني ذلك التيار الصاخب إلى زمرة الشعراء والمتشاعرين وخضت عبابه مع الخائضين. ثم لم ألبث أن شعرت بقصر نفسي دون مباراة فرسان هذه الحلبة ففضلت - بعد أن جربت في الشعر حالي - فضلت أن أنهزم مع صاحبي الذي فرق الهيجاء. ولكن بعض الأصدقاء. سامحهم الله، أمسكوا بتلابيبي حيناً من الدهر، وأبوا إلا أن يسلكوني في زمرة الشعراء أو المتشاعرين لا أدري، ولو أنصفوا لعلموا أن دعوى الشعر التي ينسبونها إلي ما هي إلا كدعوى آل حرب في زياد، على أني إذا أنكرت دعوى الشعر وما إليها فلست أنكر أن بعض الشعراء العبقريين قد استطاعوا أن يجذبوني بسحر بيانهم إلى ورود مناهل الأدب الرفيع وأن يحبّبوا إلى دراسة الشعر وتذوقه واقتناص أوابده وفرائده. ولا شك أن مصاحبتي لهؤلاء الشعراء قد أثرت في ذوقي وميولي الأدبية وربما كان لها صداها فيما صدر عني من شعر ونثر متواضعين. بل ربما كان إعجابي بأولئك الشعراء أبعد أثراً في شبابي بما حببه إلي من المثل العليا للرجولة الكاملة والأخلاق الكريمة وبما أججه بين جوانحي من هيام واعتزاز بأمجاد العروبة والإسلام.
وإذ كان المقام لا يتسع لاستيعاب الشعراء الذين أحببتهم وأعجبت بهم، فإني سأقصر كلامي هنا على شاعرين منهم فقط، أحدهما من أعلام المتقدمين، والآخر من أعلام العصر الحديث. أما الشاعر المتقدم فهو أبو الطيب المتنبي، وهو أول شاعر أخذت بروعة شعره وعبقرية مواهبه، لأني وجدت فيه الروح الذي يتجاوب مع طموح الشباب وآماله وأمانيه، والوقود الذي يمد عزيمته بالقوة والإقدام. ولا غرابة في ذلك، فالمتنبي شاعر الشباب والفتوة لأنه الشاعر الفارس الطموح الذي ملأ القلوب والأسماع بروعة شعره وعبقرية مواهبه وعلو همته وبعد مطامحه، وترك في الدنيا دوياً (كأنما تداول سمع المرء أنمله العشر). ثم هو فوق ذلك كله الشاعر الذي حمّل شعره إلى الأجيال والقرون رسالة العروبة الزاخرة بالحياة والعزة والكفاح فأصغى إليها العالم ورجعها الدهر ترجيع إعجاب وإكبار، فإذا هو كما قال:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي
إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا
أجل، إنه الشاعر الذي رفع صوت العروبة عالياً منذ أكثر من ألف عام وأهاب بالعرب الأحرار أن يحطموا أصفاد الذل والاستعباد وأن يثوروا على سلطان الأعاجم المتغلبين عليهم. وها هو ذا شعر المتنبي بين أيدينا ينبض بهذا الروح العربي النبيل. وها هي ذي شخصيته الفذة تطالعنا من مرآة شعره بوجه عربي أصيل ونفس أبية تواقة إلى المجد نزاعة إلى السيادة. وإن هذه الشخصية القوية لتتجلى في كل قصيدة من قصائده واضحة السمات والملامح معتزة بعروبتها مدلة بعبقريتها، وإن أضواءها المشرقة لتكاد تطغى على كل شخصية تقف تجاهها، حتى تلك الشخصيات الكبيرة التي مدحها المتنبي، لم تتضاءل شخصية المتنبي أمام واحد من هؤلاء ولو ملكاً عظيماً أو أميراً جليلاً. بل إنه ليعد نفسه نداً لهم ونظيراً. استمع إليه وهو يخاطب ملك مصر الأخشيدي بقوله:
فارم بي ما أردت مني فإني
أسد القلب آدمي الرواء
وفؤادي بهر الملوك وإن كا
ن لساني يرى من الشعراء
وتأمل ما في هذين البيتين من طموح واعتداد بالنفس.. ثم اصغْ إليه إذ ينشد أبا العشائر وصاحب أنطاكية - قوله:
شاعر المجد خدنه شاعر اللفظ
كلانا رب المعاني الدفاق
لم تزل تسمع المديح ولكن
صهيل الجياد غير النهاق
بل اصغ إليه وهو يعاتب سيف الدولة ممدوحه المفضل على كل ممدوح. وانظر كيف يتحدى المتنبي رجال حاشية سيف الدولة والمقربين إليه، وكيف يدل بفضله ومواهبه إذ يقول:
يا أعدل الناس إلا في معاملتي
فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
أعيذها نظرات منك صادقة
أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره
إذا استوت عنده الأنوار والظلم
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا
بأنني خير من تسعى به قدم
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
أما اعتزازه بعروبته وفخره بشرف نفسه وكرم محتده، فالأمثلة لذلك كثيرة في شعره وحسبنا منها هنا قوله:
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي
وبنفسي فخرت لا بجدودي
وبهم فخر كل من نطق الضاد
وعوذ الجاني وغوث الطريد
وقوله:
وإنما الناس بالملوك وما تفلح
عرب ملوكها عجم
لا أدب عندهم ولا حسب
ولا عهود لهم ولا ذمم
وأما أبياته الحافزة إلى العزة والإباء والطموح والإقدام، فأكثر من أن تحصر هنا، وحسبنا الأبيات التالية مثالاً لذلك:
عش عزيزاً أو مت وأنت كريم
بين طعن القنا وخفق البنود
لا كما قد حييت غير حميد
وإذا مت مت غير فقيد
وقوله:
إذا غامرت في شرف مروم
فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير
كطعم الموت في أمر عظيم
تلك صورة مجملة للشاعر الذي آثرته على الشعراء المتقدمين قاطبة، على كثرة المجيدين منهم والمبدعين.
أما الشاعر الذي أوثره على شعراء العصر الحديث جميعاً، لافتتاني بسحر بيانه وإعجابي بخصب خياله وبراعة تصويره وإجلالي لمثله العليا وإكباري لنبل عاطفته تجاه وطنه وتجاه العالمين العربي والإسلامي - فهو أحمد شوقي زعيم المجددين في العصر الحديث بما نظمه من عيون الشعر الرصين في كل فن من فنونه وبما ابتدعه في الشعر العربي من المسرحيات الخالدة التي لم يفترعها أحد قبله.
وبما سجله من الملاحم والقصائد الرائعة لأحداث العالم الكبار ولمظاهر الحضارة والتقدم، فكان بحق أمير الشعر العربي. أجمع على إمارته أعلام البيان في عصره وبايعوه بها في مهرجانه العظيم وسجل هذه البيعة شاعر النيل الكبير (2) أروع تسجيل في قوله:
أمير القوافي قد أتيت مبايعا
وهذي وفود الشرق قد بايعت معي
وإذا كان أساطين البيان قد بايعوا شوقياً بإمارة الشعر، فإن من حقه أيضاً أن يلقب بشاعر العروبة والإسلام، لما أشاد به من مآثرهما وما سجله من أحداثهما حتى ليكاد يكون شعره سجلاً حافلاً بأمجاد العروبة والإسلام وشريطاً ناطقاً بما جرى في العالمين العربي والإسلامي من الأحداث الكبار. ولذلك، لم يكن غريباً أن يتجاوب صدى شعر شوقي في المشرقين وأن يتغنى به الناطقون بالضاد في كل قطر من أقطارهم، لأنهم وجدوا فيه صوراً ناطقة بأمجادهم وأحسوا في نبراته نبض آلامهم، فكان كما قال:
كان شعري الغناء في فرح الشر
ق وكان العزاء في أحزانه
ولقد أحسن شوقي أيما إحسان في التعبير عن أهدافه من الشعر إذ يقول:
والشعر ما لم يكن ذكرى وعاطفة
أو حكمة فهو تقطيع وأوزان
ونحن في الشرق والفصحى بنو رحم
ونحن في الجرح والآلام إخوان
وحسبنا شاهداً على سمو عاطفته نحو وطنه (مصر) حنينه إليه وهو بالأندلس وتغنيه بذكرياته الحبيبة في قصيدته الخالدة التي يقول فيها:
اختلاف النهار والليل ينسي
أذكرا لي الصبا وأيام أنسي
وصفا لي حلاوة من شباب
صورت من تصورات ومس
عصفت كالصبا اللعوب ومرت
سنة حلوة ولذة خلس
وسلا مصر هل سلا القلب عنها
أو أسَا جرحه الزمان المُؤسِّى
كلما مرت الليالي عليه
رق والعهد في الليالي تقسي
يا ابنة اليم ما أبوك بخيل
ما له مولعاً بمنع وحبس
أحرام على بلابله الدو
ح حلال للطير من كل جنس
كل أرض أحق بالأهل إلا
في خبيث من المذاهب رجس
* * *
وطني لو شغلت بالخلد عنه
نازعتني إليه في الخلد نفسي
وهفا بالفؤاد في سلسبيل
ظمأ للسواد من "عين شمس"
شهد الله لم يغب عن جفوني
شخصه ساعة ولم يخل حسّي
يصبح الفكر و ((المسلة)) ناد
يه و ((السرحة الزكية)) يمسي
أما نبل عاطفته نحو البلاد العربية جمعاء، فقد تجلى في مشاركته لكل قطر من أقطارها في أحداثه الكبرى، بقصائده النابضة بأنبل عواطف الأخوة والمواساة.. ويكفينا شاهداً على ذلك قصيدته التي حيا فيها جهاد سوريا وكفاحها في سبيل استقلالها وحريتها. (وهذه بعض أبياتها) وناهيك بما فيها من شعور فياض بوحدة هذه الأقطار ورغبة صادقة في تحقيق آمالها وأمانيها:
سلام من صبا بردى أرق
ودمع لا يكفكف يا دمشق
بني سورية اطرحوا الأماني
وألقوا عنكم الأحلام ألقوا
فمن خدع السياسة أن تغروا
بألقاب الإمارة وهي رق
وكم صيد (3) بدا لك من ذليل
كما مالت من المصلوب عنق (4)
فتوق الملك تحدث ثم تمضي
ولا يمضي لمختلفين فتق
نصحت ونحن مختلفون داراً
ولكن كلنا في الهم شرق
ويجمعنا إذا اختلفت بلاد
بيان غير مختلف ونطق
وقفتم بين موت أو حياة
فإن رمتم نعيم الدهر فاشقوا
وللأوطان في دم كل حر
يد سلفت ودين مستحق
ومن يسقي ويشرب بالمنايا
إذا الأحرار لم يُسْقَوا ويُسْقُوا؟
ولا يبني الممالكَ كالضحايا
ولا يدني الحقوقَ ولا يحق
ففي القتلى لأجيال حياة
وفي الأسرى فدى لهم وعتق
وللحرية الحمراء باب
بكل يد مضرجة يدق
أما تغني شوقي بأمجاد العروبة والإسلام فقد بلغ فيه الذروة التي تتطامن دونها الأعناق ولطالما هزت روائعه القلوب والألباب وأسكرتها بألحانها العذاب. وحسبنا هذه الأبيات مثالاً لذلك النمط العالي في التغني بهذه الأمجاد:
لما اعتلت دولة الإسلام واتسعت
مشت ممالكه في نورها التمم
وعلَّمت أمةً بالفقر نازلةً
رَعْيَ القياصر بعد الشَّاءِ والنعم
كم شيد المصلحون العاملون بها
في الشرق والغرب ملكاً باذخ العظم
للعلم والعدل والتمدين ما عزموا
من الأمور وما شادوا من الحزم
سرعان ما فتحوا الدنيا لملتهم
وأنهلوا الناس من سلسالها الشبم
ساروا عليها هداة الناس فهي بهم
إلى الفلاح طريق واضح العظم
لا يهدم الدهر ركناً شاد عدلهم
وحائط البغي إن تلمسه ينهدم
* * *
دع عنك روما وآثينا وما حوتا
كل اليواقيت في بغداد والتُّومَ (5)
وخل كسرى وإيواناً يدل به
هوى على أثر الإيوان والأيم
واترك رعمسيس كان الملك مظهره
في نهضة العدل لا في نهضة الهرم
دار الشرائع روما كل ما ذكرت
دار السلام لها ألقت يد السلم
ما ضارعتها بياناً عند ملتأم
ولا حكتها قضاء عند مختصم
ولا احتوت في طراز من قياصرها
على رشيد ومأمون ومعتصم
من الذين إذا سارت كتائبهم
تصرفوا بحدود الأرض والتخم
ويجلسون إلى علم ومعرفة
فلا يدانون في عقل ولا فهم
يطاطىء العلماء الهام إن يئسوا
من هيبة العلم لا من هيبة الحكم
ويمطرون فما بالأرض من محل
ولا بمن بات فوق الأرض من عدم
خلائف الله جلوا عن موازنة
فلا نقيسن أملاك الورى بهم
* * *
وأخيراً، أرجو أن أكون وفقت إلى الاستجابة لرغبة الصديق الكريم الأستاذ الأنصاري، كما أرجو لمجلته الغراء كل توفيق وتقدم.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1125  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 77 من 112
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج