شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عروة بن الزبير (1)
ليس غريباً أن يقترح عليّ الأستاذ الصديق صاحب مجلة ((المنهل)) الغراء أن أكتب لعدد المنهل الممتاز مقالاً عن عروة بن الزبير، فهو شخصية من تلك الشخصيات الإسلامية الجديرة بالدرس والتحليل، الخليقة بأن تكون قدوة لشبابنا في الرجولة والفضيلة، ومثالاً يحتذونه في العلم والأدب، ولكن الغريب في نظري تقييد الكتابة في هذا الموضوع بأربع صفحات من صحائف المنهل المعتاد. على أن للأستاذ الأنصاري عذره في هذا التحديد بالنسبة لهذا الجزء من المنهل، فهو يريد أن يجعل منه تحفة لقرائه تضم ألواناً زاهية من المعرفة الخالصة والأدب الرفيع، وطُرَفاً رائعة من تراث السلف وسير أبطالنا النابهين من دون أن يمل قراءه أو يثقل عليهم بالدراسات الطويلة والأبحاث المستفيضة؛ وهأنذا نزولاً على رغبته وإرادته أقدم للقراء الكرام صورة مجملة بقدر ما يسمح به المقام لهذه الشخصية الجليلة:
ينتمي عروة إلى الزبير بن العوام حواري الرسول صلوات الله عليه، وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وأخواه عبد الله ومصعب الزبيريان البطلان الشهيران، فهو إذاً سليل أسرة عريقة في المجد والعبقرية، فلا بدع إذا تجلت فيه خلال من تلك المجادة والألمعية، ولا غرابة في أن يصبح صاحب هذا النسب وتلك البيئة علماً من أعلام المعرفة ومثلاً من أمثلة الشرف والسؤدد وسيداً من سادات التابعين، وأحد فقهاء المدينة المعدودين، ممن كان يرجع إليهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسألونهم. وحسبه فضلاً على العلم وتراثه أن يكون من الذين وضعوا اللبنات الأولى في تدوين العلوم الإسلامية، فقد قال عنه الواقدي: ((كان فقيهاً عالماً حافظاً ثبتا حجة عالماً بالسير، وهو أول من صنف في المغازي))؛ وقال ابنه هشام: ((أحرق أبي يوم الحرة كتب فقه كانت له قال: فكان يقول بعد ذلك: لأن تكون عندي أحب إلي من أن يكون لي مثل أهلي ومالي))؛ وقد كان إلى جانب علمه ذلك من أروى الناس للشعر وقد رويت له مقطوعات من الشعر الرقيق سنذكر بعضها في سياقه من هذا الحديث.
ومن أبرز الأحداث في سيرة عروة مصيبته بقطع رجله وفقد ولده وتلقيه ذلك بصبر ورباطة جأش يندر مثلهما، ما جعل اسم عروة علماً من أعلام الشجاعة والرجولة الحق، ومثلاً عالياً في الصبر والإذعان للقضاء؛ فلقد حدثتنا كتب التاريخ أن عروة بن الزبير خرج من المدينة إلى دمشق ليجتمع بالوليد بن عبد الملك فوقعت الأكلة في رجله في واد قرب المدينة فذهب في وجهه ولم يثنه ذلك عن عزمه، فما وصل إلى دمشق إلا وقد أكلت نصف ساقه، فلما دخل علي الوليد جمع له الأطباء العارفين بذلك، فأجمعوا على أنه إن لم يقطعها أكلت رجله كلها وربما رقت إلى جسده فأكلته، فطابت نفس عروة بقطعها فقالوا له: ألا نسقيك مرقداً حتى يذهب عقلك فلا تحس بألم النشر؟ فقال: لا، والله ما كنت أظن أن أحداً يشرب شراباً أو يأكل شيئاً يذهب عقله، ولكن إن كنتم لا بد فاعلين فافعلوا ذلك وأنا في الصلاة فإني لا أحس بذلك ولا أشعر به، فنشروا رجله وهو قائم يصلي فما تضور ولا اختلج، فلما انصرف من الصلاة عزاه الوليد في رجله. فقال: اللَّهم لك الحمد كان لي أطراف أربعة فأخذت واحداً فلئن كنت قد أخذت فقد أبقيت، وإن كنت قد ابتليت فطالما عافيت. وكان عروة قد صحب معه في سفره هذا بعض أولاده من جملتهم ابنه محمد وكان أحبهم إليه، فدخل إسطبل الوليد فرفسته فرس فمات فأتوه فعزوه فيه، فقال: الحمد لله كانوا سبعة فأخذت منهم واحداً وأبقيت ستة، فلئن كنت قد ابتلت فلطالما عافيت، ولئن كنت قد أخذت فلطالما أعطيت. وقدم في تلك السنة قوم من بني عبس فيهم رجل ضرير فسأله الوليد عن عينيه، فقال: يا أمير المؤمنين: بت ليلة في بطن واد ولا أعلم عبسياً يزيد ماله على مالي، فطرقنا سيل فذهب بما كان لي من أهل وولد ومال غير بعير وصبي مولود. وكان البعير صعباً فندّ (شرد) فوضعت الصبي واتبعت البعير فلم أجاوز إلا قليلاً حتى سمعت صيحة ابني ورأسه في فم الذئب وهو يأكله فلحقت البعير لأحبسه فنفحني برجله على وجهي فحطمه وذهب بعيني فأصبحت لا مال لي ولا أهل ولا ولد ولا بصر. فقال الوليد: انطلقوا به إلى عروة ليعلم أن في الناس من هو أعظم منه بلاء، فكان له فيه عزاء أي عزاء. وكان من أحسن من عزاه إبراهيم بن محمد بن طلحة فقال له: ((والله ما بك حاجة إلى المشي ولا أرب في السعي، وقد تقدمك عضو من أعضائك وابن من أبنائك إلى الجنة، والكل تبع للبعض إن شاء الله تعالى وقد أبقى الله لنا منا ما كنا إليه فقراء وعنه غير أغنياء من علمك ورأيك، نفعك الله وإيانا به؛ والله ولي ثوابك والضمين بحسابك)). فلما قضى عروة حاجته من دمشق رجع إلى المدينة، فما سمعه أحد ذكر رجله ولا ولده، حتى إذا دخل وادي القرى وبلغ المكان الذي أصابته الأكلة فيه قال: "لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً" فلما دخل المدينة أتاه الناس يسلمون عليه ويعزونه في ولده ورجله، فبلغه أن بعض الناس قال: إنما أصابه هذا بذنب عظيم أحدثه، فأنشد عروة أبيات معن بن أوس:
لعمرك ما أهويت كفي لريبة
ولا حملتني نحو فاحشة رجلي
ولا قادني سمعي ولا بصري لها
ولا دلني رأيي عليها ولا عقلي
ولست بماش ما حييت لمنكر
من الأمر ما يمشي إلى مثله مثلي
ولا مؤثر نفسي على ذي قرابة
وأوثر ضيفي ما أقام على أهلي
وأعلم أني لم تصبني مصيبة
من الدهر إلا قد أصابت فتى قبلي
هذه صورة مصغرة لبعض نواحي حياة عروة، وهي على صغرها تعطينا صورة رائعة لكبر النفس وقوة الإرادة وجلال اليقين، وهناك نواح أخرى من حياته تتجلى فيها البشاشة ونضرة النعيم وتفيض بألوان من خلال النبل والمكارم نود أن لا نحرم القراء الإلمام بها، فلقد أتيح لعروة حظ من الثراء والنعمة غير يسير وكان ميالاً لإظهار هذه النعمة، محباً للعمارة والزراعة ينفق فيهما بسخاء وطيب نفس، ولم يكن كمعظم أثرياء هذا الزمان يضن على الفقراء والمحتاجين، بل كان من المحسنين الذين في أموالهم حقّ للسائل والمحروم، والأمثلة على ذلك كثر في حياته نكتفي بذكر مثالين منها فإنهما على إيجازهما يدلان أبلغ دلالة على ما تحلت به هذه النفس الكبيرة من كرم وأريحية تهتز لهما النفوس الكريمة نشوة وطرباً ويستثيران في القلوب النبيلة أسمى عواطف البر والإحسان. أما المثال الأول، فقد روت كتب الأدب والتاريخ أن عروة هذا كان يثلم حائطه (بستانه) في أيام الرطب فيدخل الناس فيأكلون ويحتملون دون أن يجشمهم ذل الطلب والاستئذان أو يجرعهم غصص الصد والحرمان وحسبك بهذا كرماً وأريحية. وأما المثال الآخر، فقد كان لعروة قصر في العقيق أنفق عليه من حرّ ماله ما يضن بمثله الموسرون حتى فاق غيره من القصور فخامة وبهاء وأصبح مرموقاً بعين الغبطة والإعجاب حتى من الخلفاء والأمراء، فإذا عروة يتصدق بهذا القصر المنيف وبما كان له من أرض وآبار على المسلمين فيضرب بذلك المثل الأعلى للمثرين في السخاء والأريحية، فما أحوج المسلمين في حاضرهم إلى أمثال عروة من أجواد السلف ليساعدوا على مطالب الإصلاح ويساهموا في إقامة صروح العزة القومية لأمتهم ووطنهم.
وعلى ذكر قصر عروة، يحسن بنا أن نعرج قليلاً على بعض ما سجله الشعر في وصف هذا القصر وما اتصل به من آبار، ولنبدأ بقول عروة نفسه فهو أحق الناس بوصفه وقديماً قيل: صاحب الدار أدرى بالذي فيها. قال عروة:
بنيناه فأحسنا بناه
بحمد الله في خير العقيق
تراهم ينظرون إليه شزراً
يلوح لهم على وضح الطريق
فساء الكاشحين وكان غيظاً
لأعدائي وسر به صديق
يراه كل مرتفق وسارٍ
ومعتمر إلى البيت العتيق
وفيه يقول بعض الشعراء:
حبذا القصر ذو الظلال وذو البئر
ببطن العقيق ذات السقاة
ماء مزن لم يبغ عروة فيها
غير تقوى الإله في المفظعات
بمكان من العقيق أنيس
بارد الظل طيب الغدوات
أما بئر عروة، فقد سارت بذكرها الركبان وضربت بعذوبة مائها الأمثال، قال الزبير بن بكار: رأيت الخارج من المدينة إلى مكة وغيرها ممن يمر بالعقيق يخففون من الماء حتى يتزودوه من بئر عروة، وإذا قدموا منها بماء يقدمون به على أهلهم يشربونه في منازلهم عند مقدمهم، قال: ورأيت أبي يأمر به فيغلى (أي يعقم كما تقضي به قواعد الصحة) ثم يجعل في القوارير ثم يهديه إلى أمير المؤمنين هارون في الرقة. وفي بئر عروة يقول السري بن عبد الرحمن الأنصاري.
كفنوني إن مت في درع أروى
واستقوا لي من بئر عروة مائي
سخنة في الشتاء باردة في الصيـ
ـف سراج في الليلة الظلماء
نكتفي بهذا القدر من الحديث عن عروة وآثاره خوفاً من الإطالة والخروج على شرط الأربع الصفحات. ولعلَّه من المناسب أن نختم هذا المقال بكلمة عن تاريخ ولادة عروة ووفاته وكلمة أخرى عن حبه للعلم وطموحه إليه منذ صباه. اختلف في السنة التي ولد فيها عروة والسنة التي توفي فيها، وقد رجح ابن كثير في تاريخه أنه ولد في سنة ثلاث وعشرين وتوفي سنة أربع وتسعين (من الهجرة). وكانت وفاته في قرية قرب المدينة يقال لها ((فُرع)) ذات نخيل ومياه.
وقد روى ابن خلكان عن العتبي: أن المسجد الحرام جمع بين عبد الملك بن مروان وعبد الله بن الزبير وأخويه مصعب وعروة المذكور أيام تآلفهم بعهد معاوية ابن أبي سفيان. فقال بعضهم هلم فلنتمنه: فقال عبد الله بن الزبير أمنيتي، أني أملك الحرمين وأنال الخلافة، وقال مصعب: أمنيتي أن أملك العراقين وأجمع بين عقيلتي قريش، سكينة بنت الحسين، وعائشة بنت طلحة، وقال عبد الملك بن مروان: أمنيتي أن أملك الأرض كلها وأخلف معاوية، فقال عروة: لست في شيء مما أنتم فيه، أمنيتي الزهد في الدنيا والفوز بالجنة في الآخرة، وأن أكون ممن يروى عنه هذا العلم. قال: فصرف الدهر من صرفه إلى أن بلغ كل واحد منهم إلى ما أمله. وكان عبد الملك لذلك يقول: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى عروة ابن الزبير.
وهكذا سمت بعروة همته إلى العلم فكان علماً من أعلامه وسمت همم زملائه إلى الملك والسيادة فبلغوا من ذلك الغاية. ورحم الله المتنبي إذ يقول:
وإذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجسام
 
طباعة

تعليق

 القراءات :608  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 66 من 112
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

يت الفنانين التشكيليين بجدة

الذي لعب دوراً في خارطة العمل الإبداعي، وشجع كثيراً من المواهب الفنية.