شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الهروب من الحياة (4)
الهروب من الحياة تفكيك لها، والحياة عندما توجهك بفطرتها تهيىء لك المجال لاستكمال أسبابها وقد تهيىء لك هذا المجال بثمن زهيد أو بدون ثمن مطلقاً ولنضرب مثلاً: شاب له اتجاه فطري للهندسة الميكانيكية، والده أيضاً مهندس ميكانيكي بارع صاحب ثروة كبيرة وله رغبة عارمة أن ينشأ ابنه ميكانيكياً بارعاً ويكسب صيت أبيه ويحتل مركزه، إن الحياة في هذه الحالة قد فسحت المجال للغريزة الفطرية ولم تتقاض من صاحبها أي ثمن ليستسيغ صاحبها هوايته وسيصبح مهندساً مشهوراً وتدوي باسمه الدنيا دون أي جهد أو عناء يذكر.
ومثال آخر، شاب مفطور الأدب والده ميكانيكي بارع وثري مشهور يحتقر مهنة الأدب ويكره الاهتمام بها والتوجه إليها - وقد عزم على توجيه ابنه توجيهاً ميكانيكياً وصرفه عن وجهته الأدبية ويوجهه قائلاً اسمع! كن عاقلاً واختر مهنة أبيك، إنك إذا فعلت فسأضع كل إمكانياتي تحت تصرفك. وإذا كنت مجنوناً واخترت مهنة الأدب فسأنفض يدي منك وستجد مني كل معارضة.
إن الحياة التي وهبتك فطرة الأدب ستهيىء لك المجال لإشباع رغبتها، بل إن المجال للأدباء في هذا العصر لأوسع كثيراً مما كان عليه من قبل - غير أن الثمن في هذه الحالة فادح جداً مما يجعل الشاب يتردد كثيراً. فإشباع رغبة فطرته الأدبية سيكلفه سخط والده وبالتالي طمأنينته وراحته والثروة والجاه العريض الذي يتمتع به في كنف والده، وقد يشمل ذلك أيضاً ضياع مستقبله في الجاه والمال والزوجة التي يتطلع إليها - إنه سوف يفقد كل العناصر التي تهيىء ما اصطلح الناس على تسميته بالسعادة.
وطبعاً فإنه من المحتمل جداً أن هذا استجاب لنداء فطرته وأهمل رغبة والده وتابع دراسة الأدب ونجح، فإنه سيسترد كل ما دفع من الثمن وقد يسترد أكثر مما دفع فيخلد اسمه واسم عائلته كأديب عالمي في سجل التاريخ. ومع أن نسبة النجاح 99% فإن الفشل لا يزال محتملاً وهذا ما يجعل إهمال الولد لرغبة أبيه والتوجه لدراسة الأدب مغامرة وتفريطاً وتضييع ما في اليد في طلب ما في الغيب. ولنفرض أن صاحبنا الشاب كان ابناً مطيعاً ومتبصراً ولم يكن إحساسه للاستجابة لنداء فطرته قد بلغ حد الكمال، فرفض أن يغامر بحاضره المحقق لمستقبل مجهول، مع اعترافه بتفوق نسبة النجاح لو غامر فضحى به ورضخ لمشيئة والده وحول اتجاهه لدراسة الميكانيك وبجدّه وذكائه ومثابرته وحسن نواياه تحصل على أعلى درجات في فن الهندسة الميكانيكية وأصبح العضد المساعد لأبيه ثم خليفته في جاهه وماله وعمله، واكتسب سمعة حسنة بين رجاله، فازداد إنتاج ورشه وبلغ بها ذروة الكمال وتوفق في زواجه وأنجب ذرية طيبة فأصبح مثالاً للشاب الناجح يتمنى كل أب أن يحتذيه ابنه وأصبح كفاحه وإخلاصه للواجب وحبه ومساعدته للآخرين ونظراته الإنسانية العالية حديث المجتمع ومفخرة الأصدقاء.
إنه قد عوض ما أضاعه عندما ضحى بإهماله نداء الفطرة المنبثق من أعماقه فتحول من دراسة الأدب التي كان يستحثها إليه نداء ضميره إلى دراسة الميكانيك استجابة لرغبة أبيه.
ومع هذا كله، فإني أقول: إذا كان ميله للأدب ذا فطرة سليمة نابعة من أعماق نفسه مسيطرة على كل شعوره فإنه مع هذا النجاح المطرد سيشعر دائماً بالحرمان وأن هذا الحرمان ليتجسم في نفسه وأعماق قلبه كلما قرأ لأديب ناجح أو أتيحت له فرصة الاجتماع بأديب ناجح. بل إنه ليشعر بجسامة الحرمان حتى عندما يتحدث الناس عن أديب لم تتح له فرصة الظهور فأقدم في ساعات يأسه على الانتحار ويجد في نفسه ألم الحرمان أكبر عندما يقرأ لأديب يتأثر بآرائه وأفكاره. إنه يدرك في تلك الساعة أنه باختياره هندسة الميكانيك وإهماله فطرته الأدبية قد هرب من الحياة واقترف الذنب الكبير في حق الحياة ويرى عندئذ أن كل ما تحصل عليه من مال وجاه وما اعتز به من أبهة وفخفخة لم يكن في الحقيقة إلا وسيلة مزخرفة لمغالطة نفسه والانحراف عن أداء رسالته الحقيقية التي خلق من أجلها.
وعندئذ يدرك أن الطريق الناعم الذي اختاره لم يكن في الحقيقة سوى الطريق الوعر الذي أوصله إلى الحسرة والندامة التي شملته، وهو في نهاية الشوط ويدرك أن الطريق الذي بدا له وعراً شائكاً ولم يتسلح بالقوة والشجاعة لسلوكه هو الطريق الذي كان سيصل به إلى السعادة والرضا في آخر العمر لو سلكه.
إن ضميره الآن قد تيقظ وهو يسمع تأنيبه بقوة لم يستطع مقاومتها وتحمل وخزها، ولكن قد فات الأوان وسوف لا تنفع جميع المسكنات في إخماد صوت التأنيب وتخفيف ألم الوخز - إنها غلطة العمر فحذار منها.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :559  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 89 من 124
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور عبد الله بن أحمد الفيفي

الشاعر والأديب والناقد, عضو مجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود، له أكثر من 14 مؤلفاً في الشعر والنقد والأدب.