شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مطار جدة من أهم مطارات الشرق العربي
لعلَّ الصور التي تمر بك وأنت تأخذ طريقك إلى إجازة قصيرة لتريح أعصابك وتهيىء ذهنك لساعة استجمام وهدوء أكثر إغراء للقارىء لكثرة ألوانها وتجدد مناظرها، ولعلَّ أكثر تلك الصور عمقاً وجاذبية تلك التي تتصل بمعاملة الناس والموظفين الذين تحتم عليك ظروف سفرك أن تمر بهم. أما القارىء الذي لم تمر به هذه التجربة ولم يستمتع بعد بمتعة الإجازة في الخارج، فإنه سيجد درساً وتجربة قد يستفيد منها إذا قدر له يوماً أن يأخذ طريقه إلى إجازة راحة واستجمام.
كان أول ما اهتممت به عندما عزمت السفر إلى بيروت السؤال عن شركات الطائرات التي تضمن سفراً مريحاً ومواعيد مضبوطة ومعاملة أحسن، وقال الصديق الذي كنت أتحدث معه إن كل هذا مضمون في شركة طيران الشرق الأوسط. وأخذني صديقي دون أن يعطيني مهلة إلى مكتب الشركة وحجزنا على أن يكون الحضور للمطار الساعة 30،12 عربي صباحاً وأن يكون إحضار العفش الساعة الحادية عشرة مساءً من ذلك اليوم، وأحضرت أمتعتي مساءً في الوقت الذي حدده الموظف وكان غير الذي قابلناه صباحاً. فسلمنا عليه وبدأ يسأل وبدأنا نجيب وكأننا لم نكن قد أدينا هذا الواجب للموظف الأول في الصباح فتغير الميعاد من 12،30 إلى 12 وقلت إن تحديد الموعد عندما راجعناكم صباحاً كان غيره الآن، فلم يعجب الموظف هذا الاعتراض وبدأ يتفلسف وفي لهجته تذمر فخرجت مهرولاً قبل أن ترتفع درجة حرارة هذا التذمر - وقلت في نفسي إنها معاملة طيبة على كل حال؟ فقد لا تجد في غير هذه الشركة من يجيبك عن سؤال بعد أن يطمئن إلى أنه قص التذكرة!؟ وصلت المطار الساعة 12 وطلب مني الموظف أن أملأ إقراراً وأمضيه ففهمت أنها صورة جديدة اخترعتها إدارة جمرك المطار لزيادة التعقيد، فإنك لم تجد شيئاً مثل هذا وأنت مسافر فيما يتعلق بالجمرك في جميع مطارات العالم ولم يسبق لي أن رأيت مثل هذا الإقرار في جماركنا أنك في هذا التقرير ستعترف بأنك ستذعن للتفتيش الجمركي وعليك أن تعيد بيدك الكريمة جميع العفش الذي يعن لموظف الجمرك إخراجه من حقيبتك لفضه وتفتيشه، وأن تقرر أنك لم تحمل معك شيئاً من الممنوعات. سألت نفسي ما هي يا ترى الممنوعات التي يجب أن لا أحملها؟ وما الذي أضعف سلطة نظام الجمارك الخاص بتفتيش الركاب حتى اضطرت إدارة الجمارك إلى طبع مثل هذا الإقرار؟ وهل هذا الإقرار يمنع المهربين الممتهنين من ممارسة هواياتهم؟ وسؤالات كثيرة ترددت في نفسي لم أستحسن كتابتها!
إنها فيما أعتقد صور كلامية خطرت لأحد الرؤساء فأمر بها ونفذت دون بحث للفائدة المرجوة منها، ودون التفات إلى التعقيد الذي يزيد في حيرة المسافر ومشاكله مع كثير من الموظفين الذين لم توفق أذواقهم لفهم النظام وروحه مع الذين يتخذون من مثل هذه الوسائل سبلاً للإضرار بالناس!؟
ولو سألت واضع هذا الإقرار هل كان النظام قاصراً فأكمله بهذا القرار أم كان في الإقرار تسهيل وتنظيم لمن تفطن لميزاته الدول الأخرى؟ إنك لو وجهت هذا السؤال لما وجدت من ملك الجواب. فالمعروف أن موظف الحكومة يتمتع بسلطة يستمدها من الأنظمة والقوانين وإنما يلجأ لمثل هذه الإقرارات أصحاب الشركات الأهلية ومن جرى مجراهم ليجعلوها مستنداً لهم أمام الحكومة عند اللزوم.
وأخذت الإقرار بعد أن أمضيته وتوجهت به حسب إشارة الموظف إلى ساحة الجمرك، ولكن حارس الباب منعني من الدخول وأفهمته أني مسافرٍ وقدمت له الإقرار، ولكنه هز رأسه ممعناً في الأنفة. وسلمت أمري إلى الله ووقفت ولكن صديقاً هو الأستاذ عزيز ضياء كان يحمل نفس الإقرار وجاء بإقراره ودخل وشعرت بأن كرامتي تجرح فخرجت عن صوابي وأردت أن ادخل قسراً رغم ما أعرف من عدم إمكانية ذلك، ولكنه جنون الحماقة وثورة الكرامة، وأسعفني الله بالأخ أحمد شاهين وأنه لصديق قديم ومهد لي الدخول ودخلت، ولكني في ثورتي خرجت عن أدب الحديث فرميت الحارس بكلمات كان يجب أن يتأثر لها ولكنه لم يفعل، فقلت يا رب متى ترتفع أذواق هؤلاء الناس فيحسون بكرامتهم؟ فمن يشعر بكرامته يقدر كرامة الآخرين. فإن مطار جدة من أهم مطارات الشرق العربي فيجب أن يكون موظفوه خير من يمثلنا أمام رواده من جميع الأقطار. والعجيب أني بعد كل هذه المشقة عرضت حقيبتي على الموظف الجمركي فهز كتفيه وانصرف وهو يقول انتظر انتظر. وعدت أدراجي بعد أن سلمت مفتاح حقيبتي لأحد الحمال اجتناباً لكل هذا التهزيء.
وتوجهت لموظف شركة الشرق الأوسط وقلت يا أخي ما دام الجمرك ليس لديه استعداد لتفتيش أمتعة الركاب لم طلبتم منا الذهاب للتفتيش؟!.
إنكم طلبتم الحضور الساعة 12 وها هي الساعة تسير نحو الواحدة والنصف ونحن في الانتظار ألم يقولوا إنكم منظمون دقيقون في مواعيدكم فمن أين جاءت هذه الفوضى؟ لمَ لا تعينون الوقت بالتدقيق لتفتيش أمتعة الركاب بالتفاهم مع موظف الجمرك؟ لم لا تحافظون على كرامة المسافرين على طائراتكم؟ أليس من امتهان الكرامة أن تطلبوا من الركاب الدخول إلى ساحة الجمرك لتفتيش المتاع فيمنعه الحراس وإذا دخل امتنع الموظف عن التفتيش! إنكم بمعاملتكم هذه تتسببون في إيقاف عملائكم موقف الإهانة وتجرحون كراماتهم.. ومط الموظف شفتيه وقال في لطف وأدب اصطنعهما: إن بعض موظفي الجمرك يعاكسوننا فليست هناك تعليمات تمنع تفتيش الأمتعة حال وصولها إلى ساحة الجمرك، ونحن حريصون أن يتم ذلك قبل وصول الطائرة حرصاً على تسهيل العمل والتسهيل للركاب. فقلت ولماذا لم تعرفوا الأمر؟ فقال بلهجته اللبنانية ما بنحسن فإذا فعلنا تتحسن الأيام ثم تعود أسوأ مما كان لا نريد المتاعب.
إنه فصل عجيب أيها القارىء.
حلقت بنا الطائرة فوق سماء جدة وما زلت أحس بكرب شديد، وقلت أحدث نفسي: يعني الناس في كل الدنيا ارتقى ذوقها وعرفت كيف تتعامل وكيف تأخذ وتعطي بلباقة وكياسة ونحن هنا في هذا البلد المقدس الذي تؤمه الناس من كل نوع ومن كل صوب ما نزال حتى الآن كما كنا قبل عشرين سنة. لم نستطع أن نفرق بين واجب الوظيفة وبين واجب المواطن، بل إن فينا من يفكر أن الحكومة فريق يجب أن يسيطر، والمواطن هو الفريق الثاني الذي يجب أن يكون تحت السيطرة والموظف هو الذي يمثل هذه السيطرة فيجب أن يظهرها بشكل أوامر حتى ولو كانت في صورة (إمارة أباريقي!) فإن لم يفعل فإنه يشعر في أعماق نفسه بأنه فقد لذة الوظيفة ونفخة الأمر والنهي.
وسرحت أفكر فيما لمسته من الذوق العالي والأدب الجم الذي يعامل به المرء عندما تطأ قدمه أي بلد يتوجه إليه. فما يكاد باب الطائرة يفتح حتى تقابلك الأوجه الباشة وقد ارتسمت عليها ابتسامات عريضة وارتفعت الأيدي تلوح لك بالسلام وتتلقاك بالترحيب ويتحدث إليك مأمور الجوازات وهو يؤشر على جوازك حديث الود ويشير إليك بلطف إلى مأمور الأمن ويؤدي هذا واجبه في لحظة ويشير إليك لتتوجه إلى منطقة الجمرك فيتقدم إليك مأمور الجمرك ليطلب جوازك ليعرف منه شخصيتك فيعاملك المعاملة التي تستحقها ويكرمك الإكرام الذي هو له أهل. إنه ليحز في نفسك وأنت ترسم هذه الصورة لتطابق بها هذه الغطرسة وهذا الغرور وهذا الإهمال في ربوع وطنك.
ومسكت القلم وبدأت أكتب، فقد قرأت وصفة للتخفيف عن الضيق لكاتب فيلسوف قال ((إذا ضاق صدرك بأمر وضقت ذرعاً به فخذ ورقة وقلماً وخط كل ما يجول بخاطرك عن هذا الضيق، فإنك ستجد عندما تنتهي من تدوين تلك الخواطر أنك قد ارتحت وخف عنك الكرب)). وقد فعلت ورفعت رأسي إلى الأفق خلال نافذة الطائرة لأقرأ على صفحاته تلك الصورة الرائعة التي خطها عليها الإنسان بعقله الجبار ورأيه وصبره على العمل، فتخيلت ذلك العالم العربي الذي كان أول شخص حاول أن يغزو الفضاء فصنع لنفسه جناحين ارتفع بهما بضعة اقدام ثم هوى، ثم جاء بعده الإخوان الفرنسيان فحققا ما أهمله العرب في تتبع اختراع عالمهم فجددا محاولة العالم العربي ووصلا بها إلى تطور أكمل، وتسابق رجالات العلم في أوروبا حتى بلغوا بالاختراع أقصى مداه.
ظننت المضيفة أول الأمر..
أصبح أبناء هذا العصر يتنقلون على بساط الريح من قارة إلى قارة في ساعات هي لمحات خاطفة في عرف أبناء القرون الأولى وتحققت معجزة القرن العشرين قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وقطع علي سلسلة تفكيري صوت طفل يبكي خلف مقعدي، فقد كانت أمه تجهد لإسكاته وكانت أخته الصغيرة تضاعف بشقاوتها جهد الأم، وطرقت أذني خطوات رشيقة تتبعها نظري ليرى المضيفة الرشيقة تتبختر بين الركاب، وظننتها أول الأمر تخف لتهتم بأمر هذه الأم التي أجهدها طفلاها بشقاوتهما، ولكنها تخطتها إلى شلة أوروبية من الركاب وصرفت جهدها في التلطف بهم وإجابة طلباتهم، وركزت هذه اللفتة تفكيري على متابعة معاملة المضيفة لركابها واشمأزت نفسي من التمييز الواضح في معاملتها بين الركاب العرب والركاب الأوروبيين، وتساءلت في نفسي ألسنا في طائرات الشرق الأوسط؟ أو أليست هذه المضيفة عربية؟ فلماذا إذن هذا الاهتمام وهذا الانصراف! إنها نقطة الضعف في النفوس الشرقية التي لم تؤمن بعد في أعماقها بقيمتها وحقها.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :652  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 41 من 124
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ عزيز ضياء

[الجزء الثالث - النثر - مع الحياة ومنها: 2005]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج