شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
هل يخفق الأديب في الحياة؟ ولماذا؟
رغبتْ إليَّ مجلة ((المنهل)) الغراء أن أكتب لها كلمة تحت هذا العنوان والعنوان - كما يرى القارىء الكريم - يحكم على الأديب المسكين بالإخفاق في الحياة، ونحن إذا أردنا أن نتفلسف مع ((مجلة المنهل الغراء)) لقلنا إن إدارة مجلة المنهل كانت تقصر نظرها فيما حولها، حين قدر لها أن تختار هذا العنوان. فجاء منتزعاً من هذا المْاحَوْلَ؛ ومنطبقاً تمام الانطباق على من نسميهم الأدباء في حجازنا المقدس.
وذلك في نظري ليس سببه الأدب، كما يتوهم لأول مرة من معنى هذا العنوان بل السبب الحقيقي - كما أظن - هو هذا الغلط في التسمية، أو التساهل فيها، فلو أردت أن تسأل هؤلاء الذين يمنحون لفظ الأديب عن علة هذا المنح وسببه لأجابوك أن هذا الأديب قد كتب في الجرائد والمجلات واستطاع أن يجذب النظر إليه، بل هو سوف يستطيع أن ينال مركزاً ممتازاً من الوظائف التي يحوم حولها الناس. إذاً فالأدب في الحجاز هو الكتابة في الجرائد والمجلات وهي محاولة لجلب نظر الناس، ولنيل المركز الممتاز الذي يحوم حوله الناس، وبعبارة مختصرة: الأدب في الحجاز هو إعلان عن النفس ووسيلة إلى الغرض، لذلك نرى كثيراً من الشباب الطموح يبدأ حياته بمطالعة الصحف والمجلات ثم بكتابة المقالات وصوغ القصائد؛ حتى إذا ما ساعده الحظ، ونال ما كان يمني به النفس، حمد المسرى واقتنع بأن مهمته الأدبية قد انتهى أمرها؛ ونسي الأدب؛ وتسلى عن الانتساب إليه، وإن لم يساعده هذا الحظ فهو أديب من يوم أن انتسب إلى الأدب إلى يوم يموت! وبضاعته فيه هي هي، لا تزيد ولا تنقص من يوم أن انتسب إلى الأدب إلي يوم يموت؛ ثم هو ساخط على الأدب؛ ومن دله عليه..
ونرى كثيراً من الشباب الذين يتوهمون أن النزول في ميدان العمل؛ فيه نزول عن المركز اللائق الذي صورته في أفخاخهم البيئة والتقاليد، يلجأون إلى مطالعة الجرائد والمجلات ويحاولون كتابة المقالات ليمنحوا لفظ الأديب، فيتلذذون بالوهم الكاذب الذي يتصورونه في لفظ الأديب، حتى أصبح لفظ الأدب ملجأ للكسالى والعاطلين، كما أصبح لفظ الطلبة في بعض المساجد والتكايا ستاراً للعاطلين الذين نبذتهم الحياة لضعف تربيتهم، ووهن في أخلاقهم؛ فهم من الطلبة من يوم ينتسبون إلى الحلقات إلى يوم يموتون.
فإذا صحت فلسفتي مع ((مجلتنا الغراء)) وكانت تسألني عن سبب إخفاق هذا الأديب الذي وصفت، فإني مجيبها بأن سبب إخفاقه هو هذا التفسير المغلوط للأدب، والاعتقاد بأنه وسيلة لا غاية، يلتجىء إليها الشباب لتكون طريقاً إلى الغرض الذي يطمح إليه.
ثم إذا دام تفسير الأدب عند شباب الحجاز على هذا النحو؛ فإن الحجاز سوف يفقد الأدب إلى زمن لا ندري مداه. ولعلي بعد هذا مطالب بتعريف الأديب الصحيح، وهل هو مخفق في هذه الحياة أم ناجح؟
لا أشك بل لا يشك كل مطلع على الأدب القديم والحديث؛ أن الأدباء في كل زمان ومكان هم من أرقى طبقات الناس، ومن أحظاها بالتمتع بالشهرة والخلود، فالخيّام وأبو العلاء وكارليل وغيرهم من الأدباء المتقدمين مثل الجاحظ وجوته وابن الرومي وشكسبير قد خلدوا على مر الدهور؛ ثم إنه مما لا شك فيه أن أكثرهم نال من الشهرة في حياته ما لم يستطع معاصر لهم أن يناله، ومن المال ما يسمح لهم أن يعيشوا عيشة رغد وهناء، أما ما نال بعضهم، وهم الأقل، من الضغط في حياتهم فذلك ليس سببه الأدب، ولكن سببه المنافسة الساقطة في بعض الأحيان، والجور الغاشم من الحكام في أحيان أخرى، مما كان لا يخلو منه زمان من تلك الأزمان، ومع ذلك، فإن الأدب هو الغالب في كل الأحيان.. وأدباء عصرنا اليوم أكثر تقريراً وعناية من الناس بطبيعة الحال التي اقتضاها توسع نطاق العلم، وكثرة القراء للآثار الأدبية التي ينتهجها الأدباء، فبرناردشو وإميل لودفيج وطاغور وإقبال والزيات والمازني وأحمد أمين والعقاد وهيكل وطه حسين وغيرهم من أدباء هذا الجيل، يتمتعون بمكانة قل أن يحلم بها حتى الملوك، ويضاف إلى ذلك غناء مادي يرفعهم كثيراً عن غيرهم من الناس، وهذا كما ترى لا يمكن أن يسمى إخفاقاً إذا لم يرد بالإخفاق كنز الذهب واقتناء القصور.
على أن الوصول إلى درجة أديب ليس بالأمر السهل، فهو يستدعي زمناً طويلاً ودراسة عميقة متسعة أطول وأكثر مما يستدعيه أي فن أو علم آخر؛ ولذا فقد فرض المتقدمون على الأديب أن يكون ملماً بشتى العلوم، متمكناً من فنون القول، قابضاً على ناصية اللغة، وذلك في زمن كانت فيه نظريات العلوم محدودة، ورجاله قليلين، يسهل حصرهم ولا يصعب سبقهم. أما اليوم وقد انتشرت العلوم والفنون وأصبح من المحتم على عوام الناس أن يكونوا ملمين بما تقتضيه واجبات حاجياتهم، ليعيشوا مع الناس، فما بالك بالجهد الذي يتطلبه الأديب الذي هو طالب أن يفوق درجة العوام في العلوم ونواحي التفكير، هذا إذا تمشينا مع هذا التعريف القديم، أما إذا أراد القراء أن يعرفوا تعريفي الخاص فإني أسوقه على هذا النحو:
((الأديب هو الإنسان الممتاز الذي هيأته الفطرة للبحث والتنقيب ووهبته جلداً على المدوامة والاستمرار في استجلاء صفحة الكون منذ نشأة التاريخ، ثم هو بعد ذلك قد كرس جهوده الخاصة في دراسة أحوال أمته الاجتماعية، والسياسية والاقتصادية منذ نشأة تاريخ هذه الأمة إلى اليوم الذي هو فيه، وكون لنفسه رأياً شخصياً خاصاً عن كل عصر من عصور هذا التاريخ، وبذلك يكون في نفسه ملكة يقتدر بها على عرض حياة جيله الذي عاش فيه بصورة صحيحة صادقة على الأجيال التي تأتي بعده، ويكون في ذلك محافظاً على شخصيته وطابعه الخاص. ولا بد للأديب الممتاز أن يكون عارفاً بتاريخ أمة أخرى عريقة في الحضارة والتمدن ليستطيع أن يوازن بين حياة أمته وحياتها ويستظهر مواطن الضعف فيها، وهذا بالطبع يستلزم إتقانه للغة تلك الأمة كل الإتقان)). وهذه نهاية لا يصلها المجد إلا وقد اكتهل أو كاد، وكثيراً ما يدركه الفناء ولم يدرك هذه الغاية.
ولذلك كان عدد الأدباء في كل زمان ومكان نادراً بل لا مناسبة له مع العلماء والفنانين الآخرين؛ فعدد الأدباء في مصر في الوقت الحاضر - رغم هذا الإنتاج الضخم الذي تموج به مطابع مصر، ورغم هذه الجرائد والمجلات التي لا تدخل تحت حصر - لا يتجاوز الستة أو السبعة، كما يقول الأستاذ الزيات في مجلة الرسالة الغراء عدد 206 ثم هو متشكك فيمن يخلفهم إذا امتدت إليهم يد المنية لا سمح الله، وكذلك قل في عدد الأدباء في كل أمة من الأمم. وطبقاً لهذه القاعدة لو أردنا أن نستعرض حياة أديب من هؤلاء الأدباء الذين جرى ذكرهم في هذا المقال، لتحقق القارىء من أن جهد الأديب جهد لا يدخل في طاقة العاديين من البشر، ولا بد له من ميزات تخصه وترتفع به حتى يتمكن من أداء الرسالة التي ينتدب لها في هذه الحياة، فمؤرخو كارليل يقولون إنه بعد تخرجه في جامعة ادينبره امتهن التعلم مدة، ثم تركه إلى قرية نائية انكب فيها على الدراسة سنين طويلة كادت تودي بحياته، ولولا رأفة زوجته وسهرها لقضى، وحرم العالم ذلك الأديب الكبير. وكذلك قل عن كل أولئك الأدباء في الكد والتحصيل السالفين منهم والمعاصرين.
على أنه مما لا شك فيه أن الأديب يتكون في الأمة الحية في نصف المدة التي يتكون فيها الأديب في الأمة المتأخرة، ذلك أن الأديب إنما يكتسب قوته وحيويته من الرأي العام وتقديره ومن عطف عظماء الدولة ورجالها. ومن البديهي أن الرأي العام متى كان مستنيراً ورجال الدولة متى كانوا من الذين يقدرون الرسالات الأدبية، ويعرفون مدى رفعها لمكانة الأمة التاريخية والاجتماعية، شجعوا الأفراد الذين يتوسمون فيهم فطرة الأديب؛ وسهلوا لهم سبل العيش والراحة، ليطمئنوا ويقوموا بدراساتهم في جو هادىء. والأمم المتأخرة تحارب المواهب في الأديب وتقتل فيه النشأة الحرة وتعرقل سبيله إلى المطالعة والدروس، ولذلك قلما يُعرف الأديب في الأمة المتأخرة؛ وإذا وجد رغم كل تلك العوائق، فإنه بلا شك آخذ بيد أمته إلى سبيل التقدم، ومورثها صفحة بيضاء في صفحات تاريخها.
وبعد، فهذه نظرات مستعجلة وآراء مبعثرة ما كنت لأرضى بتقديمها للقراء في مثل هذا البحث المستعجل لولا إصرار ((مجلة المنهل الغراء)) على إجابتها في الكتابة في عددها الممتاز، وفقها الله وسدد خطاها.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :650  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 32 من 124
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.